استوعب المصريون خلال العصر المملوكي المرضى النفسيين، فوفروا لهم سُبُل العلاج داخل بيمارستانات أُنشئت خصيصى لهم، بل عاملوا بعض المصابين بأنواع المرض النفسي على أنهم من أولياء الله الصالحين، أودع الله فيهم أسرار عبادته.  

تذكر الدكتورة ياسمين زوسر الدالي في كتابها «تاريخ الجنون والمجانين في مصر / 1827 – 1912م»، أن مؤرخي العصر العثماني أرجعوا في كتبهم أمراض اختلال العقل والجنون إلى ارتفاع درجة الحرارة في مصر وطبيعة أرضها الصحراوية التي جعلت بعض سكانها سوداويين (مجانين).

أما العلَّامة الطبيب داود الأنطاكي (ت 1599م) فقد عكف على دراسة الأمراض الشائعة في عصره، وأضاف إلى هذه الأسباب «الهموم»، مُعرِّفًا إياها بأنها إشغال النفس بما ستلقاه من مكروه، ما يؤدي إلى غليان الدم، ومن ثم إفساد الحواس، وأوضح أن تراكم الهموم دون مخرج لها يقتل صاحبها، وأقل ما تحدثه في البدن سرعة الشيب والهرم والهزال والنسيان واختلال العقل، حسبما ذكر في كتابه «تذكرة الألباب والجامع العجب العجاب».

ويضاف إلى ذلك إقبال المصريين – من الأغنياء والفقراء – على تعاطي المخدرات بأشكالها المختلفة، والتي كان مسموحًا ببيعها في محال خاصة بها، ويطلق على بائعها «المعجواني»، واعتقد المصريون أنها سبب السعادة والراحة، بالإضافة إلى إقبال البعض على شرب الخمور، حيث يؤدي كل ذلك إلى تسلط الأوهام والوساوس وضعف الذاكرة وتأخر القدرة على التفكير المنطقي المنظم.

وهناك سبب آخر تمثل في ما كان يثيره أصحاب السلطة والنفوذ في مصر، خاصة البكوات المماليك، من الرعب والفزع لدى الفقراء، ما يؤدي أحيانًا إلى ذهاب العقل، وخير مثال على ذلك اتهام علي بك الكبير (1728- 1773م) لأحد الشباب بمدينة دمنهور بتهريب السلاح للعربان فأمر بقطع رأسه، لكنه اكتشف الحقيقة في اللحظة الأخيرة وأطلق سراحه قبل تنفيذ الحُكم عليه، ولكن ترتب على الرعب الذي عاش فيه هذا الشاب فقدانه لصوابه.

لكن ذلك لم يمنع من الزج بأحد الأشخاص في بيمارستان المجانين طمعًا في ماله، أو انتقامًا منه لسبب ما، فقد شاهد «ديجنت» كبير الأطباء في الحملة الفرنسية على مصر عند زيارته للبيمارستان المنصوري فتاة جميلة ترسف في أغلالها، وهي تكاد تكون عارية إلا من ملابس بالية ممزقة، وعند اقترابه منها فرحت برؤيته، وحاولت محادثته بعصبية شديدة، لكنه لم يفهم منها شيئًا لاختلاف لغته الفرنسية عن لغتها العربية، غير أنه أشفق عليها وتتبع حالتها، وتبين له أن بعض الأشرار زجوا بها في المورستان ظلمًا وكيدًا، وأخرجها منه.

الأولياء المجانين

كان العديد من المعتوهين يجوبون الشوارع والأسواق ويصيحون ويصرخون، وتعتقد فيهم العامة الولاية. وتطرق إليهم المستشرقون الأجانب الذين عاشوا في مصر وكتبوا عنها ملاحظاتهم، ومن هؤلاء إدوارد وليم لين في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» حيث قال: «هم ينظرون إلى المجنون أو المغفل نظرتهم إلى كائن طار عقله إلى السماء، بينما القسم الأكبر من جسده يختلط مع البشر، لذا يعتبرونه من المفضلين المميزين في السماء».

ولا تُلوث الفظاظات التي يرتكبها هؤلاء المجانين حرارة تقواهم، فهم يعتبرون أن أعمال الأولياء وأفعالهم وليدة تجرد ذهنهم عن الأشياء الدنيوية، بينما تكون روحهم أو ملكاتهم الفكرية مأخوذة بالعبادة والتضرع، لدرجة لا تمكنهم من السيطرة على أهوائهم ونزعاتهم.

ويصف لين وجودهم في شوارع القاهرة فيقول: «لا تستغرب إن صادفت أحد هؤلاء يركض عاريًا كما خلقه الله في الشارع العام، فلا تنتفض النساء لرؤيته ولا يغضضن الطرف، بل يبجلنه».

نفس الرأي ذهب إليه كلوت بك في كتابه «لمحة عامة إلى مصر »، حيث ذكر أن المسلمين يرون في المجاذيب والمجانين الذين لا يضرون الناس قومًا آتاهم الله من فضله وخصهم بعناية، وأودع فيهم أسرار الطهارة والقداسة، لذا يتغاضون عن أفعالهم.

العلاج بالموسيقى

إذا كان المجانين غير المؤذين اعتُبروا في مصاف الأولياء، فإن أقرانهم المؤذين حُجزوا في المستشفيات، ومنها مستشفى أحمد بن طولون، وذكر ابن جبير الأندلسي (1145-1217) في رحلته المعنونة بـ«تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك» أن هذه المنشأة اشتملت على قسم خاص بالمجانين، وكانت مخططة تخطيطًا جيدًا، وكان ابن طولون يهتمُّ بزيارة هذا القسم، ويتفقد أحوال المجانين بنفسه.

وتذكر الدكتورة إلهام محمد ذهني في كتابها «مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين في القرن الثامن عشر» أن الرحالة الفرنسي قسطنطين فرانسوا فولني تحدث عن المستشفى في مؤلفه «ثلاثة أعوام في مصر وبر الشام» قائلًا: إن أشهر مستشفى حرص الرحالة على الحديث عنه هو مستشفى المجانين، وقد نُسب بناؤه إلى ابنة أحمد بن طولون، وكان السبب في بنائه أن إحدى الأميرات أصيبت بالجنون، فخُصص قصرٌ لها للبقاء فيه وحراستها، وبعد شفائها خُصِّص القصر للمجانين ليشفوا فيه من أمراضهم.

ويقع المستشفى في شارع رئيسي من أجمل شوارع القاهرة، حيث يوجد مسجد السلطان حسن، وحول المستشفى عدة مبانٍ مخصصة لرعاية المرضى النفسيين، وكان يُخصص لكل مريض شخص يعتني به، وفي المساء وقبل النوم تُعزف الموسيقى، ويُسمح للمرضى بحرية التجول ساعتين نهارًا.

ويذكر فولني أن في المستشفى كميات كبيرة من الأدوية، ويوجد مكان للفقراء، ويتم تصنيف المرضى حسب حالتهم، وكل مريض مخصص له طبيب معين، وكانت هناك شروط صارمة لاختيار الأطباء.

واهتم الخلفاء الفاطميون أيضًا بهذه الفئة، ويُذكر أن الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله زار في عام 415 هـ بيمارستان متنكرًا في زي عبيده، فتفقد أحوال المجانين، ومنح كل مجنون خمسين درهمًا، وأمر بأن تُعمر البيمارستانات، وتجري المياه إليها، وأن يُطبخ للمجانين في كل يوم أشهى الأطعمة، بعد ما يُنفق عليهم فيما يستعملونه من الأدوية والأشربة.

مستشفى لا نظير له

وفي العصر المملوكي أنشأ المنصور سيف الدين قلاوون (1222- 1290) مستشفى اشتمل على أقسام عدة، لكن تركز دوره بالأساس في استقبال المرضى النفسيين. وجاء في الجزء العاشر من كتاب «وصف مصر» الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية (1798 – 1801)، وترجمه للعربية كل من زهير الشايب ومنى زهير الشايب، أن كل جنس من الجنسين كان يشغل جزءًا منفصلًا من المبنى، وكان يُقبل جميع المرضى دون تمييز، سواء من الفقراء أو الأغنياء، أما الأطباء المستقدمون من مختلف مناطق الشرق فكانوا يعاملون معاملة كريمة، وفي وقت لاحق أُلحقت بالمنشأة صيدلية جيدة التجهيز.

وذكر علماء الحملة عن تاريخ هذا البيمارستان أن كل واحد من المرضى كان يتكلف في اليوم قطعة من الذهب (دينارًا) ، كما كان يتكلف بخدمته شخصان، وأن المرضى الذين يعانون من الأرق كانوا ينقلون إلى قاعة منفصلة، وهناك يسمعون موسيقى متآلفة الأنغام، أو يقوم قصاصون متمرسون جيدًا بالترويح عنهم بأقاصيصهم.

وبمجرد أن يبدأ المرضى في استرداد صحتهم يُعزلون عن الآخرين، ويتاح لهم الاستمتاع بمشاهدة الرقص، وتُعرض أمامهم ألوان من الكوميديا، وأخيرًا، عند مغادرة المستشفى يُمنح الواحد منهم خمس قطع ذهبية لكي لا يضطر فور خروجه إلى مزاولة أعمال شاقة.

وقد كان البيمارستان حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر على درجة كبيرة من الرقي، حيث وصفه الرحالة العثماني أوليا جبلي الذي زار مصر بين عامي (1082- 1091هـ/ 1672- 1680م) بقوله: «بناء عجيب لا نظير له في بلاد الترك والعرب والعجم، فقد بُني على أسلوب لو اختل عقل امرئ عالجه الحكماء فارتد عاقلًا».

وقد سمحت تبرعات أغنياء القاهرة السخية في ذلك الوقت بتوفير مستوى عاليًا من الرعاية الطبية، كما سمحت بإعالة المرضى أثناء فترة النقاهة حتى تتوفر لهم مهنة مُدرة للربح.

 وفي زمن الحملة الفرنسية كانت أوضاع البيمارستان قد ساءت، فأصبح المرضى يرقدون على أسِرَّة خشبية مفروشة بالحصر أو بمراتب ممزقة، والبعض ينام على مصاطب مبنية من الحجارة أو الطين، وطعامهم الخبز والأرز وشوربة العدس، وذلك رغم كثرة الأوقاف المرصودة للإنفاق على المؤسسة العلاجية.

وجاء في كتاب «وصف مصر» أن المريضات من النساء كن عاريات أو شبه عاريات، وحجراتهن ليست جميعًا ذات قضبان، ومع أنهن كن مقيدات فإنهن لسن مشدودات إلى الجدار كما هو الحال بالنسبة للرجال.

وتروي «الدالي» في كتابها أن رجال البيمارستان استغلوا حالات المرضى، فعندما وُضع أحد المرضى في البيمارستان لادعائه النبوة، استغل البيمارستاني المشرف على ذلك، وأدخل عليه من يرغب في رؤيته من الناس، وصار البيمارستاني يأخذ منهم مالًا، واعترف بأنه خلال الأيام الثلاثة التي أقام فيها المريض بالبيمارستان استطاع كسوة نفسه وعياله وعمل كحك العيد ودبر مصروفات شهر رمضان.

السرايا الصفراء

وعندما تولى محمد علي باشا حكم مصر عام 1805م وبدأ بناء دولته الحديثة، أمر بإنشاء بيمارستان خاص بعلاج المجانين تعالج فيه الأمراض العقلية فقط بمنطقة الأزبكية في قلب القاهرة، وفي سنة 1850م تم تحويل مخزن ميناء ببولاق إلى مستشفى لعلاج المرضى النفسيين.

في عام 1842 زارت الرحالة الإنجليزية صوفيا لين بول مصر، ودونت مشاهداتها في كتابها «حريم محمد علي باشا.. رسائل من القاهرة 1842- 1845م»، وتطرقت إلى ما رأته عن أوضاع المجانين في بيمارستان قلاوون، فقالت إن قيود الهائجين من المجانين كانت قوية، ولكل فرد طوق حول رقبته وأغلال حول معصميه، وكانت طريقة حبسهم في زنزانات جرداء كئيبة تجعل المنظر أكثر شبهًا بحظائر الحيوانات، وكانوا في حالة قصوى من الإرهاق بسبب هياجهم المستمر.

وفي عامي 1877م و1878م قامت بعثة بريطانية ضمت عددًا من الأطباء والمسؤولين البريطانيين بزيارة مستشفى الأزبكية بالقاهرة، وقدموا تقريرًا عن حالته، وأشاروا فيه إلى سوء الأحوال وتردي حال المرضى فيه، وأرجعوا هذا كله إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في مصر وإفلاس خزانتها، مؤكدين أنه لا يمكن لهذه الأمور أن تعتدل إلا بتدخل الحكومة البريطانية وسيطرتها على مقاليد الأمور في مصر، وبناءً على هذا أُغلق مستشفى بولاق سنة 1880.

وفي عام 1883 أُنشئ مستشفى جديد لعلاج الأمراض العقلية على أطراف صحراء القاهرة في منطقة العباسية، مكان قصر عباس الأول والي مصر، بعد اندلاع حريق فيه سنة 1878م، ولم ينجُ منه سوى مبنى من طابقين، وقد تم طلاء هذا المبنى باللون الأصفر، وأُطلق عليه اسم «السرايا الصفراء».

وانتقلت إدارة هذا المستشفى للسلطة البريطانية سنة 1884م بعد الاحتلال البريطاني للبلاد سنة 1882م، حيث أصبح يديرها مختص إنجليزي، وبدأ البريطانيون وضع مقاييس لتشخيص المرض العقلي في مصر وطرق علاجه، وأصبح مستشفى العباسية مركزًا مهمًّا في إدخال ونشر الأعراف الغربية المتصلة بالجنون إلى البلاد حتى الآن.

وفي عام 1912م أنشئت مؤسسة علاجية أخرى للأمراض العقلية في منطقة صحراوية بمحافظة القليوبية، وعُرفت باسم مستشفى الخانكة، وفي عام 1967م أقيم مستشفى عقلي آخر في الإسكندرية هو مستشفى المعمورة، ثم مستشفى رابع في حلوان جنوب القاهرة.

نظرة استبعادية

ويمكن القول إن المرض العقلي في مصر مر بتغيرات جذرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت الأعراف والتعريفات الأوروبية للجنون، والتي استقت أصولها من الطب النفسي الجديد، في التغلغل إلى داخل البلاد نتيجة للتداخل الأوروبي، لتحل محل الأعراف المحلية، وأدى ذلك إلى إحداث تغيرات في تعريف الجنون ونظرة المجتمع له وطرق التعامل معه.

وتذكر «الدالي» أن النظرة التي كانت سائرة عن المجانين في المجتمعات قبل الحديثة اتسمت بالتسامح والقبول، واعتبار المجنون مثله مثل أي مريض آخر قابل للشفاء، وحل محلها نظرة أكثر صرامة واستبعادية، تتعامل مع المريض العقلي بحذر وخوف، وتعتبره خطرًا على المجتمع يجب استبعاده كأنه مريض بأحد الأمراض المعدية.

ويظهر الفرق بين النظرتين في أماكن بناء البيمارستانات، فبينما كانت تشيد في العصور الإسلامية الوسيطة في قلب المدينة مثل بيمارساتانات قلاوون والأزبكية وبولاق، أُنشئت في عهد الاحتلال على أطراف المدن، بل في الصحراء، كأنهم مصابون بأوبئة يخشون انتشارها.