من الأفضل ألا نحكم بدلاً من أن نحكم بطريقة سيئة.
كريستيان ليندنر، رئيس «الحزب الديمقراطي الحر»

في ظل حالة عدم اليقين والاستقرار التي تلقي بظلالها على القارة الأوروبية تلك الفترة. من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود الانفصاليين في إقليم كاتالونيا بإسبانيا، مرورًا بتصاعد أزمة اللاجئين السوريين في سلوفينيا والحرب في أوكرانيا والتراجع الديموقراطي في المجر. فإن ألمانيا هي الأخرى تواجه للمرة الأولى منذ سبعين عامًا أزمة سياسية حرجة.قد تتسبب في إنهاء مشوار المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» إلى الأبد.

مفاوضات عصيبة دامت أكثر من شهر خاضتها ميركل مع الأحزاب الأربعة، الحزبين المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي البافاري، والحزب الديموقراطي الحر وحزب الخضر في سبيل تشكيل«ائتلاف جامايكا». إلا أن انسحاب «الحزب الديموقراطي الحر» يوم الأحد الموافق 19 من نوفمبر/تشرين الثاني تسبب في انهيار تلك المفاوضات. وقد علّل الديمقراطي الحر موقفه ذلك بغياب الثقة بين الأحزاب المشاركة في المفاوضات وافتقارهم لأرضية مشتركة من أجل تطوير ألمانيا. الأمر الذي شكل صفعة قوية لمستقبل المستشارة الألمانية وجعله على المحك وأقحمها في تحدٍ جديد لم تمر به من قبل.


ليست المرة الأولى

أعادت الأزمة السياسية التي تعصف بألمانيا الأذهان إلى ما شهدته في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. ففي مقال نُشر في صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ»،تقصى مجموعة من المؤرخين الألمان أوجه الشبه بين تلك الفترة وما تشهده ألمانيا اليوم. فقد عاصرت ألمانيا في الفترة بين 1919 و1933 مجموعة من الأزمات السياسية الطاحنة. إذ واجهت محاولات انقلابية من قبل التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة آنذاك، نظرًا لحالة التشرذم والانقسام التي عانى منها الوسط السياسي.

تسبب هذا في بروز حكومات الأقليات. كانت الحكومة حينها المستفيد الأول من ذلك الصراع، إذ أُتيحت الفرصة للحزب النازي بدعمٍ من بعض القوى اليمينية في الصعود وأدخل ألمانيا الحقبة المظلمة المعروفة في التاريخ. ربما التشابه يعود الآن إلى حالة التشرذم التي عاني منها الوسط السياسي في ألمانيا في كلا الفترتين واحتمالية وقوع ألمانيا مرة أخرى في فخ حكومات الأقلية. لكن الاختلاف يكمن في أن الفيدرالية الألمانية باتت أكثر الأنظمة استقرارًا في العالم، وبالتالي لن يطول الانقسام كثيرًا. وعلى أقصى تقدير إذا فشلت المفاوضات فقد تمر بانتخابات تشريعية جديدة ولن يكون الحال بنفس التخبط الذي تعاملت به ألمانيا في السابق.


تراجع شعبية ميركل هي التي فعلت ذلك

لعل أبرز القضايا التي تسببت في الخلاف بين الأحزاب، قضايا الهجرة وحماية البيئة واستمرارية دعم الولايات الغربية في ألمانيا لنظيراتها الشرقية. كل هذا كان من الممكن التفاوض بشأنه. إلا أن المشكلة الأكبر تمثلت في لم شمل اللاجئين المتمتعين بحماية جزئية بألمانيا مع أسرهم. ولعل قضية اللاجئين هي السبب الرئيسي أيضًا في تراجع شعبية ميركل ومن ثم تسجيل تحالفها، في انتخابات البوندستاغ الألماني التي أجريت في 24سبتمبر/أيلول، أسوأ نتيجة له منذ عام 1949. إذ بلغت حصة التحالف المسيحي في الانتخابات 32,9%. الأمر الذي اضطرها للدخول في مفاوضات من أجل تشكيل ائتلاف ثلاثي.

فملف اللاجئين وضع ميركل ومستقبلها في خطر لأسباب:

1. سياسة ميركل الانفتاحية تجاه اللاجئين

وفق استطلاع رأي نشرته صحيفة «بليد» الألمانية في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2015 ذهب نحو 48% من الألمان لإبداء عدم رغبتهم في تولي ميركل المستشارية مرة أخرى. وفي وقت سابق من هذا العام وجه المئات من الألمان تهمة الخيانة لميركل نتيجة لسماحها بمرور عشرات الآلاف من اللاجئين يوميًا عبر البلقان إلى ألمانيا. وهو ما جعل نسبة الألمان الراغبين في تنحي ميركل في ازدياد حتى ارتفعت نسبة الرافضين لها، في استطلاع آخر، هذا العام إلى64%.

2. مرونة ميركل في تعريف مفهوم الهوية

كانت ميركل مرنة إلى حد كبير في تعريفها لمفهوم الهوية. إذ أشارت في مارس/آذار 2017 إلى أن الشرط الوحيد الذي يتطلبه أي إنسان كي يكون مواطنًا ألمانيًا أن يكون مقيمًا في ألمانيا. فضلاً عن تأكيداتها المستمرة على كون الإسلام جزءًا من ألمانيا. الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين. وجعلها عُرضة لاتهام الحركات المعادية للإسلام كحركة «بيغيدا» العنصرية بأنها تفتح الباب لتحويل ألمانيا إلى «إسلامية». ووفق استطلاع للرأي عن مدى رضاء الجمهور الألماني عن فكرة انتماء الإسلام إلى ألمانيا، اتجه 61% إلى معارضة تلك الفكرة. الأمر الذي يظهر مدى التباين بين معتقدات ميركل وآراء المواطنين الألمان.

3. عدم قدرة ميركل على ترحيل طالبي اللجوء

بعد الهجوم الإرهابي الذي شهدته برلين في أواخر العام الماضي واشتباه السلطات الأمنية في اللاجئ «أنيس عامري» كونه المنفذ لهجوم الدهس، دعت ميركل إلى ضرورة تسريع عملية الترحيل لطالبي اللجوء وزيادة أعداد المرحلين. ورغم محاولاتها في سبيل ذلك. واجهت الحكومة الألمانية صعوبات جمة، جعلتها في نظر الرأي العام غير قادرة على تنفيذ قراراتها.


ذعر أوروبي

فشل تشكيل الحكومة الائتلافية لم يهز كيان ألمانيا فقط، بل أثار قلق بعض الشركاء الأوروبيين أيضًا. ففور الإعلان عن فشل المفاوضات، تحدث «إيمانويل ماكرون» الرئيس الفرنسي مع «أنجيلا ميركل» مؤكدًا أن العملية ليست من مصلحة فرنسا. لأنه كان يعلق على ألمانيا آمالا كبيرة في مساندته من أجل إنجاز إصلاحات أوروبية شاملة.

بينما اعتبر وزير خارجية هولندا «هالبه زيلسترا» أن انهيار المفاوضات «خبراً سيئاً لأوروبا». وأن عدم وجود حكومة سيصعب على الاتحاد الأوروبي اتخاذ القرارات نظرًا للدور القيادي الذي تلعبه ألمانيا باعتبارها أكبر الدول الأعضاء في الاتحاد.

فيما أشار وزير الخارجية البلجيكي «ديدير ريندرس» إلى أن تشكيل ائتلاف حاكم أصبح يحتاج إلى وقت طويل في كثير من الدول حاليًا، وأنه بات تقليدا جديدا في دول كثيرة. في حين أكد رئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» أن فشل تشكيل ائتلاف حكومي في ألمانيا لا يمثل أي خطورة على أوروبا. بينما أشار المتحدث باسم رئيس المفوضية إلى أن المفوضية مطمئنة «إزاء ضمان الاستقرار والاستمرارية».


السيناريوهات المطروحة لحل الأزمة

1. تشكيل ائتلاف كبير مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي

«دانييل جونتر» رئيس وزراء ولاية «شلسفيغ هولشتاين».

لعل السيناريو الأرجح حتى الآن هو تشكيل ائتلاف كبير موسع مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي. فبحسب ما نشره موقع «دير شبيغل الإخباري»، قامت ميركل بتحديد مبادئ توجيهية لأي ائتلاف كبير محتمل. اشتمل على الالتزام بميزانية اتحادية خالية من أي ديون جديدة. وزيادة الدعم المالي للأسر المنجبة للأطفال. وتقليل الأعباء على أصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة مع مراعاة تحسين وتدعيم أسس الاقتصاد والتنمية المستقبلية.

وبالفعل عدّل الحزب الديمقراطي الاشتراكي موقفه. وقَبِل إجراء محادثات مع ميركل ليزيد بذلك فرص تجديد الائتلاف الموسع الذي حكم ألمانيا خلال السنوات الأربع الماضية. كما وافق أعضاء التحالف المسيحي على السعي لتشكيل ذلك الائتلاف الكبير في سبيل تجاوز تلك الأزمة في اجتماع لهم يوم الأحد الماضي الموافق 26 نوفمبر/تشرين الأول.

2. انتخابات جديدة في ألمانيا

إذا فشلت المفاوضات، فإن هناك احتمالية الشروع في انتخابات جديدة. إذا تمكنت ميركل من الفوز بأغلبية في الجولة الأولى من التصويت فستتعين مرة أخرى في منصب المستشارة. وإذا فشلت في ذلك فسيصوت المشرعون في جولة ثانية لمدة 14 يوما. ولكنها إذا فشلت في الفوز بأغلبية في الجولة الثانية، فسيصوت المشرعون مرة ثالثة وسيفوز المرشح الأكثر أصواتًا. حينها قد يقوم المستشار الجديد بعقد انتخابات تشريعية جديدة تجري ضمن 60 يومًا.

ورغم أن هذا الاحتمال أفضل من تشكيل حكومة أقلية، فإنه ما من ضمانات على قدرة الانتخابات على تحسين الأوضاع. بل على العكس قد يستغل حزب «البديل من أجل ألمانيا» تلك الفرصة ويزيد حصته من الأصوات.

3. تشكيل حكومة أقلية

لدينا نية صادقة بتشكيل حكومة فعالة

بيد أن السيناريو الأفضل بالنسبة لميركل هو أن تنجح في تشكيل الائتلاف الكبير. إلا أنها قالت إن أجبرت على الاختيار فإنها ستفضل الدخول في انتخابات جديدة بدلًا من محاولة قيادة حكومة أقلية. فالسياسة الخارجية عمومًا لأي حكومة أقلية فيدرالية غالبًا ما تكون ضعيفة. الأمر الذي سيعيق ميركل من أداء دورها النشط في السياسة الأوروبية. فضلاً عن طول أمد المناقشات التي ستستنزفها حكومة الأقلية حول كل قرار رئيسي.

ولكن إن اضطرت ميركل لهذا الاحتمال، فلن تعيش تلك الحكومة كثيرًا نظرًا لكثرة المعارضين لها والاختلاف بين الأحزاب على المعالم الرئيسية للقضايا الكبرى.