يُحكى أن رجلين احتاجا أن يبني كُل منهما منزلًا في موضعٍ ما. اختار أحدهما أن يضع أساس منزله فوق الرمال، بين فضل الآخر أن يتخذ الصخر أساسًا له. حين حلت أول عاصفة بالمنزلين، انهار منزل الرمال وظل منزل الصخر على حالته، حتى لو جُرف قليلًا بفعل العاصفة، لكن على الأقل لم يُهد.

يردد علماء النفس تلك القصة لإيضاح أهمية الثقة بالنفس التي يُبنى عليها أي نجاح في الحياة العملية. إن لم تكن تتحلى بالإيمان بقدراتك وكل ما تملك، فإنك تبدأ عملًا أساسه الرمال، مع الموجة الأولى من العاصفة سينهار.

يمكن أخذ اللاعب المصري «محمد النني» كمثال في من اتخذ جسر الثقة للعبور من اللا شيء تقريبًا، إلى قمم المجد. من لاعب غير مرغوب به، وفي حالة صدر قرار برحيله عن ناديه قد لا تشعر الجماهير بذلك، إلى أن يُطالب الجميع بضرورة تمديد عقده مع النادي، على الفور، بعد أن تصدر كافة الصحف الإنجليزية بالإشادة.

النني المُتحول

على موقع تويتر، يوجد حساب باسم «Orbinho» يختص في إحصائيات نادي أرسنال، أكد عقب المباراة ضد مانشستر يونايتد في مطلع نوفمبر 2020، أن النني هو أكثر لاعب ركض في الملعب في كل المباريات التي بدأها أساسيًا بقميص الجانرز منذ بداية الموسم وحتى تاريخ تلك المباراة.

كانت تلك إجابة عن سؤال متكرر من كل جماهير النادي تقريبًا عن إحصائيات وأدلة لإثبات جودة أداء المصري في تلك المباراة، والذي كان استثنائيًا بكل المقاييس. لكن لقطة مُحددة في الدقيقة 91 من عمر ذلك اللقاء، كانت السبب في أن يتم التركيز على النني بهذا الشكل، وهي ما أظهرت أن ذلك اللاعب يركض بلا كلل ولا ملل في كل موضع في الملعب بكل إخلاص ممكن.

قبل عدة سنوات، جمع موقع «Turkish Football» بعض من آراء نفس الجماهير وقت انتشار شائعة خروج النني للدوري التركي عام 2017، وكانت معظمها سلبية للاعب هامشي للغاية، ولم تختلف التعليقات في إنجلترا عنها في مصر أو في الوطن العربي: لاعب لا يمرر للأمام، لا يملك الحمية الكافية للعب في النادي.. إلخ.

يقول «المهاتما غاندي»: يُصبح الإنسان ما هو مؤمن فعلًا بأنه سيكون. ربما تكون تلك الجملة هي السبب في الاختلاف بين ما رأيناه من محمد النني في مطلع موسم 2020/21 وبين ما سبقه من مواسم مُختلفة بقميص المدافع اللندنية.

هل تشعر أنك خُدعت؟

وقبل البحث عن السبب وراء ذلك التحول الواضح، عليك أولًا أن تنظر إلى دلائل ذلك التحول. قام موقع «One Football» بشرح التغير البادي على المصري. فبعد المباراة المذكورة ضد الشياطين، أكد محررو الموقع الإنجليزي أن النني صاحب لقب Mr. Sideways أو «سيد التمريرات الجانبية» قد بدأ في التمرير المُثمر للأمام بالفعل.

والأكيد أنها كانت نقطة واضحة بقوة لكل الجماهير، حتى غير المحللين من بينهم، وتؤكد الإحصائيات أن تمريرات النني مع أرسنال داخل الدوري الإنجليزي، والتي بلغت حتى منتصف نوفمبر 2020، 285 تمريرة مُكتملة، قد تحركت للأمام بمقدار 1115 ياردة نحو مرمى الخصم. ما قد يُعطي للتمريرة الواحدة 3.9 ياردة.

في الواقع، علينا الاعتراف بأن ذلك المُعدل ليس الأعلى بين رباعي وسط الملعب الأكثر مشاركة في أرسنال: «داني سيايوس»، «جرانيت تشاكا»، والوافد الجديد «توماس بارتي»، إذ يُعتبر النني الأخير من بينهم. والحقيقة أيضًا أن ذلك ليس المُعدل الأعلى للنني خلال سنواته في أرسنال.

حسنًا، دعنا نؤكد أن كل أرقام النني ذلك الموسم تقريبًا لا تزيد عن أرقامه سابقًا، إن لم تكن أقل حتى، وهي ليست عملية خداع مُمنهج لعقول المتابعين، لكن دائمًا ما تحتاج الإحصائية لسياق للنظر في ماهيتها أو مدى ملاءمتها للواقع.

هل لأنه النني؟ أم لأنه أرتيتا؟

لنأخذ كمثال نسبة نجاح وصول الكُرة للمحترف المصري، فإن الكرة تصل للنني بنسبة نجاح 96.3%، بمعنى، أنه في كل مرة يظهر فيها المصري لزملائه ليكون خيار متاح للتمرير فإنه يظهر بشكل واضح وبتمركز ممتاز يجعل بلوغ الكُرة لأقدامه مهمة سهلة على حامل الكُرة. وبالرغم من أنها أعلى نسبة في سنواته بقميص الجانرز، لكن الفوارق ليست واسعة بين كل النسب السابقة له.

بينما يظل الفارق الأهم في المعادلة هو اختلاف البيئة المُحيطة. فإن «ميكيل أرتيتا» يختلف عن أرسين فينجر وكلاهما يختلف عن أوناي إيمري، فقط ميكيل هو من احتاج لأن يكون النني بتلك البساطة في الظهور والتحرك بالحد الذي يسمح له بتسلم الكُرة بهذه النسبة الكبيرة.

وفي محاولة لقناة Tifo Football لشرح الفارق بين المدير الفني الإسباني أرتيتا وبين «بيب جوارديولا»، اتضح أن مدرب أرسنال يعتمد على الاستحواذ في الثلث الدفاعي بنسبة أكبر من أستاذه بحوالي الضعف.

فلا يمتلك لاعبو مانشستر السيتي الكُرة في الجانب الدفاعي إلا بنسبة 17% فقط من إجمالي استحواذهم على الكرة، بينما يمتلك أرتيتا الكرة بنسبة 32% في الثلث الدفاعي الخاص بفريقه. يتضح هنا قيمة احتياج مدرب أرسنال للاعب في منطقة الارتكاز الدفاعي يُتقن امتلاك الكرة، بالتسليم أو بالتسلم.

ومن بعد التسلم تظهر مهمة النني ورفاقه في الخروج من الضغط المتوقع على فريق يُفضل الاستحواذ، أو على الأقل لا يُفضل أن تُقطع الكُرة من بين أقدامهم بسهولة في هذه المنطقة والتي يمتلكون فيها الكرة بكثافة، وإلا ستكون العواقب وخيمة.

ولعل أكبر ما يضطر لاعبي أرسنال للاحتفاظ بالكرة في الثلث الدفاعي هو افتقادهم للاعب صانع لعب كلاسيكي -في حالة جيدة- يتولى مهمة بناء الهجمة في وسط الملعب، بالتالي تكون عملية انتقال الهجمة بواسطة حامل الكرة مهمة أصعب وتقع على عاتقي الارتكازين باعتبارهما المصب الرئيس لكل تمريرات رباعي خط الدفاع.

يتحرك النني بالكرة للأمام لنقل الهجمة هذا الموسم بنسبة 55% من مجمل وقت امتلاكه للكرة. وكذا يتساوى مع جرانيت تشاكا في أنهما أقل لاعبي وسط الملعب خسارة للكرة في كل مرات تعرضهم للضغط، بـ4 مرات فقط لكل منهم.

حيث استطاع النني أن يمرر الكرة 45 مرة وهو واقع تحت ضغط مباشر من لاعبي الخصم، وبالرغم من أنه أيضًا ليس الأعلى من بين زملائه، لكن الأكيد أن كُل رقم يحتاجه أرتيتا لاختيار العنصر الأمثل في وسط الملعب سيجد أن النني يُبلي فيه بلاءً حسنًا، بلاءً يضمن لك أنه إن لم يكن الأفضل فلن يكون الأسوء.

دعنا نحاول أن نتفاجأ سويًا لتكتشف أن تلك الميزة في المحترف المصري ليست جديدة أيضًا فإن المدير الفني الفرنسي، والسبب في التعاقد مع النني من الأساس، قد أكد أنه تعاقد مع المصري لأنه يستطيع القيام بكل الأدوار بنسب نجاح مقبولة على الأقل.

النني فوق منزل من الصخر

أردنا لاعبًا متعدد الاستخدامات وأردت لاعبًا يمكنه أن يلعب دفاعيًا ولكن يمكنه أيضًا أن يتقدم للأمام من الصندوق للصندوق وقت الحاجة.
المدير الفني الفرنسي أرسين فينجر عن سبب التعاقد مع محمد النني

لو فرضنا أن كل الأرقام التي يُقدمها النني لفريقه في الوقت الحالي، هي أقل أو تتساوى مع أرقامه سابقًا، وفي حال افترضنا تشابهًا⅘ بين أسلوب فينجر وبين أسلوب أرتيتا، وهو تشابه موجود فعليًا بعيد عن الافتراض، لكن الفارق بين ما قدمه النني مع إيمري وفينجر وبين ما قدمه مع أرتيتا، أنه يُقدم بثقة.

التمريرات التي تُلعب للأمام حتى لو أقل من الطبيعي، فهي تُلعب الآن بثقة وبإيمان أكبر، وهو ما يجعلك تنظر للتمريرة كمتابع عادي لتلك التمريرة بعين الاعتبار وبرؤية تُريد استحسان تلك التمريرة.

من الوهلة الأولى لميكيل ومنذ حديثه الأول عن المصري وهو يؤكد أن كُل ما يحتاجه ليس إلا الثقة، والإيمان بما يُمكنه أن يُقدمه للفريق. ولم يحتاج المدير الفني الإسباني إلا أن يُعطيه الثقة في أن يُقدم كل ما يستطيع تقديمه، وحتى لو كان للحظ عامل في أن يبقى في النادي مدة أطول، لكن الأكيد أن «مو» قد نجح البناء فوق ذلك الحظ، لكنه هذه المرة قد بنى بيتًا على أساسًا من الصخر، فاستمر بالرغم من العاصفة.