تشكل كوريا الشمالية حالة فريدة بين الدول، ويُضرب بها المثل في الانغلاق والقمع وعبادة القادة، إذ يشكل الرئيس المؤسس كيم إيل سونج وابنه كيم جونج إيل وحفيده الزعيم الحالي كيم جونج أون نوعًا من الثالوث المقدس في البلاد؛ فمجرد توجيه أي انتقاد لهم، حتى لو صدرت من أي شخص وهو في حالة من السُكْر، تعني المخاطرة ليس فقط بتعريض حرية هذا الشخص وحياته للخطر بل أيضًا عائلته بأكملها.

فمنذ ولادة الطفل يتم تربيته على قيم أشبه بالدين تتعلق بتقديس عائلة كيم، واعتبارهم بمثابة الآلهة، فمثلًا يجب على الجميع الانحناء أمام صور القادة ووضع باقات الزهور باحترام أمامهم، ويدرس الطلبة يوميًا مواد دراسية تشرح كيف كان الرئيس يعمل بجد من أجل الحزب والأمة والشعب، وكذلك والده وجده، رغم أن الزعيم لا يُشار إليه بوصفه رئيسًا للجمهورية بل الرفيق كيم جونج أون، السكرتير الأول لحزب العمال الكوري.

المملكة الشيوعية

يعد كيم أيل سونج، مؤسس جمهورية كوريا الشمالية، فقد حكمها لمدة 46 عامًا منذ تأسست في عام 1948 إلى وفاته عام 1994، وقد تولى السلطة بدعم من الاتحاد السوفيتي عقب طرد الاستعمار الياباني في الحرب العالمية الثانية عام 1945، فعينه السوفيت أمينًا للحزب الشيوعي في كوريا، واعترف بسيادة حكومته على أراضي الكوريتين الشمالية والجنوبية، وفي عام 1950 اندلعت الحرب بين الكوريتين ودعم السوفيت والصينيون كيم إيل سونج، ودعم الأمريكيون الجنوبيين، وفي عام 1953 انتهت الحرب من دون اتفاق سلام، وظل الأمريكيون في الجنوب، واستمر حكم حزب العمال الشيوعي الاشتراكي في الشمال حتى اليوم.

على عكس الجنوب الذي اقتفى آثار المعسكر الغربي الرأسمالي، اتبع الشمال نمط الاقتصاد الاشتراكي، وفتك كيم إيل سونج، بمعارضيه وأصحاب النفوذ في بلاده مؤسسًا حكمًا قمعيًا شبيهًا بالنمط السوفيتي، لكنه اتخذ عام 1980 قرارًا غريبًا على تقاليد المعسكر الاشتراكي حينذاك باختيار نجله كيم جونج إيل، وليًا للعهد، ليؤسس فعليًا أول نظام «ملكي شيوعي» في آن واحد! رغم استمرار تسمية الدولة رسميًا «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية»، واخترع فلسفة ملفقة من خليط من النظريات الشيوعية أطلق عليها اسم «زوتشيه» أو جوتشه تركز على فكرة الاعتماد على الذات وليس على المساعدات الخارجية، لكن البلاد ظلت تعتمد على المساعدات الخارجية حتى إنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بشدة حتى وصلت البلاد إلى مرحلة المجاعة ومات حينها ما يُقدر بثلاثة ملايين شخص من الجوع بحسب بعض التقديرات.

القنبلة

وجد النظام أنه غير قادر على توفير أبسط متطلبات الحياة وباتت سلطته مهددة ولم يعد الظهير السوفيتي موجودًا لمساندته، وكان المشروع النووي العسكري سبيله للحفاظ على بقائه.

مع وفاة الزعيم المؤسس وتولي نجله كيم جونج إيل عام 1994، اجتهد النظام في إنجاز المشروع النووي على الرغم من توقيعه سابقًا على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ومع ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية ناور النظام وحصل على مساعدات مقابل تجميد هذا البرنامج النووي العسكري عام 1994.

تم استئناف محاولات سرية أخرى لإنتاج السلاح النووي بمساعدة العالم النووي الباكستاني، عبد القدير خان، إلى أن حانت لحظة استئناف العمل به علنًا حين كانت الولايات المتحدة تتأهب لغزو بغداد، فتم طرد المفتشين الدوليين، وانسحبت البلاد من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

وكان مصير الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، عبرة لمن يتخلى عن برنامجه النووي أمام ضغوط الغرب، ونجحت بيونج يانج في إجراء أول تفجير نووي عام 2006، وبتطويرها أيضًا برنامجًا صاروخيًا باليستيًا استطاعت امتلاك القدرة على ضرب الأراضي الأمريكية، وهددت واشنطن مرارًا بأنها ستستهدفها بالسلاح النووي إن مثلت تهديدًا جديًا لها، وبذلك ضمن النظام منع أي تدخلات دولية لإزاحته.

ومع وفاة كيم جونج إيل عام 2011، استمر نجله كيم جونج أون في السير على دربه، فلم يجد سببًا مقنعًا يدفعه للتخلي عن السلاح النووي خصوصًا بعد أن رأى مصير الرئيس الليبي، معمر القذافي، بعد أن تخلى طوعًا عن برنامجه النووي فقُتل شر قتلة وتدخل الغرب عسكريًّا للإطاحة به في ذلك العام.

على خطى والده

عندما أصبح كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية عام 2011، اعتقد عديد من المواطنين أن حياتهم في طريقها إلى التحسن لكونه من الجيل الشاب، وتم صرف حصص غذائية أكبر للسكان تتضمن اللحوم والأسماك عندما تولى السلطة.

وكان النظام فرض على جميع السكان أغنية اسمها «خطى» كأنها سورة من كتاب مقدس، تدور فكرتها حول أن كيم جونج أون يسير على «خطى» والده وسيقود البلاد إلى مكانة رائعة، ورسمت وسائل الإعلام الرسمية صورة أسطورية عن هذا الحاكم الشاب؛ فمثلًا زعمت أنه كان بإمكانه ركوب الحصان عندما كان عمره خمس سنوات واستطاع التصويب من مسدسه عندما كان في الثالثة من عمره، وغيرها من الأشياء غير القابلة للتصديق، ولكن كان الناس يكتمون ضحكهم مخافة القتل، وصاروا يتندرون عليه وعلى شكله سرًا.

واتضح لمن علقوا آمالهم على «الخليفة العظيم» كما يسمي نفسه أنه بالفعل يسير على خطى والده وجده تمامًا؛ فعلى الرغم من أنه سمح بحرية اقتصادية أكبر، فقد حاول عزل البلاد أكثر من أي وقت مضى، وشدد الأمن على الحدود وشدد العقوبات على أولئك الذين يجرؤون على محاولة عبورها، لكن شريحة صغيرة من السكان ظلوا مستعدين لتحمل المخاطر التي تنطوي عليها محاولة الهروب.

 ومع تغير الحياة داخل الدولة، تغيرت أسباب هروب الناس، فلم يعودوا يفكرون في الهرب من دولتهم الاستبدادية لأنهم جائعون كما فعلوا في منتصف التسعينيات بل لأنهم اطلعوا على نمط الحياة في الخارج ويرغبون في عيش هذا النمط؛ فقد تزايد تدريجياً وجود السوق في هذه الدولة الاشتراكية المغلقة، وصاحب ذلك تدفق المعلومات، سواء كان ذلك عن طريق التجار الذين يعبرون إلى الصين أو عبر المسلسلات التلفزيونية المهربة على أقراص USB، مما غير نظرتهم إلى العالم.

فمن الناحية النظرية، تعد كوريا الشمالية معقلًا للاشتراكية ولو على مذهب زوتشيه، فالحكومة هي كل شيء، بما في ذلك الإسكان والرعاية الصحية والتعليم والوظائف، لكن في الواقع، لم يعد اقتصاد الدولة يعمل تقريبًا، فالقطاعات الزراعية والصناعية والخدمات في أسوأ حال، ولا يتقاضى الناس أي أجر تقريبًا؛ فراتب الأطباء أقل من تكلفة شراء كيلو جرام واحد من الأرز وأحيانًا تتأخر الرواتب لأشهر طويلة، فنشأ اقتصاد خاص بدافع الضرورة المحضة، ووجد الناس طرقًا لكسب المال بأنفسهم، سواء من خلال بيع الطعام أو المخدرات أو تهريب أجهزة DVD أو الرشاوى.

فقد أجبرت المجاعة الكوريين الشماليين على التحول إلى رواد أعمال فكان عليهم كسب المال فقط للبقاء على قيد الحياة، وبينما كان على الرجال الاستمرار في الحضور للعمل في المصانع الفاشلة عديمة القيمة تقريبًا، كانت النساء يحولن الذرة إلى معكرونة ويحتفظن بالقليل لأنفسهن لكن يبعن الباقي حتى يتمكنوا من شراء مزيد من الذرة في اليوم التالي، وكان الأطفال المشردون يسرقون أشياء تافهة من المستودعات لبيعها كخردة معدنية، فبدأت الأسواق في الظهور على أيدي النساء اللاتي همشهن النظام بخلاف الذكور الذين يركز النظام على تجنيدهم وتسخيرهم، وانتشرت المشاريع الصغيرة بخاصة لمن كان لهم أقارب في الجيش يوفرون لهم الحماية.

ومن أكبر المدن إلى أصغر القرى انتشرت أسواق صغيرة حيث يمكن للناس بيع بضاعتهم والاحتفاظ بأرباحهم، بعضها صارت تديرها الدولة، والبعض الآخر تتغاضى عنه الدولة، والبعض الآخر تطارده الدولة، وتم تقنين الأسواق بأثر رجعي من قبل النظام.

وفعليًا لا يوجد اعتماد على الدولة في توفير متطلبات الحياة بل على رأس المال؛ فالتعليم مجاني لكن المدرسين يطلبون من أهالي الطلبة إرسال كمية معينة من الفاصوليا مثلًا وإلا فلن يهتموا بتعليم الطلبة، ولهذا السبب توقف بعض الطلاب عن الذهاب إلى المدرسة، وأدى التفاوت الكبير في القدرة على كسب المال سواء من خلال وسائل قانونية أو غير قانونية إلى تعميق التفاوت الطبقي في بلد لطالما وصف نفسه بأنه جنة اشتراكية قائمة على المساواة.

 لكن النظام الأمني المسمى Bowibu يعمل بكفاءة وقوة ونشاط، ووكلاؤه موجودون في كل مكان ويعملون بمنأى عن المحاسبة، فطبقًا لنظام مراقبة الأحياء يتم تقسيم كل منطقة في كل بلدة أو مدينة إلى مجموعات متجاورة مكونة من 30 أو 40 أسرة، لكل منها زعيم مسؤول عن تنسيق المراقبة الشعبية وتشجيع الناس على الوشاية عمن لديه أي ميول معارضة، أو يخطط للهرب إلى الصين أو كوريا الجنوبية، أو يطيل شعره ويقلد التسريحات في دول الخارج، ويتم فحص الهواتف للبحث عن وجود أي أغان من كوريا الجنوبية مثلًا أو التواصل مع الأقارب هناك هاتفيًا.

ويعبر الآلاف الحدود إلى الصين كل عام، وعادةً ما يتم بيع الفتيات الشابات لرجال صينيين فقراء في الريف لا يستطيعون التزوج بطريقة أخرى في ظل نقص عدد البنات عن البنين هناك، لكن الغريب أن إحدى الفتيات حكت لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أنها عندما سمعت أن صديقتها بيعت لرجل صيني كزوجة طلبت أن تتعرف على السمسار حتى يمكن بيعها أيضًا للهرب من جحيم حكم عائلة كيم.

ويخشى النظام من إرسال أي شخص للعمل في الخارج إلا بعد اجتياز الفحص الأمني للتأكد من موقفه الأيديولوجي تفاديًا لهروبه، ويصل الأمر لقتل أي شخص يحاول الهرب ويقترب من الحدود مع الصين، لكن المهربين ينجحون في توصيل عديد من الناس إلى الجانب الآخر من الحدود، ويوصلون الكثير من الأفلام والمسلسلات على أقراص USB إلى الداخل بشكل سري، حيث يعشق الناس مشاهدة الدراما الرومانسية الكورية الجنوبية ورؤية أشكال السيارات والمنازل الجميلة وطريقة التعامل الحضارية بين الناس، متناسين الدعاية الحكومية التي تؤكد لهم ليل نهار أنهم يتمتعون من بين كل سكان العالم بأفضل معيشة على ظهر الكوكب.