لم يكن افتراءً القول بأن الضباط الأحرار حينما انقلبوا على الملك وأسسوا الجمهورية المصرية لم ينشئوا دولة؛ فمصر لم تعرف فكرة الدولة الحديثة بعد، فحينما أسس الولي محمد علي دولة مصر الحديثة فهي بالحقيقة كانت إمارة خاضعة لنفوذ وطموح الأمير/ الولي، بل إنه (ومعه أسرته الحاكمة) كان المالك لمقدراتها يهب لمن يشاء وينزع ممن يشاء. وثورة 1919 لم تستطع إنشاء دولة وإن نجحت في إرساء فكرة الحكومة الوطنية والدستور لأول مرة.

وجاءت لحظة 23 يوليو/تموز وكانت اللحظة التاريخية المفارقة في تاريخ مصر إبان عصر التحرر الوطني من الاستعمار وإرساء دعائم الحكم الوطني المستقل، لكن هيهات ما تحولت الجمهورية الوليدة إلى نظام سياسي فقط وغابت فكرة الدولة ومضمونها المؤسساتي والثقافي الواسع. إذ يبدو أن أقانيم الدولة الحديثة المتمثلة في دستور حر وإقليم حر وشعب حر نوع من الهرطقة السياسية في نظر رواد الجمهورية الناشئة ولا داعي لها طالما لديهم المشروعية السياسية – وليس الشرعية، فلا شرعية من غير دولة– التي تجلب لهم المباركة الجماهيرية وكفى.

والقصد بالمشروعية هو الآليات والأدوات التي استندت إليها حكومات يوليو في إيجاد السند الشرعي والصيغة السياسية للحكم وليس الاستناد إلى عقد أو دستور ينظم العلاقة بين الحكومة والجماهير على أرضية محايدة ومشتركة اسمها الدولة. فبرزت مشروعية التحرر ومشروعية الـتأميم والعدالة ومشروعية التصنيع ومشروعية الاشتراكية والقومية ومشروعية الحرب والسلام.. إلخ.

بالحقيقة هذه المشاريع كانت خطوط تماس أفقية مع الجماهير، ولمست الحاجة الآنية للجماهير التي بدورها أعطت للنظام أوقات إضافية في عمره رغم عثراته وخطاياه السياسية، لكن يبرز أمامي خطا تماس خطيران ومهمان للغاية صنعتهما جمهورية يوليو مع الجماهير رغم تغير جلدها وقياداتها عبر السنين، لم يكونا على السطح فيسهل كشفهما بل كانا هاجعين في الدم كـكرات الدم مما يجعلهما نافذين بشدة في بنية النظام السياسي للجمهورية المستعصية على التحديث، هذان الخطان هما الفساد والأمية الثقافية/ السياسية.

معلوم أن التركيب الإداري لمؤسسات جمهورية/ دولة يوليو قائم على البيروقراطية المركزية وهي المماثل الأيدلوجي لرأسمالية الدولة، رأسمالية تمتلكها الدولة ذات القرار المركزي الأوحد. وفي ظل حراك طبقي/ اجتماعي نشب عقب إزاحة النظام الإقطاعي السابق تولدت الرغبة في الصعود أو الامتلاك أو الانتقال الرأسي سواء أفراد أو جماعات، لكن الحقيقة أن النظام قد رسم حدودًا فولاذية للطبقات بعد التأميم ولم يعد من الممكن الصعود/ الحراك الطبقي الذاتي السلس والمرن داخل المجتمع الذي تأممت كيمياؤه وتفاعلاته الداخلية أيضًا.

لكن ظلت الرغبة موجودة بطبائع الأحوال ولأجل إيجاد متنفس خارج البيروقراطية وأيديولوجيا النظام التي قولبت الجميع، فلم يكن يحدث ذلك إلا من خلال منافذ الدولة وبيروقراطيتها، فكان الفساد بشقيه المالي والسياسي هو الحل المتاح لأجل زحزحة هذه الأقفال السلطوية وتحريك -وربما التطفل- على رأس المال المتراكم أعلى هرم السلطة من جهة، وتوغل الحكومة داخل صفوف الطبقات والجماهير لأجل إحكام السيطرة والحركة من جهة مقابلة، وبالتالي أصبح الفساد بمثابة ممر متبادل عبر الدولة وجماهيرها.

على مسار آخر يبدو موازيًا، النظام السلطوي لجمهورية يوليو كان مهتمًا للغاية بالاحتفاظ بكل السلطات والأفكار – بمعناهم المؤسسي والثقافي الواسع- وتحصّل على ذلك من خلال فكرة المقابل. ففي مقابل إصلاحات اجتماعية شاملة وعريضة للجماهير، تتغاضى الأخيرة أو ليس من حقها السؤال أو التطلع عما يفعله النظام وربما إعطائه حقًا إلهيًا مقدسًا، فعلى الجميع اعتناق أيديولوجيا النظام/ الزعيم، الراعي للإصلاح والعدالة والتنمية، وما دام الأمر كذلك فالجماهير ليست بحاجة تعليمية وثقافية سوى محو أميتها الأبجدية عبر تعليم مجاني إجباري شامل وسريع يمكنها من قراءة خطب النظام/ الزعيم.

هذه الصفقة ارتضاها القطاع الأعرض من الجمهور ضمنيًا، حيث القبول تم داخل اللاوعي الجمعي، طالما كان المبرر موجودًا ومقنعًا لحد كبير لهم: ما الفائدة من الديمقراطية والأحزاب والدستور طالما أخذنا حقوقنا بدونهم؟ بالإضافة إلى أن الأغلبية العريضة والمهمشة من ذي قبل حظيت بقدر من القوة الأدبية (أو رأس المال الثقافي) لم تكن متوفرة من قبل، كذلك وأن الاشتراكية أصبحت وعاءً قسريًا على الجميع ولا فروق بعد اليوم.

فأصبح التمايز الثقافي ينمو فقط على هامش الأيديولوجيا وليس داخل الصميم الأيديولوجي المهيمن، واستُولدت الطليعة المثقفة المتحمسة للنظام وللثورة لتقوم بدورها التعبوي المدافع عن الثورة والهجوم على الخصوم. فأصبحت الجماهير أمام رأي واحد لا يحمل غير الحقيقة ما دام لا توجد غير حقيقة واحدة وهي الاشتراكية والقومية.

وعندما قررت الجمهورية أن تصحح مسارها -حسب التصريح الرسمي- وتتجه نحو اقتصاد السوق والانفتاح والخصخصة في منتصف السبعينات، فهي بالحقيقة كانت تناقض نفسها وتناقض مبادئها القيمية التي قامت عليها ثورة 1952، ولكن لحسن الحظ لم تجد عراقيل اجتماعية وثقافية في وجه هذه الانحناءة القسرية واقتنع الجميع – المتغني أمس بالاشتراكية – بأن هذا تصحيحًا للمسار.

ولحسن الحظ أيضًا أن المناخ الانفتاحي الجديد الذي أغرى الجميع بفردوس الرفاهية والامتلاك لم يتطلب كفاءة أو نقلة حداثوية من نوع ما تناسب النمط الرأسمالي الوليد، لكنها الشطارة هي المطلب الجديد، وقانونها موجود وحاضر: الرقص على حبال الفساد والتجهيل الثقافي.

ما أتحدث عنه لم يكن قانونًا أو معاهدة أو دستورًا جرى الاتفاق عليه، بل تدابير سلوكية خلُصت ونضجت في المخيلة الجماهيرية العامة لإدارة علاقة برجماتية مع نظام ينوي الاستمرار طويلًا في السلطة. فكانت المحصلة طيلة ستة عقود قناعة مطلقة لدى الجماهير بأن الدولة عبر نظامها السياسي الحاكم هو فقط القادر على المنح والمنع ولا جدوى من معاداة أو خصومة طويلة مع الدولة/ النظام.

هذه الثنائية السرطانية كانت حاضرة مع ثوار الميدان في 25 يناير/كانون الثاني، ومثلما الحال مع جماهير دولة يوليو، فإن الثوار أدركوها بحسهم وضميرهم ووعيهم المفارق لكن ربما لم تسعفهم كلماتهم أو الوعي المحيط عن البوح بها وإعلام جموع الشعب عنها، وظلت مدمجة داخل الألم والنداء المطالب بالحرية والعدالة. لكن يبقى أن انتزاع هذه السرطانات مرهون بوعي تنويري وثقافي قبل أن يشرع في التثوير بالميادين وهذا ما تعثرت به الثورة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.