أصدر الرئيس جوتابايا راجاباكسا قرارًا بحجب وسائل التواصل الاجتماعي في كافة سريلانكا. كما أصدر مرسومًا بحظر تجوال متواصل لمدة 36 ساعة إثر مظاهرات عارمة اجتاحت البلاد. المرسوم الرئاسي يحظر وجود أي فرد في أي مكان عام، حديقة أو شاطئًا أو طريقًا عامًا، ما لم يكن يمتلك إذنًا كتابيًا من السلطة.

تلك الإجراءات تأتي متذرعةً بمنع المزيد من الحشود التخريبية، كما وصفتها السلطة، من تدمير الممتلكات العامة والخاصة. كما فعلوا في أول أبريل/ نيسان 2022 بإضرام النار في في سيارات بالقرب من المقر الرئاسي. قوات الجيش انتشرت بكثافة في البلاد وأصبح لدى كافة الجنود حق اعتقال من يشتبهون فيهم من دون أوامر توقيف رسمية.

الغضب الشعبي في سريلانكا ليس وليد اللحظة، لكنه في الأيام الماضية بلغ ذروته. فالبلد يعاني من نقص العملة الأجنبية التي تستخدمها البلاد في دفع واردات الوقود. بالتالي ينقطع التيار الكهربائي في أرجاء البلاد لمدة نصف يوم أو أكثر بشكل متكرر. كما تعاني البلاد نقصًا في الأدوية والأغذية والعديد من الاحتياجات الأساسية الأخرى.

الأزمة التي تشهدها البلاد هى الأسوأ منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1948. فقد عانت الزراعة جفافًا تاريخيًا عام 2016. وفي عيد الفصح عام 2019 نفذ مسلحون هجمات أسفرت عن مقتل 279 شخصًا، فقضت على السياحة تمامًا. وحين ضربت جائحة كوفيد-19 العالم توقفت تحويلات المواطنين العاملين بالخارج، فتضاءل رصيد الدولة من العملة الأجنبية بشكل كبير.

وتسعى الدولة لحصول على دعم نقدي من دول مجاورة كالهند والصين وبنجلاديش. وإلى أن يأتي الدعم النقدي فإن الدولة، عبر البنك المركزي لها، تشتري احتياجاتها من النفط الإيراني بالمقايضة بأوراق الشاي. كما أجلت عدد من المدارس امتحانات طلابها بسبب نفاد ورق الطباعة اللازم للامتحانات.

صندوق النقد لا يبالي

بدأت المظاهرات يوم الخميس 31 مارس/ آذار 2022 حول القصر الرئاسي في العاصمة كولمبو. رواية المتظاهرين تقول إن الأمور كانت سلمية إلى أن أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين وبدأت بالاشتباك معهم. الرواية الحكومية تقول العكس، وتقارير وكالة الأنباء الدولية رويترز ينقل إصابة 20 فردًا من قوات الأمن بجروح نتيجة رشقهم بالحجارة من قبل المتظاهرين. كما تنقل اعتقال قرابة 50 متظاهرًا في الساعات الأولى للاشتباكات فقط.

لكن الثابت فيما يتعلق بتلك التظاهرات أنها تمثل تراجعًا حادًا في شعبية راجاباسكا، الرجل الذي فاز بأغلبية كبيرة في انتخابات الرئاسة عام 2019، ووعد ناخبيه بالاستقرار، لكنه توعدهم أيضًا بأنه سيكون صاحب يد قوية في حكم البلاد. كما تُنهي تلك الاحتجاجات الحكومة العائلية الذي كونها الرجل، فقد منح شقيقه الأكبر رئاسة الوزراء، والأصغر وزارة المالية. ويتولى أحد إخوته وزارة الزراعة، وابن شقيقه يتولى وزارة الرياضة.

وزراء الحكومة الـ 26 قدموا استقالتهم تضامنًا مع مطالب المتظاهرين، باستثناء رئيس الوزراء، شقيق الرئيس، ماهيندا راجاباسكا.ما دفع الرئيس إلى خروج في بيان رسمي ومطالبة المعارضة بقبول أي مناصب وزارية. كما استقال حاكم المصرف المركزي الذي رفض الموافقة على قروض صندوق النقد الدولي طوال فترة وجوده. ورغم استقالته أعلن صندوق النقد أن المفاوضات قد تستمر لنهاية العام الحالي لرؤية ما إذا كانت سريلانكا ستتلقى قرضًا من صندوق النقد أم لا.

ولا يبدو أن صندوق النقد عازم على إقراض سريلانكا في ظروفها الحالية. فالتقارير الصادرة عنه تقول إن سريلانكا تمتلك حاليًا ملياري دولار من الاحتياطي الأجنبي في مقابل ديون حالية بقيمة 3.9 مليار دولار. وأي قروض إضافية ستضطر البلاد إلى إجراءات تقشفية شديدة من أجل الوفاء بما تتطلبه خدمة الدين. ويؤكد صندوق النقد أن البلد يواجه مشكلة في الملاءة المالية.

سنغافورة الحلم إلى لبنان الواقع

الأزمة بدأت منذ 12 عامًا تقريبًا. حيث شهدت البلاد ارتفاعًا في الدين الخارجي ليصل إلى 88% من الناتج المحلي. وحين أتت جائحة كوفيد-19 صار الدين 101% من الناتج المحلي. حاولت سريلانكا معالجة الأمر بمنح تخفيضات ضريبية كبيرة لجذب الاستثمار، لكن تلك التخفيضات أدت إلى ضعف إيرادات الحكومة. وزاد العجز في الميزانية لثلاثة أضعاف في عام واحد، ولتغطية العجز استمر البنك المركزي في طباعة النقود بمعدلات قياسية.

كل تلك الاستدانة كانت مدفوعة برغبة آل راجاباسكا بتحويل الجزيرة الصغيرة إلى سنغافورة جديدة. وأنفقت الحكومة القروض على مشاريع في البنية التحتية لكن معظمها لم يحصل على استثمارات خاصة ولم يستطع أن يجني ربحًا يعادل ما أُنفق عليه، فتم إيقاف عدد كبير من المشاريع قبل إنهائها.

في ظل التردي الاقتصادي أصدر الرئيس قرارًا بأن سريلانكا لن تسمح إلا بالزراعة العضوية. بالتالي تم حظر أي أسمدة تُستخدم في الزراعة، ما أدى إلى تراجع محصول الشاي الذي تعتمد عليه سريلانكا بنسبة كبيرة في إنتاجها المحلي، بلغت الخسائر 425 مليون دولار في الشاي وحده. وخسرت البلاد 20% من محصول الأرز الموجود في الحقول، ما عكس الاكتفاء الذاتي الذي تمتعت به البلاد العام السابق، واضطرت إلى استيراد أرز بقيمة 450 مليون دولار.

تلك الخسائر المتتابعة للاقتصاد زادت الحنق الشعبي، لكن القطرة التي طفح بها كيل المواطنين هى أوراق باندورا التي نشرها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين في نهايات عام 2021. الأوراق كشفت أن عائلة راجاباسكا قد استخدمت شركات وهمية لإخفاء أموالهم في الخارج. والتي تقول المعارضة إنها نتيجة تراكم الـ10% التي تتقاضها العائلة عن أي تعاقد حكومي.

صراعات طائفية

آل راجاباسكا يحكومون البلاد منذ عام 2005، فطوال عشر سنوات ظل ماهيندا راجاباسكا رئيسًا للبلاد. وعرف بنزعته الديكتاتورية وقبضته الحديدية. وبعد 4 سنوات من خلو القصر منهم أعادهم جوتابايا إليه عام 2019. لاعبًا على وتر الإسلاموفوبيا، ومستغلًا التفجيرات التي طالت الكنائس في أعياد الفصح وقتلت قرابة 250 مواطنًا.

لذلك فالتردي الاقتصادي الذي تعيشه سريلانكا ينتج من تردي طائفي تحياه البلاد منذ عقود. فسريلانكا منقسمة بين أغلبية ساحقة للسنهالية البوذية، وأقلية من الهندوس، ثم المسيحيين، ثم المسلمين. يشكل البوذيون قرابة 75% من سكان البلد البالغ 22 مليونًا. الاضطهاد طال في البداية الأقلية الهندوسية، فأعلنت مطالبتها بوطن مستقل. فقامت حرب أهلية طاحنة قُتل فيها قرابة 70 ألف مدني، و27 ألفًا من الجنود. انتهت الحرب بهزيمة الهندوس، وانتهى حلم كافة الأقليات بإنشاء أقاليم مستقلة.

لكن انتصار الجيش دفع راجاباسكا لتعيين أكثر من 300 من أقربائه في مناصب عليا، وأطلق يد حلفائه المتشددين لاستهداف الأقلية المسلمة رغم أنها لم تكن مشاركة في الاحتجاجات من الأصل. وتفاقمت حالة الاضطهاد التي تعيشها البلاد، وسط اتهامات البوذيين للمجموعات الإسلامية بتدمير معابدهم وإجبار البوذيين على اعتناق الإسلام. وضُيّق على المسلمين وعلى الشعائر الإسلامية مثل ذبح الدواجن والماشية على الطريقة الإسلامية.

 وفي عام 2014 زاد الوضع تأزمًا بسبب موجات فرار المسلمين من جحيم ميانمار، وتسبب ذلك في موجة لجوء كبرى إلى سريلانكا. لكن الرهبان البوذيين استمروا في ترويع اللاجئين المسلمين، وأعلنوا رفضهم لزيادة عدد المسلمين في سريلانكا. ثم في مارس/ آذار 2021 أعلنت الحكومة حظر ارتداء النقاب الإسلامي، وإغلاق أكثر من ألف مدرسة إسلامية.

الصراع الطائفي رغم أنه كان برنامجًا انتخابيًا ناجحًا يستغله آل راجاباسكا، فإنهم عملوا على إشعاله أكثر فأكثر. ولم ينجحوا في مواجهته، ولم ينجحوا كذلك في الحفاظ على احتياطي الذهب الخاص بالبلاد، وباعوه في يناير/ كانون الثاني عام 2022. فباتت البلاد معرضة لخطر الإفلاس الكامل.