في سنة 711 توجه القائد العربي طارق بن زياد على رأس جيش إلى الأندلس، فهزم القوط هزيمة ساحقة، وأقام في جبل عُرف باسمه فيما بعد، وهناك بنى قاعدة عسكرية على الساحل، وهي مدينة الجزيرة الخضراء. وفي السنة التالية لحق بطارق قائده الأعلى موسى بن نصير الذي كان واليًا على إفريقية، ومضى يأخذ دوره في عملية الفتح ويتمم ما بدأه ابن زياد.

ويذكر أحمد أمين في كتابه «ظهر الإسلام» أن رجال الجيش الفاتح نزحوا من الشرق، وقطعوا مسافات بعيدة حتى وصلوا الأندلس، وكان طبيعيًّا ألا يرحل معهم عدد كبير من النساء، فاضطرتهم الحاجة إلى أن يتزوجوا من الإسبانيات ويستولدوهن، وخرج من هذا الزواج جيل جديد «مُولَّد» يشبه ما كان في الشرق من تزاوج بين عربي وفارسية، وعُرف المولدون من النساء الإسبانيات بالذكاء والشجاعة والجمال.

وحبب العرب في هذا الزواج ما عُرف عن الإسبانيات من جمال وبياض بشرة، واصفرار شعر وزرقة عيون، وهي صفات يحبها العربي كثيرًا؛ لأنها كانت جديدة عليه، بحسب أمين.

غير أن نتائج سياسية سلبية ترتبت على هذا الزواج المختلط بين العرب والإسبانيات، منها تدخل المرأة في أمور الحكم لا سيما الجواري والإماء، فكثيرًا ما كانت الجارية تستحوذ على قلب الأمير وتحيطه بأشراك جمالها وحبها، حتى تستأثر لديه بنفوذ وسلطان كبيرين إن اتخذها زوجًا له، وتزداد منزلتها إذا صارت أم ولده، فيلقي إليها عندئذٍ بمقاليده، ويسند إليها أموره، فتستغل هذه الفرصة لبسط نفوذها ونيل ولاية العهد لابنها.

أيلة: قتل الأمير عبد العزيز بن موسى

تذكر الدكتورة راوية عبد الحميد الشافعي في كتابها «المرأة في المجتمع الأندلسي من الفتح الإسلامي للأندلس حتى سقوط قرطبة»، أن الجواري «أمهات الأولاد»، وهو لقب عُرفت به الجواري اللاتي أنجبن للأمراء، مارسن نفوذًا كبيرًا في الحياة السياسية، فكثيرًا ما كانت تحدث في البلاط مآسٍ وروايات ومهازل وتُدبر فيه الدسائس، وتُنظم المؤامرات بين رجال البلاط ورجال الدولة، وكثيرًا ما كانت تشترك النساء في تلك المؤامرات بطريق مباشر أو غير مباشر، أو كانت تتدخل بشكل غير مباشر في اغتيال القيادات لتحقيق مصالح بعينها.

ومع بدايات الفتح الإسلامي للأندلس، تروي «الشافعي» ما حدث للوالي عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي خلف والده في الإمارة بعد رجوعه إلى دمشق عام 713 ليقدم للخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الأموال والتحف الثمينة التي حملها من الأندلس.

وقام عبد العزيز بتثبيت السيطرة الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا واستكمال فتحها والقضاء على الكثير من الثورات، فكان أول من نظَّم البلاد من الناحية الإدارية، ومهَّد لنقل الإسبان إلى الاستعراب، ضاربًا في ذلك المثل الأول بزواجه من «إيخلونا» أرملة الملك لزريق ملك القوط، والتي تطلق عليها المصادر العربية اسم «أيلة».

ومن المتحمل أن تكون هذه الأميرة قد أسلمت حتى ولو ظاهريًّا، ومن المحتمل أيضًا أنها بعد أن تزوجت عبد العزيز أنجبت منه فتًى أسمته «عاصمًا»، بدليل أنها حملت لقبًا جديدًا في المصادر العربية وهو «أم عاصم» نسبة إلى ابنها من زوجها الجديد، حسبما تذكر «الشافعي».

أيًّا كان الأمر، عاش عبد العزيز مع أيلة مدة ولايته في إشبيلية التي كانت العاصمة السياسية للأندلس في ذلك الوقت، قبل نقلها إلى قرطبة في عهد أمراء بني أمية، واتخذ سكنه معها في جزء من كنيسة «سانتا روفينا»، والتي تحولت فيما بعد إلى مسجد.

وبحسب «الشافعي»، حمَّلت الكثير من المصادر العربية، والتي نقلت الأحداث بنفس التفاصيل، هذه الأميرة مسئولية اغتيال عبد العزيز بن موسى على يد أتباعه. ويبدو أنها كانت على درجة كبيرة من الجمال والذكاء، بحيث استطاعت أن تفتن زوجها وتملك زمامه، فأقنعته بوضع تاج مرصع بالجواهر والذهب فوق رأسه في خلوته، تشبهًا بملوك النصارى، رغم أنه عارضها في البداية قائلًا لها: «ليس في ديننا استحلال لباسهم».

وبينما هو ذات يوم جالس والتاج على رأسه، دخلت عليه امرأة، كان قد تزوجها زياد بن النابغة التميمي أحد قادة الجيش، وكانت هي أيضًا من بنات النصارى، فرأته والتاج على رأسه، فلما عادت لبيتها قالت لزياد: «ألا أعمل لك تاجًا؟»، فقال: «ليس في ديننا استحلال لباسه»، فقالت: «ودين المسيح إنه لعلى إمامكم»، فأعلن ذلك زياد بن حبيب إلى أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، وتحدثا به مع خيار الجند، فلم تكن لهم همة في هذا الوقت إلا كشف ذلك، حتى رأوه عيانًا وصدقًا، فقالوا إن عبد العزيز تنصَّر، ثم هجموا عليه وقتلوه سنة 715.

وهناك رواية ثانية قيلت في أسباب مقتل عبد العزيز بن موسى، وهي أن زوجته أقنعته بضرورة أن يسجد الناس له كعادة ملوك إسبانيا، فرفض في البداية، وحتى لا يغُضبها اتخذ بابًا صغيرًا أمام مجلسه، حتى ينحني له كل من يدخل عليه دون أن يشعر الداخل بأنه ينحني، وجعل لإيلونا مجلسًا تنظر منه إلى الناس إذا دخلوا عليه وتراهم من موقعها دون أن يروها، فلما رأتهم ينحنون أمام عبد العزيز ظنت أنهم يسجدون له، فقالت له: «الآن قوي ملكك»، وبلغ الناس ما أراده عبد العزيز من وراء فتح هذا الباب الصغير، فثار أتباعه ومن معهم من العامة، ووثبوا عليه وقتلوه.

وتلفت «الشافعي» إلى أن المؤرخين وقفوا أمام وقوع هذه الأحداث بين مؤيد ومعارض، وتخلص إلى أن يد القُصَّاص ربما عبثت كثيرًا بالأحداث الفعلية كعادة المؤرخين المسلمين في نقل الأحداث وإضفاء المزيد من الخيال والأسطورة إليها، ومِن ثَم قد تكون هذه الأحداث وقعت بالفعل، ولكن ليس لدرجة أن يصبح عبد العزيز بن موسى ألعوبة في يد زوجته، مهما بلغ جمالها وذكاؤها.

فمن المعروف أن عبد العزيز له آثاره الواضحة وإنجازاته الكثيرة خلال الفترة التي تولى فيها حكم الأندلس، وإن كان زواجه بأرملة لزريق قد أوجد فيه القول، وسمح لأعدائه بفتح ثغرة عليه، فدخلوا له وقضوا عليه من خلال تلك المسألة التي ضخموا أحداثها، وأعطوها أكبر من قدرها.

ويرى خالد حسن الجبالي في كتابه «الزواج المختلط بين المسلمين والإسبان من الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة الأموية»، أن أم عاصم ربما كانت تهدف من وراء كل ذلك إلى استرجاع مكانتها القديمة، لا سيما أنها كانت تنتمي إلى أسرة ملكية، وذلك عن طريق تحريض زوجها عبد العزيز على الاستقلال بالأندلس وتأسيس دولة يكون هو ملكها. لكن هذا الاعتقاد ضعيف، فهذه الفترة كانت تمثل بداية الفتح حيث لم تكتمل مقومات الاستقلال التي تمكِّن عبد العزيز من الانفصال.

ويذكر «الجبالي» أن مؤرخين قالوا إن عبد العزيز أظهر سياسة التساهل والمرونة مع أهل البلاد، فأكرم النصارى من أجل زوجته، في حين ذهب آخرون إلى أنه بنى لإيلونا كنيسة على باب مسجده، وأنه كان يسكن بها معها، وزعم فريق أنها حملته على النصرانية فتنصر. لكن هذا الاعتقاد ضعيف جدًّا بدليل أن عبد العزيز بن موسى كان قائمًا يصلي في مسجد رفينة بمدينة إشبيلية يوم قتله على يد زياد بن عذرة البلوي سنة 715.

ويرى «الجبالي» أن سياسة التساهل التي نهجها عبد العزيز مع أهل البلاد ورضوخه لرغبات زوجته ولدت نوعًا من الكراهية بين الناس له، فظهر الكثير من الأقاويل والشائعات حول تنصره، ما دفع وجوهًا من الجند في الأندلس إلى استغلال الفرصة واغتياله.

طروب: حاولت قتل الأمير وولده

لم تحظَ جارية إسبانية بتلك الشهرة والمكانة التي حظيت بها طروب، فهي واحدة من الجواري الشماليات القادمات من منطقة تقع الآن ضمن حدود جنوب فرنسا، وكانت من أجمل نساء الأمير عبد الرحمن الأوسط (792- 852)، وأعظمهن سلطانًا عليه، ورغم ذلك كانت أقلهن وفاءً له.

وكانت من عادة نساء القصر أن يتنافسن طمعًا في العرش لأولادهن، وكانت طروب تريد العرش لابنها عبد الله، رغم أنه لم يكن أكبر أبناء الأمير عبد الرحمن سنًّا، لكنها كانت تفعل المستحيل لاستمالة العامة والخاصة لولدها، وكانت تجمع ما تستطيع من أموال الأمير لتلك المهمة، حسبما تروي «الشافعي».

وكان أكبر أولاده والمرشح لولاية العهد من بعده ابنه محمد، ولم تذكر المصادر أو المراجع اسم أمه، وكل ما يُعرف عنها أنها توفيت بعد ولادته على الأغلب، لأن التي تولت تربيته وإرضاعه جارية أخرى من جواري عبد الرحمن تدعى «الشفاء»، وكانت جميلة، تقية، عاقلة.

وأسرعت طروب إلى تدبير مؤامرة مع حاجب أو رئيس فتيان القصر الذي كان يتمتع بنفوذ كبير ويدعى نصر الخصي، لإزاحة محمد وتولية ابنها ولاية العهد، وذلك بالتخلص من الأمير عبد الرحمن وولده محمد بدس السم لهما.

وتصادف آنذاك أن وصل إلى قرطبة في ذلك الوقت طبيب عراقي يعرف بـ«الحراني» نسبة إلى مدينة حران بشمال العراق، فطلب منه نصر أن يعد له سمًّا زعافًا، ومنحه ألف دينار، ولم يستطع الطبيب الرفض لمكانة نصر في البلاد، ولكنه تحايل في إبلاغ إحدى نساء الأمير، وتدعى «فجر»، بما حدث، فأبلغت الأمير تفاصيل المؤامرة ليأخذ حذره.

وعندما قدم نصر الشراب المسموم للأمير عبد الرحمن طلب منه الأخير أن يشربه هو، فاعتذر نصر بعدم الرغبة فيه، وأن نفسه تعافه، فزجره الأمير بشدة، وأصر على أن يشربه، فعلم الخصي أنه لا يمكن مخالفة الأمير، فشربه، واستأذن في الخروج إلى منزله، وانطلق يركض مستغيثًا بالحراني صانع السم ليسعفه، فنصحه بتناول لبن الماعز، ولكنه مات قبل أن يؤتى باللبن وكان ذلك في شتاء عام 850.

وتذكر «الشافعي» في كتابها أن أول من انفرد بنقل تلك الأحداث من مؤرخي القرن الرابع الهجري الأندلسي أبو بكر محمد القرطبي المعروف بـ «ابن القوطية» في كتابه «تاريخ افتتاح الأندلس»، وكل من كتبها بعد ذلك نقل عنه لكن دون التعليق عليها. والعجيب أن كل المصادر الإسلامية وعلى رأسها المصدر الأم لم تذكر ما حدث لطروب، وتركت الكثير من علامات الاستفهام، مثل هل عرف عبد الرحمن بالمؤامرة؟ وإذا كان عرف، فلماذا تركها دون عقاب؟ وهل تغلب حبه لها على عقابها على تلك المؤامرة الكبيرة؟

وترجح «الشافعي» أن الأمير عبد الرحمن لم يمسسها بسوء، فلو كان فعل بها شيئًا لكان من الأحرى على ابن القوطية أول من نقل تفاصيل المؤامرة أن يذكر ما حدث لها، ولكنه لم يذكر شيئًا مفيدًا حول هذا الموضوع.

وبعد مرور أقل من عامين على تلك المؤامرة، وتحديدًا عام 852، توفي الأمير عبد الرحمن فجأة عن عمر ناهز ستين عامًا. وترجح «الشافعي» أن طروبًا ربما عاودت الكرَّة مرة أخرى، لكن دون أن تنكشف هذه المرة. وما يؤكد ذلك أن طروبًا لم تكف عن محاولة فرض ابنها، حتى بعد موت الأمير عبد الرحمن، لكن محاولاتها باءت بالفشل مع تولي ابنه محمد الإمارة، ومِن ثَم رضيت طروب بالأمر الواقع وضعف سلطانها مع موت مولاها عبد الرحمن الأوسط، وتقدمها في العمر وانحسار الأضواء عنها، فلم تحاول مرة أخرى، ولم يُذكر اسمها في أحداث الأندلس بعد ذلك.

مرجان: السيدة الأولى

رغم فشل طروب في مخططها، فإنها أفسحت المجال أمام زوجات أخريات بعد ذلك كي يتخذن خطوات أوسع وأعمق في مجال السياسة الأندلسية، مثل مرجان زوجة الخليفة عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله (891- 961)، وأم الخليفة الحكم المستنصر.

ويذكر خالد حسن الجبالي في كتابه أن مرجان كانت أكثر أزواج الخليفة حظوة لديه، حتى إنه فضلها على جميع حظاياه وخصوصًا على زوجه الحرة القرشية فاطمة بنت الأمير المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، والتي ولدت للناصر ابنًا هو المنذر، والذي أسمته باسم أبيها.

وتميزت مرجان برجاحة عقلها حتى أُطلق عليها «السيدة الكبرى»، وبقيت منزلتها تزداد عند الخليفة حتى ملكت زمامه، بدليل أن حظاياه لم يكن يصلن إلى مطالبهن ورغباتهن من الناصر لدين الله إلا بشفاعتها لهن إليه وتوسلهن بها لديه، وذلك لعظيم منزلتها وغلبتها على قلبه، وإذا غلبه التعب كان لا يقيم إلا عند مرجان، لأنه كان يشعر بطيب الراحة لمداواتها ورفقها.

صبح: صراع مرير على الحكم

أيضًا، من النساء اللائي كان لهن نفوذ سياسي وسيطرة على أزواجهن «صبح» التي ظهرت في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر بالله (961 – 976)، وكانت جارية تتصف بالجمال والحسن، وتجيد الغناء، وشغف بها «الحكم»، وأغدق عليها حبه وعطفه وسماها بـ «جعفر»، ومعناها الناقة الكثيرة الحلب، أو النهر، أو الجود والعطاء، ولعل ذلك راجع إلى أنها الجارية الوحيدة التي أنجب منها بعدما تقدمت به السن وهو محروم من الولد.

ويروي الجبالي أن «الحكم» حينما ولي الملك بعد وفاة أبيه عبد الرحمن الناصر كان قد بلغ السابعة والأربعين من عمره، ولم يكن رُزق ولدًا بعد، وكان يُتوق إلى ولد يرث الملك من بعده، فتحققت أمنيته على يد حظيته «صبح»، ورُزق منها بولد سماه «عبد الرحمن» سنة 962، وسُر بمولوده سرورًا عظيمًا، ثم ولدت له بعد ذلك بثلاثة أعوام ولدًا آخر سماه هشامًا سنة 965، فارتفعت مكانتها لديه بعد أن كانت مجرد جارية أو حظية.

ولبثت صبح تستأثر في البلاط والحكومة بنفوذ لا حد له، و«الحكم» يثق بإخلاصها وحزمها، ويستمع لرأيها في معظم الشئون، وكانت كلمتها هي العليا في تعيين الوزراء، وبقيت هكذا حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قُدر لها أن تقوم بدور عظيم في توجيه مصائر الدولة، هو محمد بن أبي عامر، الذي تولى إدارة أملاك عبد الرحمن الصغير سنة 966، ولما توفي عبد الرحمن عُين مشرفًا لأملاك أخيه هشام، ثم تدرج في تولي المناصب العليا في الدولة بفضل سعي صبح له عند زوجها.

ويبدو أن السلطة كانت اسمية بيد الحكم، بينما السلطان الفعلي كان بيد صبح، نظرًا لما بذلته من جهود كبيرة لإيصال محمد بن أبي عامر إلى هذا المنصب الرفيع، وإيصال ابنها هشام إلى ولاية العهد دون عمه المغيرة بن عبد الرحمن أحد المنافسين له، والذي قُتل على يد أبي عامر، وبإيعاز من حاجب الخليفة جعفر بن عثمان المصحفي.

وبعملها هذا قضت صبح على الخلافة الأموية؛ لأن المستنصر لم يكن يبغي جعل ولده هشام وليًا للعهد، وإنما جعل الخلافة لأخيه المغيرة، وهذا يظهر من كلام ابن أبي عامر إلى خاصته بعد وفاة الحكم، إذ طلب من خدم القصر ألا يذيعوا خبر وفاته، وفي الوقت نفسه يفصح لهم عما يدور في نيته حول جعل الخلافة في هشام مستغلًّا حداثة سنه، إذ كان في حدود عشر سنوات أو أكثر قليلًا حين تولى الخلافة، وفي ذلك يقول: «إن حبسنا الدولة على هشام أمنَّا على أنفسنا وصارت الدنيا في أيدينا، وإن انتقلت إلى المغيرة استبدل بنا وطلب شفاء أحقاده».

وبهذا استطاع محمد بن أبي عامر أن يضمن الملك والحكم لصبح وابنها بعد وفاة الحكم، مستعينًا بأموالها على ذلك، ثم سما له أمل التغلب على هشام المؤيد، فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها حتى تمكن من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وبنى لنفسه مدينة سماها «الزاهرة»، وجلس على سرير الملك وأمر أن يُحيا بتحية الملوك، بعد أن تسمى بالحاجب المنصور، كما أمر بالدعاء له على المنابر عقب الدعاء للخليفة، وتسمى عندئذٍ بـ«بالملك الكريم»، واستأثر بجميع السلطات والرسوم ولم يبقَ لهشام المؤيد من رسوم الخلافة سوى الاسم.

ولم تقف صبح مكتوفة الأيدي أمام ما حدث، فاتصلت بالعناصر المعارضة لابن أبي عامر، فامتد نظرها إلى أحد زعماء المغاربة واسمه زيري بن عطية حاكم المغرب الأقصى، ويُذكر أنها عملت ذلك بالاتفاق مع أخيها «رائق» على نقل الأموال لابن عطية سرًّا، وذلك مقابل حشد الجند والتأهب للعبور إلى الأندلس والقضاء على ابن أبي عامر، إلا أن الأخير فطن إلى المؤامرة قبل نضجها، فاجتمع بالخليفة هشام سرًّا، واعترف له بالفضل والفناء في حفظ قواعد الدولة، واستطاع بذلك الاستيلاء على الأموال ونقلها من قصر الخلافة بالزهراء إلى قصره المعروف بـ«الزاهرة».

ولما أيقنت صبح أن المعارضة عبث لجأت إلى السكينة والعزلة، فلم يُسمع عنها بعد ذلك شيئًا، ولا يعرف تاريخ وفاتها بالتحديد، وكل ما تقوله الروايات في ذلك إن وفاتها كانت على أيام ولدها هشام.

وما يذكر هنا أن الدولة الأموية بالأندلس انتهت فعلًا بانتهاء عهد الحكم المستنصر سنة 976، ولم يكن استمرارها بعد ذلك إلا صورة.

زوجات محمد بن عامر المنصور: أنهين الوجود العربي في الأندلس

وصل محمد بن أبي عامر المنصور إلى دفة الحكم، وأسس الدولة العامرية رغم وجود الدولة الأموية، لكن ذلك لم يدم طويلًا، لأنه توفي سنة 1001 جاعلًا ولاية العهد من بعده لابنه عبد الملك ابن زوجته الحرة التي تُعرف بالذلفاء، دون عبد الرحمن ابن زوجته عبدة بنت شانجة النصراني الملقب بـ«شنجول».

وعُرفت الذلفاء بتدبير المؤامرات والقتل، فذُكر أنها ساهمت في مقتل الوزير عيسى بن سعيد الذي نال منزلة كبيرة لدى عبد الملك، لا سيما بعد المصاهرة التي تمت بينهما، فقد تزوج ابن الوزير عيسى المكنى بـ«أبي عامر» أخت عبد الملك الصغرى، إحدى بنات المنصور، وكانت النتيجة أن ارتفع شأن الوزير، وعندها مال أصحاب عبد الملك على عيسى ونصبوا له عداوة وأوقعوا به عند ولي العهد بمساعدة الذلفاء، حسبما روى المؤرخ الأندلسي ابن بسام الشنتريني في كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة».

كما ساهمت الذلفاء في الإيقاع بالوزير عيسى لدى ابنها لمساهمته في زواج ابنها عبد الملك من جارية حسناء، فأوشت به لدى ابنها فأمر بقتله، حسبما نقل «الجبالي» عن ابن عذاري المراكشي في كتابه «البيان المغرب في بيان أخبار الأندلس والمغرب».

وبحسب «الجبالي»، كانت هذه المرأة سببًا في إسقاط الدولة العامرية، فقد اعتقدت أن ابنها عبد الملك مات مقتولًا من قبل أخيه عبد الرحمن الملقب بشنجول ابن ضرتها عبدة بنت شانجة.

ونتيجة للعداء الطبيعي بين الضرتين طلبت عبدة من ولدها شنجول أن يدس السم لأخيه عبد الملك، وبهذه الطريقة يصل إلى الحكم ويتخلص من أخيه، وفعلًا عمل بوصية أمه، ودس السم لأخيه مع أحد خدمه فقتله.

وسعت الذلفاء لاغتيال شنجول، ووجدت ضالتها في بني مروان رغم أنهم أعداء قومها، فاتفقت مع بشر الصقلبي أحد الفتيان الخارجين عن شنجول، والذي اتصل بالمروانيين ودعاهم إلى الأخذ بالثأر واسترداد الحكم من العامريين، فأشاروا عليه بمحمد بن هشام المعروف بـ«ابن عبد الجبار»، والذي يتصل بنسبه إلى عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، وكان يتسم بالقوة والبأس، ووعده الصقلبي بأن الذلفاء ستساعده وتمده بما يطلب من أموال إذا خلصها من عبد الرحمن شنجول، وكان لها ما أرادات،  إذ قام ابن هشام بثورته سنة 1008 واستمرت إحدى وعشرين سنة حتى وصل إلى الحكم ولقي شنجول حتفه.

وكانت هذه الفتنة سببًا في اندثار الخلافة الأموية، وانحلال وحدة الأندلس وتفسخها إلى دويلات صغيرة متناحرة، عُرفت باسم دول الطوائف، وكل هذا يعود في أسبابه إلى ثُلة من الزوجات ابتداءً بصنيع صبح زوج الحكم المستنصر، وانتهاء بالذلفاء زوج محمد بن أبي عامر المنصور، مرورًا بعبدة بنت شنجول، وكانت النتيجة انهيار الوجود العربي في الأندلس.