لماذا يهتم أحد رجال البلاط الملكي السعودي بنادٍ صغير قليل التمويل على الساحل الجنوبي لإسبانيا؟
جوشوا روبنسون، وول ستريت جورنال (27 يوليو 2020).

ربما تكون قد رأيت تلك اللقطة المثيرة للضحك، حين اندفع تركي آل الشيخ ركضًا للاحتفال مع لاعبي ألميريا، النادي الذي يستحوذ عليه بالكامل، بعد الوصول إلى الليجا بشكل رسمي.

توجه آل الشيخ إلى حارس مرمى في طريقه فهنأه، فإذا بالأخير يدفعه، ليكتشف الكل أن هذا هو حارس مرمى الفريق المنافس، لا حارس ألميريا.

ربما تضاف تلك اللقطة لرصيد طويل من لقطات عدم التوفيق التي تصاحب آل الشيخ دائمًا، ولكن بنظرة متجردة من أي خلفية، يمكننا أن ندرك أن تلك اللقطة لا تعني أي شيء على الإطلاق، إلا أن هناك ما وصل إليه الرجل في هذه التجربة يجعل هذه اللقطة مجرد حدث عابر.

أنت تعرف تركي آل الشيخ بالتأكيد، تعرف مآلات تجربة بيراميدز في مصر، تعرف أن الرجل أنفق على التجربة الكثير ولم تكن مربحة بالنسبة له، بل وآذته ذهنيًا في أكبر سوق عربي –مصر- حتى سب في المدرجات علنًا وهو أمر لا يحدث كثيرًا في مصر مع مسؤول سعودي مرموق.

خرج من بيراميدز لاعنًا الاستثمار في الرياضة المصرية، ومتحفزًا لمشروع جديد، كانت أول معالمه نسيان إخفاق الماضي برمته.

كان أهم ما تعلمه من تجربة مصر، أن مناطحة الإرث الجماهيري بالمال ليست معادلة رابحة، رأى ذلك في مدرجات الأهلي، ورأى ذلك في تهكم جماهير الزمالك رغم التنسيق الكامل مع مرتضى منصور، رأى ذلك في التناول الإعلامي، في الانتقادات المبطنة، رأى ذلك في اللوم السعودي الواضح له على إقحام السعودية في ترهات عديدة.

ولذلك كان عليه أن ينتقي خيارًا آمنًا بعيدًا عن أندية القمة، لاعتبارات مادية في المقام الأول بالطبع، إذ إن آل الشيخ استحوذ من ملاءته المالية على ألميريا دون دعم صندوق سعودي ولو بشكل رسمي، ولاعتبارات ذهنية وشكلية بعد ذلك إذ إن مسؤولًا سعوديًا مرموقًا لا يمكن أن يكون ضليعًا في كل هذه الترهات صباح مساء.

ألميريا الإسباني، كان الوجهة التي رست عندها سفن أموال تركي آل الشيخ، وهنا كانت الخيارات واضحة، لا مجال للمخاطرة، لن أنفق أموالًا دون طائل، سأهتم بما يجعل الجماهير تحبني، سأنزع صفة ذلك الثري اللا مكترث.

وبالفعل، أتم آل الشيخ الاستحواذ في 2019 على ألميريا مقابل 20 مليون يورو، مع سداد مديونيات تقدر بنحو 5-7 ملايين يورو مستحقة على النادي، وبإدارة مليئة بالمصريين والعرب مطعمة بإسبان، لم يكن منهم إلا النزر اليسير ممن عملوا مع إدارة الرئيس السابق لنادي ألفونسو جارسيا جابارون.

استدعى وكيل أعماله وذراعه الأيمن محمد العاصي ليتولى الإدارة التنفيذية للنادي، انتدب أكثر من صفقة قوية بمقابل مادي ثوري على نادٍ بحجم ألميريا كان ينشط في الدرجة الثانية الإسبانية في ذلك التوقيت، ولكنها لم تكن بذات البذخ بالنسبة لما يملكه آل الشيخ، وبدأت التجربة وسط وعود من الملياردير السعودي بنجاح ينتظر ألميريا، وبتصريحات تصر على أن تلك التجربة ستكون مربحة على المدى القصير لآل الشيخ نفسه.

مر على هذا التاريخ 3 سنوات فقط، والآن يمكننا أن نرى بوضوح أن كل ما وعد به الرجل كان حقيقيًا، وصل الفريق إلى الدوري الإسباني بعد 3 محاولات مستميتة، تخطى مرحلة التعادلية الاقتصادية، وبدأ في در أرباح كبيرة من أكثر من جهة. ولكن ما هي البنود التي عززت تلك الأرباح في مشروع آل الشيخ الأنجح إلى الآن؟

داروين نونيز

هل تعرفون أن ألميريا لا يزال إلى الآن يملك حقوقًا في واحد من أعلى الصفقات سخونة في الميركاتو الصيفي الجاري؟ إنه الأوروجوياني داروين نونيز، الذي استقدمه ألميريا في 2019 من بينارول الأوروجوياني مقابل 4.5 مليون دولار ومتغيرات تصل إلى 1.5 مليون يورو، قيمة 6 ملايين يورو نجح آل الشيخ بعد عام واحد في جلب قيمة صفقة الشراء كاملة جراءها.

ذلك لأن نونيز بيع لبنفيكا مقابل 24 مليون يورو، مع حقوق لألميريا في إعادة البيع تصل إلى 20%.

حاليًا تبلغ القيمة السوقية لنونيز نحو 55 مليون يورو وفق تقديرات موقع «ترانسفير ماركت» ويبدو هدفًا ساخنًا لكبار أوروبا، وكل 100 يورو من ضمن الصفقة سيذهب 20 منها لخزينة ألميريا.

التعادل التام

في الموسم الأول لتركي آل الشيخ مع ألميريا، تم إنفاق حوالي 27 مليون يورو على الصفقات القادمة إلى الفريق (منها نونيز) وتحصل النادي من مبيعات لاعبيه على أكثر من 5 ملايين يورو، بفارق إنفاق يصل إلى 22 مليون يورو.

وسط هذا الموسم، أصدرت صحيفة «الباييس» تقريرًا تحدثت فيه عن «الشيخ الذي أحدث ثورة في ألميريا» مستعرضة أن إنفاق النادي الأندلسي يتخطى إنفاق 8 أندية في الدوري الإسباني الدرجة الأولى «الليجا».

أما في موسم 2019-2020، فقد بلغ إنفاق ألميريا على استقدامات اللاعبين 23 مليون يورو، ونجح في الحصول على 24 مليون يورو من مبيعات لاعبيه أو بالأحرى لاعبه نونيز، ليسجل النادي فائضًا بقيمة مليون يورو وفق هذا المعامل، وكانت هذه هي اللحظة التي أعلن فيها آل الشيخ أن تجربته في ألميريا وصلت إلى نقطة التعادل ( Break Even point )، والتي تعني التعادل التام بين ما أنفق على التجربة وما أدرته من أموال.

وفي الموسم المنصرم، أنفق ألميريا 12.45 مليون يورو على استقدامات اللاعبين، بينما نجح في بيع لاعبين بقيمة 6.5 مليون يورو، ما يعني أن الكفة باتت في الإطار المعقول، وهو الموسم الذي شهد عودة ألميريا إلى الدوري الإسباني من جديد.

«واسطة القوة السعودية»

بينما يمكننا أن نعرف جميعًا ما الذي يعنيه رضا السلطة السعودية عن بلاء تركي آل الشيخ في تجربة ألميريا وهي الساعية إلى إضافة مزيد من القوة الناعمة لها، وما يمكن أن يدره عليه من مال غزير من فوق الطاولة وتحتها، فإننا يمكننا تخيل الشعبية القياسية التي حظي بها النادي في الشرق الأوسط فور إتمام آل الشيخ لعملية الاستحواذ.

في 2020، كتب جوشوا روبنسون الصحفي الرياضي بـ«وول ستريت جورنال» تقريرًا بعنوان: «واسطة القوة السعودية في الدرجة الثانية الإسبانية»، استعرض فيه كيف تغيرت مدينة ألميريا بالكامل منذ استحوذ آل الشيخ على النادي.

طرح روبنسون سؤالًا بالغ الأهمية في موضوعه: «لماذا يهتم أحد رجال البلاط الملكي السعودي بنادٍ صغير قليل التمويل على الساحل الجنوبي لإسبانيا؟»، مجيبًا: «السعودية تدرك من خلال آل الشيخ أنها تريد الترويج لنفسها كوجهة للسياحة المنفتحة على الصعيد العالمي».

في 2019، العام الذي استحوذ فيه تركي آل الشيخ على النادي، نشرت مؤسسة «ديبورتس أند فينانزاس» المختصة بتحليلات وأرقام كرة القدم إحصائية عن أكثر الأندية الإسبانية شعبية على إنستجرام لتكون المفاجأة أن ألميريا احتل المركز الحادي عشر متفوقًا على العديد من الأندية في الدرجة الأولى.

الآن يقدّر متابعو ألميريا على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بالملايين عبر كل منصة، محمد العاصي قال ذات مرة إن آل الشيخ طالب بأن يكون ألميريا «رقم 1 عبر وسائل التواصل الاجتماعي».

آل الشيخ استخدم طرقه المعتادة في تعزيز قوة وسائل التواصل الاجتماعي لكل ما يملكه، نجوم مثل رونالدينيو وزيدان وميسي وغيرهم روجوا لملكية آل الشيخ لألميريا، برامج كوميدية وشبابية من كل حدب وصوب وبرامج مسابقات جائزتها قميص ألميريا، سيارة تهدى كل أسبوع لمن يتوقع نتيجة مباراة ألميريا بشكل صحيح، وسائل بدائية يفعلها آل الشيخ صباح مساء، ولكنها للمفارقة تؤتي أكلها، ليس مالًا ملقًى على الأرض.

الليجا تأتي إليك!

تهتم الليجا بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة برفع قيمة عوائد النقل التليفزيوني للأندية الصاعدة إليها، ورغم أن الفجوة لا تزال كبيرة بين أول الأندية الصاعدة وأقل نادٍ في الدرجة الأولى، إلا أنه منذ عام 2018 شهد هذا الملف تغيرًا جذريًا لصالح القادمين إلى الليجا، وهي قيمة تقدر بنحو 25 مليون يورو على أقل تقدير بالنسبة للوافدين الثلاثة الجدد إلى دوري الأضواء.

وسحبًا من نقطة الشعبية في الشرق الأوسط، سيكون ألميريا زائرًا طيب الجلسة لدى رابطة الدوري الإسباني التي تدرك جيدًا أهمية السوق العربية، وهي التي أتت خلال السنوات الأخيرة بمقرين إقليميين رئيسيين في المنطقة العربية (دبي – القاهرة).

سيارات ألميريا المجانية

قبل أن يصل آل الشيخ إلى ألميريا، كان ملعب «ألعاب البحر المتوسط» الخاص بألميريا يتسع لـ 15 ألف مشجع، مع رقم أقصى للتذاكر الموسمية بلغ 8 آلاف مشترك، ذلك قبل أن يعلن النادي عبر رئيسه التنفيذي محمد العاصي وعبر آل الشيخ نفسه في أكثر من سياق بأنه سيجري عملية تطوير واسعة النطاق للملعب.

عملية تطوير ملعب النادي تمت منها مرحلتان إلى الآن، توسعة للملعب ومضماره وحرمه، وتحسين مستوى الأرضية وكشافات الإضاءة، ومنح هدايا للجماهير، ومن المنتظر أن يكتمل مخطط التجديد قبل استضافة أول مباراة في الليجا 2022-2023، وتزيد سعة الملعب.

الرجل بدوره لا يقصر في منح جماهير ألميريا هذا الطابع السخي، خصوصًا بعد إنفاق 1.2 مليون يورو مساعدة للمدينة لمواجهة تداعيات تفشي فيروس كورونا، مع استمرار روتين الكاميرا العشوائية التي تلتقط سعيد الحظ بالسيارة الجديدة في كل مباراة أيضًا، كل هذه أشياء حتى لو رأيتها أنت سفهًا فإنها تبني ثقة لدى الجمهور الذي سيملأ الملعب حبًا في تقاليع مثل هذه إلى جانب عشق الأندلسيين لكرة القدم بشكل عام، وعشق كل مدينة لفريقها بشكل خاص.

روبنسون يقول في تقريره الصادر على «وول ستريت جورنال» في 27 يوليو 2020، إن مواطني مدينة ألميريا لم يعودوا يسمعون سوى عن السيارات المجانية التي يمكنهم الحصول عليها في ملعب المدينة، وإن تذكرة موسمية تشتريها لتحضر مباريات الفريق من الملعب ستدر عليك من السعودية الكثير من الأموال!

أديداس وبوما .. والسعودية!

انطلاقًا من ذات النقطة، فإن العديد من الرعاة يعرفون جيدًا أهمية سوق الشرق الأوسط بالنسبة لهم، ولذلك انهالت عقود الرعاية على ألميريا منذ استحواذ آل الشيخ عليه، وقع النادي على شراكات بحجم «أديداس» لرعاية القميص في الموسم الأول في عقد مدته 4 أعوام لم يكتمل، والآن يمكنك أن ترى بوضوح شعار «بوما» على القميص.

هذا إلى جانب عديد الرعاة السعوديين، مثل شركة المراكز السعودية المتخصصة في تأسيس المجمعات التجارية والتي تزين المساحة الأعرض من صدر القميص، وكذلك تطبيق «والم» وللتنويه فإن العديد من الشركات السعودية تنضوي تحت ألوية أندية مختلفة في الليجا، مثل MCCI شركة الاتصالات السعودية التي باتت من رعاة نادي خيتافي، كل هذا التنسيق قد ينتج عنه شراكة أكبر في المستقبل تحت كونسورتيوم سعودي يستطيع الإنفاق ببذخ ويبدأ في بسط قوته الناعمة على دوري بأهمية الليجا.

كل هذا بالإضافة إلى أفكار مستقبلية لتطوير أكاديمية ألميريا وجعلها منجمًا لبيع المواهب الكروية من شتى أنحاء العالم وتأسيس فروع لها في الشرق الأوسط، لضمان تقليل النفقات في المستقبل وعقد صفقات رابحة بشكل مستمر، آل الشيخ يخطط لجعل أكاديمية ألميريا شبيهة بمدرسة ناشئي برشلونة «لا ماسيا».

أيًا كانت وجهة نظرك في سلوكيات تركي آل الشيخ على مستوييها العام والخاص، الإقليمي والمحلي، والجاد والهزلي، وأيًا كان مستوى اتفاقنا حول مبالغة بعض المنتفعين من الرجل في التعظيم من أي إنجاز يشرف عليه، لأن ولاء هؤلاء المطلق هو أساس أكل عيشهم، فإنك لا تملك إنصافًا إلا أن تصف تجربته في ألميريا بالوصف اللائق بها، وهو «النجاح».. نجاح على المستوى السياسي والدعائي ثم الرياضي والاقتصادي لن يكون مهمًا إذا وقفت على أرقامه كما فعلنا في السطور الماضية أن يكون الرجل على دراية بحارس مرمى فريقه الذي درّ له كل تلك الملايين.. ويعد بالمزيد.