في السابع من مايو منتصف عام 2008، وفوق ميدان سنتياجو بيرنابيو، افترست براثن ريال مدريد لقم فرانك ريكارد الصائغة -في زي البلوجرانا- بلا هوادة، ليُعلَن معها -حين ذاك- انتهاء حقبة الهولندي على رأس القيادة الفنية للعملاق الكتالوني، إكلينيكيًا، لتُقلب الدفة جهة الشباب، وبعد عدة أيام يُسدل الستار عن معدوم الخبرة القادم من الفريق الثاني، جوسيب جوارديولا، الذي لم تكن اكتملت إجازة تقاعده من الملاعب بعد.

بعد أقل من عقدٍ بقليل، وعلى نفس الميدان ووسط ذات الجماهير، أكلت عناصر برشلونة، وآخر ما تبقى من العصر الذهبي المنصرم، كل ما تبقى من هيبة ريال مدريد في ظل ولاية الإسباني المخضرم، رافاييل بينتيز، لتعزم جماهير الميرنجي على حذف كل ما يتصل بذكريات رافا بممحاة لا تترك أثرًا، ليُعلن بعدها بشهور قليلة عن تعيين المبتدأ تدريبيًا، زين الدين زيدان، في مغامرة غير مضمونة العواقب.

وبين هذا وذاك نجد العديد من التشابهات في تجربتي بيب جوارديولا وزين الدين زيدان في إسبانيا، البداية والخطوات والزحف نحو المجد، وربما النهايات، كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واحدة تتجلى في سماء الكرة في تلك الأثناء، كرة القدم تدار أفضل من قبل رجال وسط الملعب القدامى.


الانطلاق من ذات النقطة

اللاعب المصري في صفوف توتنهام والمدير الفني الحالي لوادي دجلة، أحمد حسام ميدو، أثناء تحليله للقاء الكلاسيكو الأخير بالسوبر الإسباني كان قد أكد أن أحد أقوى النقط التي اعتمد عليها زيدان في بداية رحلته كمدرب أنه استبعد تاريخه كلاعب من عقله، وبدأ تحسس خطواته شيئًا فشيئًا كمدرب حتى وصل إلى أن أصبح المدرب الرابع في تاريخ ريال مدريد من حيث الحصول على البطولات.

كل هذا بدأ في اللحظة التي تم تعيين زيزو فيها مدربًا لفريق ريال مدريد كاستيا -أو ريال مدريد ب-، قاد الفرنسي الفريق الثاني للملكي في 57 مباراة حقق فيها الفوز بنسبة هزيلة لم تصل لـ50%، لكنه خلال هذه الفترة تمكن من الحصول على شهادات التدريب الممكنة وخرج لرحلات تدريبية استكشافية ودورات في كل الفرق ورفقة كل المدربين، بالإضافة إلى الفوائد التي اكتسبها من وجوده كمدرب مساعد في جهاز المستر كارلو أنشيلوتي وهي الفترة التي تعلم فيها زيزو الكثير وأعاد معها دوري الأبطال إلى أحضان ملكها المفضل.

الأمر ذاته يعود إلى بيب جوارديولا الذي أنهى مسيرته الكروية وتحول بعدها مباشرة إلى مسيرته الاحترافية الجديدة كمدرب، لكنه بدأ قصته في المكسيك قبل أن يتولى زمام الأمور في الفريق الثاني لبرشلونة، الجميع يشير إلى بيب من الفترة التي تولى فيها الأمور داخل الفريق الأقل للإقليم لكنهم يغفلون رحلة المكسيك المثمرة للإسباني.

الإسباني بيب جوارديولا بجانب خوانما ليو.
الإسباني بيب جوارديولا بجانب خوانما ليو.

هناك، حيث تنحى بيب تمامًا عن كونه لاعبًا كبيرًا أو قائدًا سابقًا لبرشلونة وقرر أن يحمل مفكرة سوداء يتبع بها كل خطى أحد ملهميه، خوانما ليو، الذي كان يدير أحد الفرق في المكسيك وقت أن اعتزل بيب، وظل بيب كطفل صغير يسجل بنهمٍ كبير كل الملاحظات والتعليمات التي يستشفها من معلمه العبقري ليو. بالرغم من أن بيب وقتها لم يكن ضمن أعضاء الجهاز الفني، وكان مجرد لاعب وافد جديد على الفريق لكنه كان يظهر في بعض اللقاءات يلقي التعليمات للاعبين من على الخطوط ويصطحبهم في لقاءات خاصة بعد الحصص التدريبية من أجل وصف وشرح بعض الطرق التكتيكية، لذلك تعتبر هي البداية الحقيقية لبيب كمدرب قبل أن يحقق انطلاقة قوية مع برشلونة ب والتي استطاع خلالها أن يصعد بالفريق إلى الدرجة الثانية في الدوري الإسباني.

كلاهما تفوق فيما بعد على أستاذه: زيدان أقصى كارلو من دوري الأبطال بهزيمتين تتاليًا، وبيب أقصى ليو من تدريب ألميريا بهزيمة قاسية جدًا بثمانية نظيفة.

أنا أعلم أنه سيكون مدربًا عظيمًا، إنه عكس البقية: جميعهم كانوا لاعبين ومن ثم تحولوا تدريجيًا إلى مدربين، لكنه كان يلعب فقط منتظرًا اللحظة المناسبة ليصبح فيها مدربًا.

خوانما ليو عن بيب جوارديولا، ربما كان ليقول نفس الشيء عن زيدان أيضًا لو سُمح له ذلك.


ميسي ورونالدو في أفضل حالاتهما النفسية

تملّك بيب المقاليد الفنية في برشلونة في يونيو 2008، كان حينها ميسي يبدأ مسيرته كلاعب جديد في برشلونة، وبعد دراسة دقيقة لعناصر الفريق خرج بيب بالصدمة الكبيرة للصحافة وللجماهير، الإسباني قرر التضحية برونالدينهو وديكو وصامويل إيتو. البعض ظن أنه يزيح القوى الإعلامية والجماهيرية من أجل أن يُحكم السيطرة على غرفة الملابس، لكن بعد سنوات أكدت العديد من التقارير أن بيب كان يُمهد الطريق نحو الانفجار الكبير للنجم ليونيل ميسي.

رونالدينهو ساعد ميسي كثيرًا في وضع قدمه داخل الفريق، لكن بيب ظن أن كلا البرازيليين يمنعان ميسي من الانطلاق بقوة نحو التألق فقرر الاستغناء عنهما دفعة واحدة من أجل أن يصبح ميسي هو النجم الأكبر في خط هجوم الفريق.

تمكن بيب من تكوين خطة تعتمد في الأساس على قوة ميسي وتحركاته، وبعدما هدأت الأمور قليلًا بينه وبين صامويل، قرر بيب الإبقاء عليه وكوّن مع ميسي شراكة هجومية جبارة في الموسم الأول حققت العديد من النجاحات ولا سيما الفوز بدوري أبطال أوروبا على حساب مانشستر يونايتد بـ 2-0 محققًا إنجازين كبيرين على المستويين الفردي والجماعي بكونه أصغر مدرب يحقق لقب دوري الأبطال وقيادة البارسا ليكون أول فريق يحقق الثلاثية في تاريخ إسبانيا، بالإضافة لإحراز ألقاب كأس السوبر المحلية والأوروبية وكأس العالم للأندية في النصف الثاني من عام 2009.

خلال مسيرة بيب شارك ليونيل ميسي في 219 مباراة وسجل 211 هدفًا بنسبة 0,963 هدف لكل مباراة. تطورت موهبة ميسي وتبلورت، تمكن من أن ينال القلوب في برشلونة سريعًا، وأصبح هو وإنييستا النجوم المفضلة للجماهير كافة في كامب نو، حصل على بطولته الأوروبية الأولى ولم تنقطع أوصال البطولات من بعدها حتى الآن.

من كل قلبي وبكامل الإخلاص أشكر بيب جوارديولا على ما فعله في حياتي الشخصية والمهنية.
ليونيل ميسي على صفحته على الفيسبوك عن بيب جوارديولا

أما زيدان فقد قاد فريق ريال مدريد في يناير عام 2016، وقتها كان قد اخترق رونالدو بسرعته المعتادة حقبة الثلاثينيات من عمره، والمعروفة في عالم كرة القدم بانخفاض النسق وضعف اللياقة البدنية، لكن مع زيدان لم يكن لهاتين الملاحظتين وجود في مسيرة رونالدو.

لم يكن يحتاج رونالدو من زيدان أي محاولة لتكوين الشخصية أو تعليم ما هو جديد، فقط حسن استخدام ما وضعته السنون في أسطورة كالبرتغالي وهو ما قام به زيدان على أكمل وجه.

خلال مسيرة زيدان تمكن رونالدو من تحطيم الأرقام القياسية الممكنة كافة، تمكن من المكوث على عرش هدافي دوري الأبطال للمرة الخامسة على التوالي بـ 12 هدفًا في النسخة الأخيرة؛ ما جعله اللاعب الأول الذي يكسر حاجز المئة هدف أوروبي في مسيرته الاحترافية، تمكن من إحراز أهداف في ثلاثة نهائيات لدوري الأبطال، وصل لحاجز الـ600 هدف رفقة المنتخب والفرق التي لعب لها البرتغالي.

لم يشعر أحدهم أن رونالدو يناطح عامه الـ 32، الكل يشعر بأن كريستيانو في راحة نفسية وبدنية تجعله يفعل ما يريد وقتما يريد، يجلس فوق مقاعد الاحتياط بلا غضب أو غصة، ينتظر وقت أن يُشير له زيدان بالانطلاق ومن ثم يفعل ما يستطيع فعله دائمًا. زيدان لم يرَ أي طائل من استخدام رونالدو في الأدوار الأولى من دوري الأبطال، وكذلك في بعض اللقاءات في الدوري الإسباني، وهو ما أعطى مساحة كبيرة للاعب من أجل الحفاظ على أنفاسه للأمتار الهامة من سباق الموسم.

رونالدو في نهاية الموسم المنصرم

وبالرغم من اختلاف الدور التكتيكي والقدرات البدنية والفنية لكلا النجمين، لكن زيدان وبيب اتفقا على أهمية وجود رونالدو وميسي في عمق الملعب، أحدهم استخدم ليو كـ 9.5 –مهاجم وهمي-، والآخر اهتم بالقدرة الخرافية على إنهاء الفرص من أجل وضع الدون كرأس حربة صريح.

ستمر السنوات، وسنتذكر رونالدو وميسي عقب انتهاء مسيرتهما، وسنتأكد فيما بعد أن لكل من زيدان وبيب -على الترتيب- فضل كبير في مسيرة هذين النجمين.


صناعة التاريخ والمستقبل لكبيري إسبانيا

لقد ارتحت كثيرًا هذا الموسم مما جعلني أبدو بصورة جيدة في نهايته لنحقق كل هذا، كل الأمور تسير على ما يرام، هذا ما خططنا له من البداية.

كل من زيدان وبيب تولى الشئون الفنية في فرقهم بغير رضا الصحف، أغلب المتابعين كانوا يتوقعون الفشل للتجربتين لأن أصحابهما ليسا بالخبرات الكافية لقيادة سفن كبيرة كهذه، لكن بيب سرعان ما كسر كل الحديث السلبي عنه وعن فريقه بعدما أعاد كرة البرسا المحببة لقلوب الجميع والتي كان قد وضع حجر أساسها الراحل يوهان كرويف.

في حين ظلت الصحافة وبعض الجماهير تنتقد زيدان حتى وهو يحقق النجاحات واحدًا تلو الآخر، تارة محظوظ وأخرى ضعف الخصوم، والقافلة تسير.

لكن النقد الأبرز الذي وجه لزيدان في الجانب التكتيكي كان بخصوص اعتماده الذي كان يبدو زائدًا على استخدام أطراف الملعب أو بالأخص الكرات العرضية. بيب نال جزءًا من هذا النقض من قبل حينما وصفوا أطرافه الدفاعية بالضعيفة من أجل إعطائه أوامر واضحة بالطيران لأظهرته لحدٍ يجعلها تبدو كأجنحة هجومية صريحة، لكن كلاهما أيضًا فاز بالرهان في نهاية المطاف.

بيب وضع مجدًا لا يستهان به تكتيكيًا بعدما بات الدور الهجومي شيئًا لا يمكن الاستغناء عنه في كل أظهرة الطرف، وهو ما استغله زيدان بعد عدة سنوات بعناصر لا يختلف عليها اثنان على كل طرف. بيب كذلك قرر جلب الشاب دانييل ألفيش من إشبيلية ليستولي على الجانب الأيمن في برشلونة، وقرر الإطاحة بالكبير سنًا أبيدال من الجهة اليسرى للفريق. لم يساعد هذا فقط في تحسين الأمور على الأطراف وصناعة التاريخ، لكنه كذلك كان جزءًا من خطة بيب من أجل خلق جيل جديد لبرشلونة من عناصر جديدة تختلط مع أبناء النادي لصناعة المجد.

ولنفس النقطة ذهب زيدان، تخلى عن مبدأ الجلاكتيكوس لريال مدريد وقرر عدم الدخول في حروب ضارية من أجل الصفقات الكبيرة التي تكلف الكثير، لكنه قرر أن يخلط عناصر الخبرة في الفريق بشباب جديد كماركو أسينسيو وفاسكيز وسيبايوس وغيرهم من أجل تكوين جيل مختلف لريال مدريد.

زيدان وبيب اختارا الشكل الأمثل لفرقهم وتحركا في كل تفصيلة من أجل تنفيذ ذلك، كلاهما صنع ويصنع المجد بالفوز بأكبر عدد ممكن من البطولات، والأكيد أن لمجد زيدان في معسكر مدريد تكملة سعيدة كما كانت تكملة بيب رفقة البلوجرانا، وفي كلاهما نحن في غاية السعادة بكرة القدم التي قدمها ويقدمها الثنائي عديما الشعر مليئا التكتيك.