ربما كان صادمًا تفاعل عدد من الفلاسفة الغربيين مع ما حدث صباح يوم السابع من أكتوبر، الذي عُرف بـ«طوفان الأقصى»، والذي عبر عن آرائهم تجاه الحدث ليس فقط باعتباره هجومًا مسلحًا، ولكن أيضًا آراءهم الخاصة تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام، وموقفهم من الاحتلال الاستيطاني الذي تمارسه إسرائيل منذ النكبة وحتى يومنا هذا.

أولهم هو الفيلسوف السولفيني سلافوي جيجك الذي عُرف بمناهضته للرأسمالية وتمثلاتها ونقده المنهجي للأيديولوجيا، ولُقب بأخطر فليسوف في أوروبا لاتخاذه موقفًا معاديًا لليبرالية الجديدة التي تسيطر على الذهنية الغربية المعاصرة، ولكن رغم ذلك لم يجد غضاضة في الاصطفاف خلف الموقف الرسمي الغربي المشين تجاه القضية الفلسطينية مثله مثل أي سياسي غربي محافظ.

حيث أكّد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها تجاه من وصفهم بالمتطرفين، داعيًا الطرفين، أي الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى الحياة جنبًا إلى جنب في سلام كخيارٍ وحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

ولم يختلف موقف الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس كثيرًا، الذي يعد سليل مدرسة فرانكفورت العريقة، وقد أُطلق عليه أهم فيلسوف أوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي التي حاول فيها إعادة بناء مفهوم العقل مستندًا على الهيكل اللغوي.

فقد وقّع على بيان، برفقة عدد من الأكاديميين الألمان، يدين فيه هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر، ومؤكدًا حق إسرائيل في الانتقام دون أي قيد أو شرط.

فضلًا عن عدد كبير من الفلاسفة الغربيين المعاصرين المحسوبين أصلًا على اليمين المحافظ، الذي كان موقفهم أكثر راديكالية تجاه القضية الفلسطينية، أبرزهم الكندي “جوردان بيترسون”، وهو ليس فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي للكلمة، لكنه لطالما قدّم نفسه كفيلسوف، وقد دوّن على حسابه الخاص على منصة «إكس» فور وقوع عملية السابع من أكتوبر مطالبًا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بـ«إرسالهم جميعًا إلى الجحيم»، على حد تعبيره.

ربما تكون الصدمة تجاه تلك المواقف التي لا تختلف بحال عن موقف أي مواطن غربي محافظ منبعها الاعتقاد بأن الفلاسفة غالبًا ما يقدمون مواقف أكثر تركيبًا وتعقيدًا من المواقف الشعبوية أو حتى المواقف السياسية البراجماتية، وقد يكون ذلك الاعتقاد ليس خطأ تمامًا، لكنه ربما يكون أيضًا طوبايًا أكثر من اللازم، فالفلاسفة في نهاية المطاف ليسوا إلا بشرًا!

من خلال ذلك الافتراض، ماذا لو تخيلنا وجود فلاسفة الحداثة الغربية في عصرنا الحالي؟ الفلاسفة الذين أثرت فلسفاتهم بشكل مباشر على مجرى العقل البشري ومن ثم مجرى الحضارة، كيف كانوا سيتفاعلون مع القضية الفلسطينية؟ ومع أي طرف كانوا سيصطفون؟

هيجل: مع الدولة دائمًا

كانت فكرة الدولة كضرورة تاريخية من أهم الموضوعات التي دارت حولها فلسفة أحد أهم الفلاسفة في التاريخ الحديث فريدريك هيجل، فقد جادل هيجل بأن الدولة كيان ضروري لتجلي منظومة القيم والأخلاق والإرادة الجماعية في مؤسسات موضوعية، ولتسيطر على الإرادات الفردية وما يمكن أن تصنعه من فوضى.

وبغض النظر عن أن نظرية الدولة عند “هيجل” أكثر تعقيدًا بأشواط من التعريف المختصر والمجحف المذكور آنفًا، فإنه يتطابق تمامًا مع مواقفه السياسية، فقد كان “هيجل” أحد أقرب الأكاديميين لدوائر السلطة في مملكة بروسيا أثناء فترة عمله أستاذًا للفلسفة بجامعة برلين، ذلك الأمر الذي أثار ضده أحقاد معاصره آرثر شوبنهاور.

ولم يكتفِ هيجل بالتعبير عن نفسه كرجل نظامي خاضع للسلطة فقط من خلال قربه من صُنّاع القرار، حيث كان الرجل العبقري الغامض مولعًا بإمبراطور فرنسا الفاتح نابليون بونابرت، وقد وصفه هيجل بروح العالم، وهي وصف يعبر عن مدى إعجابه بنابليون، فروح العالم عند هيجل هي القوة التي تحرك التاريخ وتدفعه إلى التقدم باستمرار، فهكذا رأى الفيلسوف الألماني بطله الفرنسي الغازي رغم مشاريعه الاستعمارية وما نتج عنها من مذابح.

وبمد ذلك الخط على استقامته يمكننا أن نستشف كيف كان سيتفاعل هيجل مع القضية الفلسطينية، فلن يكون مفاجئًا لو وقف هيجل خلف الموقف الرسمي الألماني الداعم لإسرائيل صراحة، فلطالما كان مفكر الدولة المدلل، فضلًا عن كونه لا يجد ما يمنعه من توظيف المشاريع الاستعمارية فلسفيًا لخدمة فكرته عن حركة التاريخ، إضافة لكونه رجلًا يؤمن بأهمية الدولة بوصفها كيان يحفظ النظام ضد الفوضى، فالدولة عند “هيجل” ليست مجرد مؤسسة سياسية، بل هيكل ميتافيزيقي يولد من تجلّي الحق المطلق في التاريخ.

ماركس: شبح أوروبا

«شبح ينتاب أوروبا»، تلك كانت هي الجملة الافتتاحية التي استهل بها ماركس كتابه الشهير «البيان الشيوعي»، وهي الجملة التي يمكن أن نُعرّف بها كارل ماركس نفسه، فهو الشبح الذي أرعب أوروبا لعقود، ولا يزال ظله يثير كثيرًا من الإزعاج حتى اليوم.

لم يُشرّح ماركس هيكل النظام الرأسمالي الذي تأسس عليه العالم الحديث بمنتهى الدقة في تحفته «رأس المال» ويدلل على مناطق عواره فقط، بل كان رجلًا ثوريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد دفع ثمن مواقفه غاليًا.

قدم ماركس أساسًا نظريًا متماسكًا في فلسفة الثورة، حيث اعتبر الدولة جهازًا قمعيًا وظيفته فقط الحفاظ على سطوة الطبقات العليا من المجتمع على الطبقات الأدنى، بخلاف أستاذه هيجل، كما اعتبر أن الفعل الثوري هو المحرك للتاريخ، حيث يدفع إلى التغيير ومن ثم إلى المضي قدمًا تجاه المجتمع الشيوعي الذي بشّر به الفيلسوف المتمرد كنهاية حتمية للتاريخ، وربما يكون أهم ما قدمه ماركس لتاريخ الفلسفة برمته تأكيده على أن العالم لا يتغير بالأفكار ولكن بالعمل المادي والفعلي.

وبالطبع، مارس ماركس الفعل الثوري عمليًا أيضًا، فقد كان مهتمًا طوال حياته بإنشاء أحزاب وحركات سياسية تسهم في تحرير الطبقة العاملة من قيود البرجوازية، وقد نتج عن هذا الاهتمام في نهاية المطاف كتابة البيان الشيوعي برفقة صديق عمره فريدريك إنجلز ليكون بمثابة البرنامج السياسي لما عُرف برابطة العدل، التي كانت حركة سياسية شيوعية.

كما أدى نشاطه الصحفي والسياسي المناهض للحكومات والأنظمة الأوروبية إلى طرده من وطنه ألمانيا أولًا، ثم طرده من فرنسا، وبعدها بلجيكا، ليستقر أخيرًا في بريطانيا حتى وفاته.

ذلك الرجل الناقم على النظام السياسي والاقتصادي العالمي، والمساند للطبقات الأفقر والأضعف من المجتمعات، من اليسير أن نستبصر كيف يمكن أن يكون موقفه من القضية الفلسطينية والمقاومة ضد الاحتلال، خصوصًا لمعرفته العميقة والدقيقة بعلاقة رأس المال بالقهر والفقر والبؤس الواقع في العالم.

فلو تخيلنا ماركس بيننا اليوم، ربما كان أشهر داعمي القضية الفلسطينية في أوروبا، بل والمقاومة المسلحة كذلك، باعتبار مأساة الشعب الفلسطيني تجليًا لأعنف مظاهر سحق البرجوازية وسطوة رأس المال للحقوق الإنسانية الطبيعية، أو كما قال الفيلسوف الأميركي اليساري المعاصر نعوم تشومسكي: «جزء من مأساة الفلسطينيين هو أنهم لا يحظون بأي دعم دولي، لسبب وجيه: إنهم ليس لديهم ثروة ولا سلطة، لذا ليس لديهم حقوق، هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم».

ذلك الأمر الذي قد يؤدي إلى عواقب قانونية وخيمة، ربما قادته إلى السجن بتهمة دعمه الإرهاب ومعاداة السامية، علمًا أن ماركس ينحدر من عائلة يهودية أصلًا، ولكن تهمة معاداة السامية اليوم باتت سلاحًا فكريًا يمكن توجيهه إلى أي شخص، حتى وإن كان يهوديًا.

نيتشه: القوة ولا غيرها

لو أردنا تلخيص فلسفة «نيتشه» في فكرة مركزية واحدة ستكون بلا شك إرادة القوة، فقد كان المشروع الأساسي للفيلسوف الألماني المثير للجدل يتمحور حول ازدراء الضعف والضعفاء، والمنظومة الأخلاقية التي ينتج عنها الضعف.

حيث قلب نيتشه منظومة القيم التي تأسست عليها الحضارة الغربية رأسًا على عقب، مُحتقرًا ما أطلق عليه أخلاق العبيد، والتي يمكن تعريفها بأنها المنظومة الأخلاقية المسيحية حيث يكون الخير في القيم الداعية للوداعة والتسامح والزهد العام، والعكس صحيح، أي إن الإصرار على الصراع من أجل الوجود بكل معانيه ليس إلا شرًا، مؤكدًا أن أخلاق السادة التي تمجد القوة وكل ما يتأتى عن القوة هي الممثل الحقيقي للخير.

كما وصف “نيتشه” الأخلاق المسيحية بالعدمية لأنها تحتقر الطبيعة الإنسانية بوصفها طبيعة فاسدة على الإنسان أن يحاربها باستمرار، ولم يقبل أخلاق التنوير كذلك حيث اعتبرها عدمية أيضًا إذ إنها استبدلت بأخلاق المسيحية المفارقة منظومة أخلاقية وضعية محايثة حاربت حرية الإنسان وحدّت من إرادته.

أما مواقفه السياسية، فيمكن أن تخبرنا الكثير عن موقفه المتخيل من القضية الفلسطينية، فقد عارض “نيتشه” الأفكار القومية التي استند إليها بسمارك في محاولة توحيد ألمانيا خلال القرن التاسع عشر، كما كان من أشد المعارضين لمعاداة السامية أيضًا، حيث اختلف مع أحب الموسيقيين إليه ريتشارد فاجنر بسبب معاداته لليهود، كما اعترض بشدة على زواج شقيقته من رجل معادٍ للسامية.

لكن هذا الإصرار على رفض معاداة السامية لا يتطابق مطلقًا مع الأساس الذي تنطلق منه المواقف الغربية المناهضة لمعاداة السامية اليوم، فنيشته لم يكن ليبراليًا، بل كان عدوًا لجميع الأفكار والقيم التي تنتج عن المسيحية، وكان من بينها آنذاك معاداة السامية.

ومن هنا تتضح أمامنا الصورة أكثر، فربما لو عاصر “نيتشه” القضية الفلسطينية لاعتبرها انعكاسًا لمعاداة السامية أصلًا، حيث سعت المجتمعات الأوروبية للتخلص من اليهود مرة واحدة وإلى الأبد من خلال إرسالهم جميعًا إلى بقعة بعيدة، كما أن ازدراء نيتشه للأفكار القومية كانت ستقوده ربما إلى اتخاذ موقف معارض لإقامة دولة قومية لليهود.

أما عن القوة، فلا يمكن أن ينزلق نيتشه إلى الدعوة للعيش بسلام تحت احتلال يدهس الكرامة ويخنق الحرية يوميًا منذ عقود كما فعل العديد من الفلاسفة المعاصرين، فالوجود الحر والتخلص من القيود وتحطيم الأصنام هو الدستور الوحيد للفلسفة النيتشوية، وعندها تكون المقاومة هي الأداة من أجل تحقيق الخير المطلق.

كانط: راهب الأخلاق

تعد الفلسفة الأخلاقية هي اللبنة الأساسية لمشروع «كانط» الفلسفي برمته، حيث اعتبر أن الأخلاق هي موضوع العقل العملي، فجاءت ثلاثيته الشهيرة في نقد العقل لاستخلاص معايير أخلاقية من العقل وحده، نتيجة لأفول عصر الأخلاق الدينية في أوروبا تزامنًا مع حركة التنوير.

ويمكن تلخيص ما انتهى إليه كانط، تلخيصًا مجحفًا بالطبع، في اعتباره أن الأفعال الخيرة لا يجب عليها أن تكون مرتبطة بنتائجها، بل بمطابقتها للقانون الأخلاقي، أو الإرادة الخيرة، وقد وضع قانونًا أخلاقيًا صارمًا ينص على أن الفعل لكي يكون خيرًا في ذاته يجب أن يكون قابلًا للتطبيق في أي زمان ومكان دون أن يحدث تناقض، أي أن يصبح قانونًا كونيًا.

تلك الفكرة شديدة المثالية عن المعايير الأخلاقية دفعت “كانط” إلى تأليف كتابًا اسماه «مشروع للسلام الدائم» صدر عام 1795، وضع فيه دستورًا يجب على جميع حكومات العالم تطبيقه من أجل تحقيق سلام شامل ودائم للعالم بأسره، وقد نصت أحد بنود ذلك الدستور على تفكيك الجيوش النظامية بشكل كامل ودائم، إضافة لعديد من البنود الطوباوية الأخرى التي ربما تشير إلى أن معرفة “كانط” بالسياسة لم تكن مثل معرفته بالفلسفة.

وقد يكون فيلسوفنا الذي وصفه “نيتشه” بأنه ليس إلا قسيسًا يتنكر في دور الفيلسوف هو الرجل الذي سوف يتجنب اتخاذ أي موقف واضح من القضية الفلسطينية، باعتبار أن العنف لا يتفق بالضرورة مع القانون الأخلاقي، فالعنف مرفوض دون المضي قدمًا نحو غاياته.

لذا يمكن أن نتخيل كانط وهو ينشر تدوينة عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي، يدين فيها هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر، كما يدين أيضًا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ويدعون جميع الأطراف إلى التهدئة، وربما يبعث برسالة إلى بنيامين نتنياهو وإسماعيل هنية يطالب فيها الطرفان بتفكيك ترسانتهما العسكرية والتفكير في عواقب فيما لو أصبح القتل قانونًا أخلاقيًا عالميًا!

أما شوبنهاور فلا يستحق الكثير من الحديث عنه، فغالبًا لم يكن ليحرك ساكنًا تجاه ما يحدث في فلسطين، ولا في أي مكانٍ آخر، فقد كان يرى الفيلسوف الألماني الذي عُرف بالتشاؤم، بأن المشكلة الأساسية في العالم تكمن في الإرادة ذاتها، وأن الحل ببساطة هو التحرر من الإرادة وكل ما يمكن أن يؤثر فيها، لصالح أنماط فكرية تميل للزهد العام واعتزال العالم.

ولكنه بالضرورة كان سيعرف ما يدور من حوله، فقد وضع لنفسه طوال عشرات السنين روتينًا يوميًا التزم به بصرامة، كان يتضمن قراءة الجريدة يوميًا، كما أنه عاش لنحو 30 عامًا على بعد خطوات من الجيتو اليهودي بمدينة فرانكفورت، لذا فهو بالتأكيد لديه ما يقوله حول اليهود، لكن ذلك بالطبع لا يمكننا استنتاجه.

وفي النهاية، ليس المقصود من تلك الكلمات بالطبع مقاضاة فلاسفة عاشوا قبل قرون على أفكارهم التي كانت ابنة لثقافتهم وعالمهم وتجربتهم الشخصية، ولكن بالأحرى مد بعض الأفكار التي شكلت وعي العالم الحديث على استقامتها ومحاولة استقراء ما الذي يمكن أن تصل إليه في واقعنا المعاصر، حتى وإن كانت تلك المحاولة مبتسرة نتيجة لعديد من العوامل الضرورية التي ربما كانت غيرت في مسار تلك العقول الفذة إذا ما توفرت، فالأفكار لا تحاكم بأثر رجعي.