في تسعينيات القرن الماضي، كانت مجلات الأطفال التي تصدر شهريًا تزخر بتمارين تهدف إلى تحريك مخيلة الطفل واستثارة إبداعه. أحد هذه التمارين على سبيل المثال كان رسمًا منقوصًا، ويُطلب من الأطفال أن يكملوا الرسم الناقص بطريقتهم. وكان تمرين آخر يمثل رسمًا كاريكاتيريًا مثلًا، ويُطلب من القراء أن يكتبوا تعليقًا طريفًا أو حوارًا من جملتين. مثل هذه التمارين كانت تلقى صدى وتجاوبًا عند القراء، فيصل إلى الصندوق البريدي للمجلة آلاف الرسائل، والمدهش أن كلاً منها يحمل إجابة مختلفة، تتراوح بين العادية والإبداعية.

كبر هؤلاء الأطفال ودخلوا معترك الحياة، أصبحت لديهم أدوات الحياة بكاملها، وعلى المميزين منهم أن يبدعوا في توظيف هذه الأدوات. لم يعودوا مقيدين برسم ولا بتعليق. الجائزة المادية أصبحت أكبر، والجائزة المعنوية جمهورٌ ينتظر إبداع هذا الأديب أو الفنان أو ذاك. ولكن ما الذي نهدف إليه؟ وما علاقة هذا بمقالنا؟

في هذا المقال سنطبق لعبة الأطفال على عالم الكبار. الرسم المنقوص هو رجل أصيب بقذيفة في ساقه اليسرى. ولدينا لاعبتان/ روائيتان قررتا دخول اللعبة؛ الأولى أشهر من أن تعرّف، وهي البريطانية جوان رولينغ، صاحبة سلسلة الساحر هاري بوتر وسلسلة المحقق كورموران سترايك. الثانية معروفة لدى القراء العرب، قراء الروايات على وجه التحديد، وهي اللبنانية جنى الحسن، التي أدهشت الجميع بوصولها مرتين إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية رغم سنها الصغير.

كلتا الروائيتين رسمت لبطلها صورة مختلفة؛ صنعت له ماضيًا كاملًا، وتفاصيل حياة، وعبرت عن آماله ومخاوفه. وانتمت كل من الروايتين إلى فئة مختلفة: «طابق 99» إلى فئة الرواية الاجتماعية، و«Cuckoo’s calling» إلى فئة الرواية البوليسية. سنبدأ مع جنى بروايتها «طابق 99»، وبطلها الفلسطيني مجد الذي يعمل مصمم ألعاب إلكترونية، ويقيم في مدينة نيويورك. مجد عاش طفولته في مخيم شاتيلا على أطراف بيروت، وكان موجودًا في المخيم يوم وقوع المجزرة، في 16 سبتمبر/ أيلول 1982. يعود مجد بذكرياته ليخبرنا القصة:

لا يزال صوت أبي بنبرته القلقة يتردد في أذني، كما صورته وهو يحملني على ذراعيه بعدما أصبت بقذيفة في رِجلي. أصبت لأني خرجت حين دخل علينا أبي لأحضر أغراضًا تركها أمام باب البيت؛ حقيبة وكيسين لم أعرف ماذا كان فيهما. لا أدري كيف حدث الأمر بسرعة. رأيت الدم يسيل من وجهي أيضًا. لم أعرف أن شظية أصابتني هناك أيضًا. ركض أبي صوبي، أمي صرخت، وراحت تطلب منه أن يأخذني إلى مستشفى غزة وتدفعه بسرعة. كنت بين يديه وهو يهرع بي ليسعفني واختلط الدم مع عرقه المتصبب من جبينه قبل أن أغيب كليًا عن الوعي.

على الجانب الآخر، نتعرف على كورموران سترايك، وهو جندي سابق في الجيش البريطاني، وكان مشاركًا في الحرب على الإرهاب في أفغانستان. عندما كان يركب مدرّعة مع رفاقه انفجرت المدرعة فجأة عندما عبرت فوق لغم أرضي، وأدى ذلك إلى نسف ساقه. اضطر سترايك بعد ذلك إلى ترك الجيش، عاد إلى لندن حيث رُكّبت له ساق اصطناعية، واختار أن يعمل في مهنة التحقيق الخاص.

إذن كان ذلك هو الماضي. والآن، كيف سيتعايش كل من الرجلين مع عاهته الجديدة؟ الحقيقة أن المرحلة التالية لم تكن سهلة على أي منهما على الإطلاق. والد مجد هاجر به إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سكنا في حي هارلم في ولاية نيويورك وألحقه بالمدرسة. بالطبع لم يكن مع الأب ما يؤمن به دراسة جامعية لابنه، فاضطر الابن للعمل رغم عرجه المستديم، وعدم استطاعته السير إلا بمساعدة العكاز. ولأن قسوة الحياة لا تدوم إلى الأبد، ابتسم الحظ له فساعده مديره في العمل ليتم تسجيله في جامعة كولومبيا، وبعد تخرجه أصبح مصمم ألعاب إلكترونية، يمتلك مكتبًا فخمًا في الطابق التاسع والتسعين من إحدى ناطحات السحاب، وهو المكان الذي يشير إليه عنوان الرواية.

أما سترايك، وكون أنه ترك جامعته دون أن ينهي دراسته بها، فقد اختار أن يعود إلى شغفه القديم، فافتتح وكالة للتحري حيث الناس يلجأون في بعض الأحيان إلى خدمات المحققين لمراقبة بعض من يشتبهون في أمرهم، وأحيانًا للتحقيق في قضايا عجزت عنها الشرطة. سارت مهنته بصعوبة في البداية، حتى أثبت كفاءته في قضايا عجزت سكوتلاند يارد/ شرطة لندن عن حلها.

لكن المهنة ليست كل شيء، فهناك العلاقة المعقدة بين الإنسان وذلك الجزء المفقود من جسده. ويظهر أن تلك العلاقة تتبدى في أشد صورها تعقيدًا في الليل، حيث الهدوء وانفراد الإنسان بنفسه وبضعفه. يصف لنا مجد إحدى الليالي التي عجز عن النوم فيها فيقول:

رحت أجول في المنزل برجلي التي أعرج بها، متعمدًا أن أسرع في خطوي وأن أغرس قدمي في الأرض، كأني أتمنى أن يتداعى الجزء الأسفل من جسدي، تحديدًا الطرف الأيسر، على الرخام، لأتخلص من هذا الحمل الثقيل. كنت في حالة تحدٍّ مع جسدي، أتشاجر معه أحيانًا، أشتمه وأغضب منه.

على العكس منه، لا تبدو علاقة سترايك مع جسده عدائية أو تهجمية، بل هي أقرب إلى الحنين، فتصفه رولينغ وهو يخلد إلى سريره استعدادًا للنوم:

لا يزال يشعر بقدمه المبتورة التي اقتطعت عن ساقه قبل سنتين ونصف. كانت هناك، وكان في وسعه ثني أصابع قدمه التي زالت إذا أراد ذلك.

وتستمر الحكايتان، ويمضي البطلان في حياتيهما حيث العديد من المصاعب ما زالت تنتظرهما، لعل من أهمها الحب، ونظرة البطل إلى نفسه من خلال نظرة الجنس الآخر له. وتزدهر مواهب الروائيين ويشتد تنافسهم للإجابة على السؤال: أيهم أكثر إقناعًا وبراعة في إكمال الرسم المنقوص؟