سماء مظلمة تتحرك فيها كرة من اللهب، تعترض تلك الكرةَ كرةٌ أخرى، تتصارع الكرتان حين تلتقيان فيظهر ضوء أكبر ثم يخفت كل شيء. مشهد متكرر في الأيام الأخيرة في سماء فلسطين، ليس عرضًا للألعاب النارية أو معركة بين مجموعة من السفن الفضائية، بل صواريخ المقاومة الفلسطينية تتحرك تجاه نقاط معيّنة في إسرائيل، تعترضها صواريخ القبة الحديدية الإسرائيلية.

الاسم الأول المقترح للقبة هو مضاد القسام، Anti Qassam، لكن لاحقًا اعترضت الحكومة الإسرائيلية فاقترح القائمون على المشروع، أو زوجة الكولونيل القائم عليه تحديدًا، اسم تامير للصواريخ المستخدمة في التصدي، وتامير تقابل في العبرية كلمة الصواريخ الاعتراضية، واقترحت كذلك اسم القبة الذهبية للمشروع ككل. وافقت الحكومة على اسم تامير، لكنها رأت كلمة القبة الذهبية مبالغًا فيها قليلًا، واستقروا كلمة القبة الحديدية اسمًا رسميًا.

لأن شركة رفائيل، التي طوّرت تلك القبة، بإشراف من عمير بيرتز، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، كان هدفهم الأساسي هو اعتراض الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية التي تطلقها كتائب القسام. رغم أنه يمكن القول إن فكرة وجود نظام يحمي إسرائيل من الصواريخ جاءت بالأساس من حرب تموز عام 2006 مع حزب الله.

في تلك الحرب أطلق حزب الله قرابة 4000 صاروخ كاتيوشا قصر المدى، سقطت جميعها في شمال إسرائيل قتلت 44 إسرائيليًا، لكنّها في الوقت ذاته اضطرت قرابة مليونيّ إسرائيلي لمقاطعة أعمالهم وحياتهم والبقاء في الملاجئ. حينها فكرّ الإسرائيليون في نظام أتوماتيكي يعطي الإسرائيليين شعورًا بالأمان يجعلهم، نظريًا، لا يتوقفون عن ممارسة حياتهم رغم علمهم بأن صواريخ المقاومة مقبلة إليهم.

كيف تعمل المنظومة؟

القبة الحديدية هي نظام الأمان الذي يختبئ خلفه الإسرائيليون، وينظرون له بمثابة الضامن لكيلا تؤدي صواريخ المقاومة لأي خسائر مادية أو في الأرواح. من اسمها، قبة، يمكن القول إن دورها الأساسي، والوحيد، هو حماية ما تحتها مما قد يسقط من فوقها، أي حماية إسرائيل من صواريخ المقاومة الفلسطينية.

بدأ المشروع في عام 2007، وبدأ العمل فعليًا عام 2011، وتتألف القبة، مثل كافة أنظمة الدفاع الجوي، من منظومات متكاملة، كل منظومة تتكون من 3 مكونات رئيسة. الأول هو الرادار، ودوره هو اكتشاف الصاروخ المقبل وتحديد سرعته واتجاهه ومساره. يأتي بعده المكوّن الثاني، وهو نظام قيادة وتحكم بشري يعالج المعلومات التي يقدمها الرادار ويُقرر متى يستخدم المكوّن الثالث، الصاروخ المُعترض الذي سيدمر الصاروخ المقبل.

يجب أن يحصل تناغم بين الرادار ومركز التحكم لأن عملية الرصد، وتحديد مكان سقوط الصاروخ، والمكان الآمن المناسب لاعتراضه، كل ذلك يجب أن يحدث في ثوان قليلة للغاية. لأنه وفقًا للمسافة بين قطاع غزة، المصدر الأساسي للصواريخ، وإسرائيل، فإن الأخيرة لا تحصل إلا على 15 لـ90 ثانية فحسب للقيام بكل تلك العمليات.

تلك الثواني المعدودة هي المدة المتاحة للإسرائيلين للاحتماء من الصواريخ، فمثلًا إذا كان الصاروخ متجهًا لتل أبيب، أبعد نقطة عن غزة، فأمامهم 90 ثانية فقط، أما عسقلان فأمامهم 30 ثانية، وفي حالة أسدود فالمتاح لهم 45 ثانية. وإذا كان الرصد يتم تلقائيًا فإن العامل البشري هو أبرز نقاط ضعف المنظومة، لأنه يتأثر بتركيز الجندي وسرعة استجابته وتقديره للوقت المناسب للإطلاق.

أما الصواريخ، فكل منظومة تحتوي على 3 قاذفات صواريخ، وكل قاذفة بها 20 صاروخًا. تنطلق الصواريخ الاعتراضية حين يتوقع الرادار سقوط الصاروخ على أماكن مأهولة بالسكان فحسب، فلا تقوم القبة باعتراض كل الصواريخ المُطلقة. ذلك القرار يأتي من تكلفة صواريخ تامير، فتكلفة الصاروخ الواحد في أقل التقديرات 50 ألف دولار، و100 ألف دولار في أقرب التقديرات للصواب، بينما تكلفة صواريخ القسام تتراوح من 300 دولار لـ1000 دولار في أقصى الأنواع تطورًا.

الرشقات الصاروخية ونقط التشبّع

 يمكن للصواريخ الاعتراضية المناورة في الجو، لهذا نرى صور صواريخ القبة الحديدية المقبلة من غزة غير مرتبة وتبدو عشوائيةً في الجو، لكنّها في الواقع تقوم بدورها على أكمل وجه، المناورة وعمل شبكة من الفخاخ للصاروخ المقبل. كذلك لا تنتهي علاقة وحدة التحكم بالصاروخ عند انطلاقه، بل تظل الوحدة البشرية على اتصال الدائم بصاروخ تامير وتُحدّثه بموقع وسرعة واتجاه الصاروخ المقبل حتى تتم عملية الاعتراض.

كما أن المفاجئ أن الاعتراض قد لا يكون بصاروخ تامير واحد فحسب، لكن إذا كان القائمون على التحكم يرون أن المنطقة المتوقع سقوط الصاروخ منطقة حيوية، سواء مكتظة بالسكان أو سيكون لها ردود معنوي سيئ كأن يسقط في قلب تل أبيب، فإنهم لا يجازفون بإرسال صاروخ واحد، بل يطلقون صاروخين معًا، ما يعني فرصة مضاعفة لإسقاط الصاروخ، لكنه يعني أيضًا خسارة مادية مضاعفة.

مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يُفترض بالصواريخ الاعتراضية أن تصيب هدفها بدقة، يكفيها فحسب أن تنفجر بالقرب منه كي تدمره، لكن بالطبع يكون الركام المتساقط من ذلك الانفجار مصدرًا آخر للضرر ويمكن أن تسبب شظايا الصاروخين من عملية الاعتراض إصابات، قد تكون أكثر مما سيفعل الصاروخ المقبل، خصوصًا في حالة صواريخ القسّام قليلة الأثر التدميري.

لذلك تواجه إسرائيل انتقادات مستمرة، دولية ومن سكانها، لأن الرد العسكري الإسرائيلي بصواريخ تامير يبدو دائمًا مبالغًا فيه، فصواريخ حماس إن سقطت لن تؤدي لأضرار بقدر ما تفعل القبة الحديدية، كما أن القبة تضر بموازنة إسرائيل أكثر مما تفعل صواريخ حماس بميزانيتها.

خصوصًا أن المقاومة أدركت أن هناك نقطة تشبّع لتلك المنظومات، وأن هناك عددًا أقصى من الصواريخ تتعامل معه المنظومة في المرة الواحدة، لكن لا أحد يعرف بالضبط هذا الرقم، لهذا تعتمد المقاومة نظام الرشقات الصاروخية بعدد كبير من الصواريخ لتُغرق المنظومة في موجة هائلة من الصواريخ تعجز عن التعامل معها. وحتى إن نجحت فقد استنزفت الصواريخ محلية الصنع رخيصة الثمن صواريخ متطورة باهظة التكلفة.

تطور المقاومة يُحرج القبة

شاحنات ضخمة متحركة، تحتوي الرادار ومركز التحكم و ثلاث قاذفات صواريخ بكل قاذفة 20 صاروخًا، تسمى كل مجموعة شاحنات منظومة، إسرائيل تمتلك عشر منظومات كاملة قيد العمل. لا يمكن معرفة كم تمتلك إسرائيل تحديدًا من تلك المنظومات، لكن عدد 10 منظومات كاف للغاية لتغطية كامل المساحة التي تريدها إسرائيل، بخاصة أنها منظومات متحركة ليست ثابتة، ما يعطيها مرونة أكبر وقدرةً أعلى على تغطية مساحات أوسع.

فالمنظومة الواحدة يمكنها اعتراض مقذوفات في نطاق 70 كيلو مترًا، لذا نظريًا فإن إسرائيل تحتاج 3 منظومات إضافية لتكون بالكامل مغطاة بدرع القبة الحديدية. إضافة منظومات جديدة كانت احتمالية بعيدة وهدرًا للأموال لكن بعد الحرب الأخيرة، مايو/ آيار 2021، قد تُضطر إسرائيل لذلك. السبب هو أن المقاومة اتبعت أسلوبًا يعتمد على توسيع قطر دائرة الهجمات الصاروخية، بجانب عدم إطلاق الرشقات كاملة من منطقة واحدة أو مناطق متقاربة، فبات تركيز القباب الموجودة حاليًا ضعيفًا، لأن إسرائيل اضطرت لنشرهم على مساحات متباعدة بصورة أكبر عن الأعوام السابقة.

بالتالي فإنه قد تنخفض نسبة النجاح المعلنة والتي تتخطى 90% بناءً على تصريحات موشيه باتيل، مدير منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلي، وقال أيضًا إن المنظومة نجحت في التصدي لـ2500 مقذوف في السنوات العشر الماضية. ومن المؤكد أن قدرة القبة الحديدية تقل مع تطور صواريخ المقاومة.

 فالقبة من الأصل ليست مصممة للتصدي للصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى، وغير قادرة على التعامل مع أي صاروخ يجيد المناورة، كما أنها ضعيفة بشكل ملحوظ أمام الصواريخ دقيقة الاتجاه ونجاحها ضد صواريخ المقاومة نابع من البداية لضعف قدرات صواريخ المقاومة على التصويب الدقيق.

أكبر عملية احتيال

لكن حتى في الأعوام السابقة فتلك التصريحات تتعرض لانتقادات شديدة من الجانب الإسرائيلي أيضًا، فيصف المحللون العسكريون الإسرائيليون القبة الحديدية بأنها كانت أكبر عملية احتيال في التاريخ، لأن أقل مدة تحتاجها المنظومة لرصد الصاروخ والتصدي له هي 15 ثانية، ومع وضع العامل البشري في الحسبان يمكن أن يستغرق الأمر بضع ثوان إضافية، وبما إن رحلة الصاروخ من غزة إلى سديروت مثلًا تستغرق 14 ثانية، ما يعني أن القبة لن تكون فعالة ضد أي صاروخ يُطلق من مدى أقل من 5 كيلومترات.

يمكن الرد على تلك الانتقادات بأن الصاروخ لا يأخذ مسارًا مستقيمًا من نقطة انطلاقه لهدفه، بل يرتفع مكونًا منحنى ثم ينخفض مرة أخرى، أي أن الصاروخ لكي يصيب نقطة تبعد 4 كيلومترات عن نقطة انطلاقه يجب أن يقطع 11 كيلومترًا فعليًا، وبارتفاعه وانخفاضه يكون الصاروخ قد دخل في مجال الرادار مرتين، ما يعني أن أمام القبة فرصتين لإصابته.

لكن الانتقادات التي قد لا يوجد رد عليّها هي انتقادات شركة رايثون، عملاق الصناعات العسكرية، وانتقادات من بعض علماء الذين كانوا يعملون لشركة رفائيل، المصنّعة للقبة، بأن تحليلاتهم لمقاطع الفيديو التي يصوّرها الهواة وينشرونها لمواقع التواصل الاجتماعي تثبت أن قدرة القبة الحديدية على التصدي لا تتعدى أكثر من 5% فقط.

نسبة صادمة لكن يبررها علماء الشركتين بأن التصدي الناجح يجب أن ينجم عنه انفجاران، الأول لصاروخ تامير الخارج من القبة والثاني للصاروخ أو القذيفة المُعترضَة، لكن غالبية أشرطة الفيديو لا تُظهر سوى انفجار واحد فحسب، هو انفجار صاروخ تامير.

طبقات الدفاع: مقلاع داوود وباتريوت

سمعة إسرائيل انهارت مع انهيار القبة الحديدية، الولايات المتحدة لتوّها استوردت تلك التقنية التي تصفها إسرائيل بأنها أبرز إنجازاتها العسكرية، وأعلنت الولايات المتحدة أنها سوف تستخدم تلك القبة لحماية دول الخليج، لكن من شأن ما جري، وما سيجري، أن يضر بسمعة تلك المنظومات.

بخاصة أن المقاومة قد قصفت تل أبيب من غزة، يعني أن صاروخًا قطع مسافة 77 كيلو مترًا كاملة في الهواء، 77 كيلو مترًا تجعل الصاروخ لقمةً سهلةً للقبة الحديدية، رصده وتحديد موقعه واعتراضه، لكن وصل الصاروخ لتل أبيب وأصاب هدفه. لهذا تعتبر تلك الإصابة هي أسوأ إصابة في وجهة نظر وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، وأكثر اللحظات إحراجًا.

لهذا تعتمد إسرائيل على نظامين آخرين للدفاع الجوي بجانب القبة، بل الواقع أن القبة الحديدية هي أقل طبقات الدفاع الجوي الإسرائيلي. أما الطبقة الوسطى للدفاع فهي مقلاع داوود، وهي تتدافع ضد الصواريخ الإيرانية فاتح 110 مثلًا، وما يقابله في سوريا صاروخ إم 600، وكلاهما في ترسانة حزب الله، واستُخدما بكثرة في الحرب السورية. وفشل مقلاع داوود هو الآخر عام 2018 أمام صاروخين أُطلقا من سوريا تجاه إسرائيل.

أما الطبقة العليا، والأهم، فهي منظومة الباتريوت الأمريكيّة، والسهم2، والسهم 3، وجميعهم يشتبكون مع الصواريخ الباليستية طويلة المدى، وتستخدم ضد الطائرات المقاتلة، كما حدث حين أطلق العراق صواريخ بعيدة المدى على إسرائيل في حرب الخليج الثانية.

تُنقذ لكن لا تحمي

ولأن تكلفة صاروخ باتريوت واحد تتراوح من2 إلى 3 ملايين دولار، فلن تهدره إسرائيل ضد صواريخ المقاومة التي كانت تشبهها بأنها حشرات صغيرة ومن الغباء قتلها باستخدام مطرقة ثقيلة بينما يمكن قتلها بضربة يد بسيطة. ولهذا اشترت الولايات المتحدة، ويرغب الخليج، في القبة الحديدية لانخفاض تكلفتها، لكن بعد الأحداث الراهنة، لا بد أن الجميع يُعيد حساباته.

فشل القبة الحديدية أمر طبيعي، لولا أن إسرائيل تُصر على أنه غير ذلك. لا يوجد نظام دفاع يوفر حماية بنسبة 100%، هناك دائمًا هامش للخطأ يستغله الخصم، ونقاط ضعف مختفية تكتشف مع الوقت فتُعدّل، لكن السياسيين الإسرائيليين يصرون على إنكار تلك البديهيّة البسيطة.

لهذا تمضي الجبهة الداخلية الإسرائيلية في جهة، ويمضي السياسيون في جهة أخرى، السياسيون يبيعون وهم الأمن المُطلق، وأرض الواقع والأكاديميّون ومحللو الجيش يقولون إنه لا وجود لهذا الأمن المُطلق. هناك دائمًا مستوى معين من الخطر يعيش البشر فيه، ومن الصحيّ أن يستوعب البشر ذلك.

لكن إسرائيل زرعت في قلوب مواطنيها إيمانًا أعمى بأنهم محميون تمامًا، وأن منظومات الدفاع هي السبيل الوحيد للأمن، ما جعل الجانب الإسرائيلي ينفق قرابة 210 ملايين دولار سنويًا لتطوير القباب الحديدية ولتشغيلها، متجاهلًا بذلك سيناريو آخر بتدريب سكانها على كيفية التعامل عند مهاجمتهم.

لأن قدرة القبة على التصدي أمر مشكوك فيه، لكن المؤكد أن المقاومة الفلسطينية لن تتوقف عن إمطار إسرائيل بالصواريخ التي تتطور يومًا بعد الآخر، وأنه حتى وإن أنقذت القبة الحديدية عددًا من الإسرائيليين، فإنها بالتأكيد لن تجعل إسرائيل مكانًا أكثر أمانًا.