كيف ننصت إلى الموسيقى؟

سؤالٌ ساذجٌ لأنه ينبثق من حلم أشد سذاجة؛ أريد لأصدقائي ولمعارفي وللمصريين أن ينصتوا إلى «برامز» و«فاجنر» و«فرانز ليست» والـ «بيتلز» و«كوين» و«جون ليجند» و«بيلي آيلش». ثمة عوالم سحرية لا نعرف عنها شيئًا. في «هذا الهُناك» ثمة واحات وجِنان، بينها وبين صحرائنا جدار إسمنتي عملاق يجب نسفه.

استعملت لفظة «الإنصات» وليس «الاستماع»، والفرق بينهما هو كالفرق بين «المشاهدة» و«الرؤية»، فأن تسمع الموسيقى بالأذن، ليس كأن «تتعرّض» لها وأن تُنصت لها. إنها مهارة القفزة التي تقفزها حواسنا لتتعالى على رغبات الجسد وانفعالاته، إنها رهان «أن نتقن الانتماء إلى حواسنا بما تحمله من رغبة خلّاقة ومن محبة للحياة على نحو مغاير» [1]، وهي مهارة تُكتسب وتُصقَل بالتجربة، ولا ينبغي للمُنصِت أن يكون على دراية بالنظرية الموسيقية لتحقيق هذا المأرب، ومن هنا يأتي دور الناقد الموسيقي -الناقد عمومًا- أن يشير بإصبعه على جماليات أي عمل، ليدفع حواسنا بالقفز نحو الأعلى.

التعرّض للغواية

كلنا للأسف نعيش حالة بداوة فنية، لم ننشأ على تذوق الفن والجمال، كنا نغيب عن حصة الموسيقى في المدرسة، وكنا نرسم الشمس والأهرامات وحرب أكتوبر في حصة الرسم، ونتهكم على «أيام» طه حسين، لا نعرف أي شيء عن «سيزان» ولا «بيكون» ولا «رودان» ولا «بروست» ولا «جوته» ولا «إيكو» ولا «بريخت» ولا «بيكيت». نعم لدينا «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» و«أمل دنقل» و«صلاح عبد الصبور» و«عاطف الطيب»، لكن مجاورتهم غالبًا ما تكون محاولات فردية منّا لتجربة الـ «تعرّض» للفن.

صحيح أن حلم «شيلر» بـ «دولة جمالية» أصبح مفقودًا لكنه مطلوب؛ برنامج الـ «تعرض» الجماعي للفن يهدف لإعادة ترتيب فوضى الإنسان الحديث، يجب تهذيب الذائقة الجمالية لنا؛ أن نشتغل على وجودنا كما علمنا «هيدجر»، ويجب على «ديونيزوس» أن يمر على بلاد الشرق.

أن تتعرّض لشيء ما، هو أن تُصغِر له، أن تُسلّم بقوته عليك… تُعرِي لسياطه ظهرك… تتركه يغزوك… تمامًا كالمرض الذي يكون الجسم هدفًا له. إنها «نظرة أورفيوس» التي وصف بها «موريس بلانشو» قوة الفن بأنها «ترحيب الليل بنا» [2]، التعرّض للفن هو التعرّض للـ «انتهاك» والـ «غواية» والـ «خطر» بتعبير «إيهاب حسن». [3]

حسنًا، الموسيقى، كيف ننصتها؟

إنه سؤال قديم قدم الكون، لا إجابة واضحة محددة شافية عليه، هناك مقاربات له نظرية ونقدية شتى، ربما أشهرها حاليًا هي المحاضرة التي ألقها المايسترو البريطاني «بنيامين زاندر» عام 2008، في مؤتمر «تيد»، وهي موجودة على «يوتيوب» وقد حققت رواجًا شديدًا وجذبت أكثر من 6 مليون مشاهد.

فكرة «زاندر» بسيطة: جميع البشر لديهم أذن موسيقية، جميعنا لدينا المقومات التي تحقق هدف التعرض للموسيقى، خاصة الكلاسيكية، لأن هذا النوع من الموسيقى له سمعة الفن النخبوي -وما الفن النخبوي؟!- وحينما يُسمع هذا النوع، يكون إما في المطاعم الراقية، أو في المصاعد، أو حين يشغلها البعض في الخلفية، لتساعده على التركيز بينما يمارس نشاطًا آخر.

صحيح أن «الأنا» الغربية في طورها الحديث لا تزال تُعيد الزخم الجماهيري للموسيقى الكلاسيكية و«شعبنتها»، بأن عقدت جلسة صلح بينها وبين الرأسمالية، وبات هناك إقبالًا ملحوظًا عليها في عصر الصورة وصناعة الثقافة الرقمية.

لكن «الأنا» الشرقية لا تزال أفلاطونية وتضع الكلمة في مرتبة أعلى من المزمار، ربما لأن الأذن الشرقية تنصت إلى هذا «الصوت» الذي تحدث عنه «ميخائيل نعيمة» في كتابه «اليوم الأخير»؛ فـ «هناك دومًا في شرائع الشرق شكل من الانتظار أو الإنصات المحتشم لصوت ما سوف ينطق ويأمرنا بوضع سطر كبير يفصل حياتنا كما نعرفها عن عالم آخر». [4]

الأذن الموسيقية

الموسيقى العربية طربية وليست آلوية، الهارموني فيها على الهامش، على عكس الموسيقى الغربية التي امتلكت هذا العلم حصرًا [5]، لهذا فإن مصطلح «الطرب العربي» يناسبها أكثر. دائمًا ما تأتي الموسيقى وتشتغل وراء الكلام المُغنَى، دائمًا ما يخفت صوت العود حينما يبدأ الصوت العربي في الغناء، وحين يصمت ليشتم أنفاسه تبدأ التقاسيم والعفق والوصلات. «الأنا الشرقية» تحضر إلى مسرح الشعر… اللوغوس في الشرق ينطق من خلال الكلمة، اللوغوس في الغرب ينطق من خلال الكلمة والنغمة والصورة.

ومع ذلك، فإن المقاربات كلها تجُمع على شيء واحد: الإنصات/التعرّض المكثّف للموسيقى بكل أنواعها وأشكالها، طيلة الوقت: ميتال، روك، بوب، بلوز، جاز، هيب هوب، تركي، إيراني، هندي، عراقي، جزائري، لاتيني… إلخ، يتساءل «فرناندو بيسوا»: «لماذا علينا أن نمتلك بيانو؟ الأفضل هو أن تكون لدينا أذنان، وأن نحب الطبيعة». [6]

يجب التفريق بين الأذن الموسيقية العادية وبين الأذن الموسيقية المثالية Perfect Pitch، فالأولى تساعدنا جميعًا على معرفة النشاز مثلاً، لكن الثانية هي مهارة نادرة يمتلكها البعض ويُحدِّد بها -بمجرد السمع- أسماء النغمات والمقامات والكوردات، إنها مكتبة دماغية للموسيقى، ولا يشترط حتى لدى أمهر العازفين أن تكون لديهم هذه المكتبة [7]، لكن يمكن الوصول إلى درجة كبيرة منها بالتدريب، خاصة من الصغر لأن الذاكرة البشرية عند الأطفال تكون أكثر استيعابًا لامتصاص وتخزين المعلومات منها لدى الكبار.

ومع ذلك فليس من الضروري حتى لدى الموسيقيين أن يكون لهم أذن مثالية، لأن هذا الأمر ليس عمليًا باستثناء مساعدة العازفين على ضبط آلاتهم لتناسب حدة النغمة، وحتى هذا ليس مطلوبًا إلا إذا كان العازف وحيدًا، أفلا تشاهد قبل بدء أي حفلة موسيقية العازفين وهم يصدرون ضجيجًا بآلاتهم؟ إنهم يضبطون الآلات على نغمة «لا»، ناهيك عن أن هذا الأمر أصبح سهلاً الآن نظرًا لوجود تطبيقات إلكترونية تفعل نفس الشيء، ولذلك فإن أي تدريس أكاديمي للموسيقى لا يُركِّز على صقل الأذن المثالية، ولكن الأذن الموسيقية. [8]

«مخلوقات بروميثيوس»

في ورشة الإنصات، ثمة «اشتغال على حقل الإنساني بما هو حقل الرائع بكل أشكاله» [9]. الإنصات يتجاوز الموسيقى نفسها ويشمل سياقاتها المتعددة؛ أن تنصت لدراسات «شوبان» المعقدة على البيانو Études، يعني أيضًا أن تعرف كيف ولماذا لُحنت، وما الظروف النفسية والاجتماعية للمؤلف الذي لحنها، يعني أن تتجاوز المؤلف نفسه وتعرف ظروف البلد التي عاش فيها والمجتمع في هذا الوقت. إنه نشاط كُلي مُطلق وقلِق، وأي جهد إنصاتي يكون دائمًا خبرًا سعيدًا للعقل في أي ثقافة.

فلنضرب الآن مثالاً عمليًا على كيفية الإنصات: سننصت إلى صمت «بيتهوفن»… أشهر أصم في التاريخ.

في عام 1801، ألّف «بيتهوفن» باليه بعنوان «مخلوقات بروميثيوس»، فكرة العمل أصلاً قائمة على فلسفة الأنوار لـ «شيلر» و«كانط» و«شيلينج»: الفن هو ابن الحرية، وفلسفة السعادة هي الهدف الأسمى لنا على الأرض التي يجب أن تكون فردوسًا جماليًا لنا، كان ذلك إبان صعود «نابليون» الذي اعتبره «بيتهوفن» ومثقفو الأنوار، تجسيدًا للألوهية. كان هذا الوقت زمن السرديات الكبرى، كان هذا الزمن الذي وصفه المؤرخون بفترة «بيتهوفن» الوسطى أو البطولية.

حوّل «سلفاتوري فيجانو»، مؤلف نص الباليه، «بروميثيوس» الإغريقي إلى بطل عصر التنوير، فيجد البشرية في حالة جهل مدقع، ويأمر «أورفيوس» و«أبولو» و«أمفيون» و«آريون» و«ثاليا» أن يُعلموا البشرية العلوم والموسيقى والتراجيديا والكوميديا. قال «بيتهوفن» في مرة: «الفن والعلم فقط يرفعان الإنسان إلى مرتبة الآلهة». [10]

يمكن أن نقول إن نهاية هذا الباليه غيّرت من شكل الموسيقى على كوكب الأرض. كان «بيتهوفن» مأخوذًا بمعالجة «فيجانو» للنهاية: «بروميثيوس» يُقتَل على يد إله التراجيديا «ميلبوميني»، ثم يعود للحياة على يد إله الكوميديا «ثاليا»، فتعم الفرحة والبهجة الحياة.

كيف ترجم «بيتهوفن» هذا؟

لحّنه في شكل رقصة كان مهووسًا بها لدرجة أنه وضعها في 3 أعمال أخرى: رقصات شعبية Contredanses، و15 تنويع ارتجالي على البيانو على نفس اللحن الأصلي، ثم أعاد مرة أخرى توزيع اللحن وإدماجه في نهاية ما يعتبره البعض أعظم عمل سيمفوني على الإطلاق: السيمفونية الثالثة، التي أطلق عليها اسم «البطولة» بعد أن شطب عنوانها السابق «نابليون».

كائنات موسيقية

قبل ظهور بوادر الصمم عليه، اكتسب «بيتهوفن» شهرته في الدوائر الأرستقراطية بعاصمة الموسيقى «فيينا»، من خلال قدرته على الارتجال اللحظي على الألحان، ولهذا كان يبرع في فن التنويع، الذي هو ببساطة تكنيك لحني أو بالمصطلح الحديث «توزيع موسيقي»، ولهذا استخدم هذا التكنيك في جميع موسيقاه.

ولتقريب الأمر؛ أغنية «يا أنا» لـ «فيروز» هي أشهر مثال للـ «تنويع»، فاللحن الأصلي مأخوذ من رائعة «موزارت»، السيمفونية رقم 40، بالتحديد الحركة الأولى منها Molto allegro، إلا أن «الرحبانية» أضافوا زخرفة على اللحن مُضافًا إليه صوت «فيروز»، فأصبحت الأغنية «تنويعًا» للسيمفونية 40.

إن التنويعات الـ 15 للحن رقصة «بروميثيوس» اعُتبرت عند الأكاديميين ومُنظِّري مدرسة فيينا الثانية -مطلع القرن العشرين- من أكثر الأعمال الحداثية في تاريخ الموسيقى الغربية بجانب أعمال «بيتهوفن» المتأخرة، وبالأخص رباعيته الوترية الأخيرة. وبسبب تعقيدها هذا، فهي ليست أشهر أعماله، على الأقل ليس بشهرة مقطوعة «من أجل إليز» Für Elise، والتي وللمفارقة، لم يكن يُلقي لها بالاً، لدرجة أنه لم ينشرها في حياته.

كل تنويع على هذا اللحن البسيط، عملٌ قائمٌ بذاته، شخصيته ومزاجه وحتى نوعه، يختلف عن الآخر، كل تنويع يحكي قصة مختلفة. اخترع «بيتهوفن» طريقة في التلحين سمّاها «البرنامج»؛ وهي أن العمل الموسيقي يصبح كتلة واحدة تحكي قصة ودراما.

إن الموسيقى ومقاماتها والتكنيك فيها، كلها أمور تُشكِّل لديه وسيطًا للتعبير عن أفكاره وأحاسيسه وقصصه، إنها «كائنات موسيقية» بتعبير «برجسون». لقد كان «بيتهوفن» انطباعيًا قبل الانطباعيين، ولا يجب أن ننسى أن رومانسية القرن الـ 19 نهضت على أكتافه.

كل هذا الإصرار على التنويع على هذا اللحن، يعكس مدى أهميته لدى «بيتهوفن»، ليس على المستوى التكنيكي ولا الجمالي فحسب، وإنما على المستوى الأخلاقي والفكري، إنها ثيمة البطولة والأنوار: مثلث اللوغوس والإيثوس والباثوس يكتمل في شكل إطلاقي. [11]

المراجع
  1. أم الزين بن شيخة المسكيني، “تحرير المحسوس”، ص14.
  2. Maurice Blanchot, “The Space of Literature”, p.171.
  3. Ihab Hassan, “The Postmodern Turn: Essays in Postmodern”, p.11.
  4. فتحي المسكيني، “الكوجيطو المجروح”، ص 197.
  5. Craig Wright, “The Essential Listening to Music”. p.24.
  6. Fernando Pessoa, “Guardador de Rebanhos”, p.38.
  7. John Powell, “How Music Works”, p.14.
  8. John Powell, “How Music Works”, p.15.
  9. أم الزين بن شيخة المسكيني، “تحرير المحسوس”، ص36.
  10. Jan Swafford, “Beethoven: Anguish and Triumph”, p.88.
  11. Jan Swafford, “Beethoven: Anguish and Triumph”, p.292.