تعتبر شركة Macey’s أكبر شركات تجارة تجزئة في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تأسست قبل ١٦٧ سنة ثم انتشرت فروعها في كل أرجاء البلد، وقد حافظت على مر تاريخها علي حصة من السوق تتراوح بين ٨٪‏-١٧٪، وبلغ حجم موظفيها في ٢٠١٦، ١٤٨ ألف موظف. لكنّ العام نفسه، 2016، شهد إعلان الشركة عن خطة لغلق ١٠٠ فرع لها حول امريكا وتخفيض العمالة بسبب الخسائر التي أصابتها بتأثير التجارة الإلكترونية E-Commerce. في نفس الوقت، كانت أمازون في سياتل تفتتح أول فروع لـ «Amazon Go»، وهو سوبر ماركت هائل، «من الإبرة للصاروخ» بالتعبير المصري، لكن الأهم، أنه على الرغم من ذلك يعمل دون أي موظفين، فقد حلّت محلهم الروبوتات.

وفي نفس الوقت أيضًا، كانت شركات البناء في مدينه نيويورك تتسابق لتقتنص عقد تجديد مبني «7 west 34th» الذي اشتراه العملاق الجديد أمازون، وهو بمحض الصدفة الدرامية، يقع في نفس الشارع الذي يقع فيه الفرع الأكبر على الإطلاق للعجوز القديم Macy’s. كانت تلك المصادفة إذن بمثابة إعلان عن بداية أفول شكل من أشكال العمل، وبداية مرحلة من إعادة الهيكلة Restructuring لسوق العمل الجديد حيث الأتمتة Automation تهدد شكل سوق العمل المعتاد الذي لطالما كنا معتمدين عليه بشكل مباشر أو غير مباشر للحصول على لقمة عيشنا.

في هذا المقال، أضع بعض الأفكار، ليس عن أولئك الذين سيتضررون من تلك العملية، بل عن نوعيات من الناس لن تنجو من المذبحة القادمة فحسب، بل ستركب الموجة لتتربح من الشكل الجديد للسوق. وقد حاولت قدر الإمكان أن أُوصِّف الشخصيات التي ستنجو، وكيف يكون لدى كل منها تلك المهارات التي تضعه بين تلك الشخصيات، لكن ذلك احتاج إلى أكثر من مقال واحد. لذلك، فالجزء الأول من تلك المقالة سيكون تعريفًا يتضمن أمثلة عملية، لشخصيات موجودة ونجحت ولمعت بسرعة جدا، و يمكنك تتبع مسيرتها ببحث بسيط عن أسمائها, أما الجزء الثاني – بإذن الله، فسيشتمل على الصفات المشتركة بين تلك الشخصيات، وعلى كيفية اكتساب المهارات اللازمة لتكون أحدهم.

1. نيت سيلفر Nate Silver: العامل ذو المهارات العالية

مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة سنة ٢٠١٢، وكالمعتاد في هذا الوقت من العام، يرتفع معدل الزيارات لموقع نيويورك تايمز، لكن ما كان غريبا ذلك العام هو أن 70% من الزيارات توجّه إلى مدونة صغيرة تابعة للموقع يقوم عليها صحفي مغمور اسمه نيت سيلفر، كان يكتب عن أخبار البيسبول، لكنه استغلّ أنه اختصاصه الأصلي كمحلل إحصائي ليقوم بتصميم نموذج بياني يتوقع نتائج الانتخابات؛ وجاءت نتائجه دقيقة بالفعل. فاز باراك اوباما سنتها بالانتخابات، وربحت معه نيويورك تايمز الكثير.

لم ينتهِ ذلك العام إلا وقد أصبح سيلفر موضوع تنافس الشبكات التليفزيونية، وقد وقّع سيلفر بالفعل عقدًا مع ESPN لبرنامج خاص به، ويقال إن قيمة عقده الجديد بلغت 32 ضعف قيمة عقده السابق كصحفي مع نيويورك تايمز. تخيل أن يتضاعف مرتبك ٣٢ مرة في سنة واحدة، وأن تصبح نجم الشباك في البرامج الحوارية ف كل الشبكات!

نيت سيلفر هنا نموذج بسيط للنوع الاول من الموظفين السوبر (الذين لا يمكن استبدالهم بالروبوت على أي حال)، ليس لأن لديه مهارات أكثر من الروبوت فحسب، ولكن أيضا لأنه استخدم الروبوت لصالح منتجه النهائي. مثل نيت سيلفر ليس فقط في أمان من أي تغير في هيكل السوق، بل إن فرصه أيضا ستتضاعف بازدياد قدرات الروبوت لأنه يسبقها، كما أنه ماهر جدًا في استخدامها. العلاقه بين مثل سيلفر وبين التقدم التكنولوجي وتطبيقاته هي علاقة طردية لأنه دائما يعرف أكثر مما يعرف الروبوت، أو يعرف كيف يستخدمه لصالحه.

2- ديفيد هاينماير هانسون David Hienmire Hanson: السوبرستار

تقدم أي شركة منتجًا نهائيًا بسر صناعي معين، وهو الذي يحدد ميزتها التنافسية في السوق. لذا، كلما كان منصبك في الشركة مرتبط بالمراحل النهائية للمنتج، وعلى معرفة ببعض أسرار الشركة، فأنت غالبًا في أمان. لكن على نفس النهج، فكل ما يمكن عمله ولا خوف عليه من الانكشاف، فغالبا ما سيتم نقله أو تعهيده Outsourcing إلى بلاد أفقر بمبلغ أقل.

كمثال على ذلك: عمليه المناقصة على مشروع سكني ما، يكون المنتج النهائي في المناقصة هو السعر الذي تعرضه الشركة. هل في هذه الحالة من الضروري أن يعرف مهندس حصر الكميات الأسعار التي تعرضها الشركة؟ قطعًا لا.

لذا، ففي 35% تقريبا من المشاريع في مناطق الـ «Tri State» (المناطق التي تمتد في ثلاث ولايات في نفس الوقت في الولايات المتحدة الأمريكية) يتم حصر الكميات خارج امريكا. وهنا يمكن أن يقوم مهندس واحد يمتلك المهارة الميزة في هذا العمل، بعمل الحصر في أكثر من مكان حول العالم ويكون هو السوبرستار في هذه المهمة في العالم كله، وعوضًا عن أن تقوم كصاحب شركة بتعيين مهندس خاص بالحصر يجلس بجوار مكتبك، تخصص له بدلات وتأمينات، بإمكانك أن تذهب إلى نجم المجال نفسه، وتفصل من هم لديك في المكتب، ليؤدي المهمة بسعر أقل ومسئوليات أقل ووقت أقل لأنه الأفضل بهذا الصدد، ويؤديها بسرعة جدا. هذا مثال على كيف تنكسر خطوات الإنتاج وتعمل كل خطوة من خطواته كسوق بحد ذاتها، وتخضع لقواعد اللعبة من عرض وطلب وجودة، فإذا كنت من السوبرستارز في مرحلة من مراحل الإنتاج، فأنت رابح لا محالة.

المثال العملي هنا يمكن أن يكون أي مكتب مختص بحصر الكميات في بنجلادش مثلا، لكن أفضل أن أضرب مثالا بعملاق البرمجة ديفيد هاينماير هانسون الذي اختصر خطوات إنتاج المنصات الإلكترونية Platforms وتطبيقات الويب Web applications من خلال إطار روبي للبرمجة الذي قام ببنائه، حتى صارت مواقع كثيرة تستخدم هذا الإطار، واحد من تلك المواقع هو تويتر!

تخيل كم عمل ثابت براتب ثابت أضاعه هانسون بعمله هذا؟ لذلك، فإن من هم أشباه David لن يكونوا مهددين بالاقتصاد الجديد لأنهم يكسرون مراحل الانتاج ويخلقون منها سوقًا مستقلا و يبقون هم على قمته.

3- جون دوير John Doerr: الملّاك

واضح من الأمثلة السابقة أن التغيرات في سوق العمل تضعنا على أعتاب مرحلة جديدة كليًا، ما بعدها ليس كما قبلها. أطلق اثنان من أساتذه الاقتصاد في جامعة MIT هما إيريك برينجولفسون Erik Brynjolfsson وأندرو مكافي Andrew McAfee في كتابهما «السباق ضد الآلة Race Against the Machine» على تلك العملية «إعادة الهيكلة الكبرى The great restructuring»، وهي مدفوعة بالأساس بالتكنولوجيات الجديدة والأتمتة Automation.

بالطبع، ستعود الفائدة النهائية لتلك العملية إلى ملّاك التكنولوجيا الجديدة لأن نسبة كبيرة من الشركات القديمة لن تنجو أو إنها ستواجه صعوبات في التأقلم كما أوضحت في المقدمة، إذ أن قواعد اللعبة اختلفت عن عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يعني تغير هرمية رأس المال، وخلق إمكانية وصول Accessibility أكبر وأوسع إلى رؤوس أموال لم تكن متاحة من قبل إلا بطرق طويلة جدا تكاد تصل إلى جيلين أو ثلاثة أجيال من عائلة واحدة في نفس المهنة للوصول إليها.

صاحب المثال هنا هو واحد من اوائل ممولي المخاطرات Venture funding الذين خاطروا وراهنوا على شركات كثيرة ناشئة في بدايتها ككورسيرا وأمازون وتويتر، التي أثبتت جدراتها فعلا وتجاوزت حاجز المليار الأول، وهو جون دوير الذي يبلغ صافي ثروته بين خمسة او ستة ونصف مليار دولار، جمعها من رهانه على أدوات السوق الجديدة.

الخلاصة

يبدو أن السوق يدخل مرحلة إعادة هيكلة مدفوعًا بالروبوتات وتكسير مراحل الإنتاج، وتحويل كل مرحلة إلى سوق على حدة، ويبدو كذلك أن أنظمة العمل القديمة لن تتمكن من المنافسة وستنكمش. لذا لكي تزدهر لا بد أن تكون متفوقًا على الآلة فيما يمكن للآلة أن تقوم به، وأن يكون بإمكانك أن تستخدمها لصالحك أو لصالح صاحب العمل، أو أن تكون الأفضل فيما تعمل لأننا بوضوح على وشك انتهاء عصر العاديين Average، أو أن تكون صاحب رأس مال وتستثمره في حصان السباق الرابح.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.