الواحد حاسس كأنه اتقسم نصّين أو إن نصّه ضاع.. ماكانش بيتقال اسم حد فينا من غير اسم التاني.

بهذه العبارات القاسية نعى الكاتب نبيل فاروق رفيق دربه، وصديقه، الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق، ربما مثّلت هذه الكلمات حالة الشباب الذي لا يزال غير مصدق أنه كتب على السوشيال ميديا (#رحمة_الله_على_أحمد_خالد_توفيق)، أو أن العبارة على قساوتها قد شرحت بوضوح حالة الصدمة وتدافع الشباب للتزاحم على جنازته، والترحّم على وفاته.

الكل يذكر أثراً له أو تأثراً به، ارتباطاً بمقال، أو تعلقاً برواية، أو شغفاً بحالة النوستالجيا التي عاشها مع قصصه، فقد كانوا من قرّاء رواياته المطبوعة، وصاروا من قراء كتاباته الرقمية، واستمر الشغف، واستمرت الحالة، وبقي أحمد خالد توفيق رمزاً من رموز أجيال أحبت كاتباً دون أن تراه رأي العين، لذا صُدمت عندما كتبت عنه كخبرٍ لـ «كان»: كان أحمد خالد توفيق كذا وكذا وكذا…


ربما وربما وربما.. وربما كل ذلك

لا يعود التعلق به إلى مجرد كونه روائياً تمكن من جذب قاعدة عريضة من القراء، أو لأن البعض من قرائه كان يضعه في منزلة أبيه الذي صُدم لوفاته لكونه كان شديد التعلق به، وكذلك ليس من الإنصاف أن نحصر مكانته في كونه ملهماً أو عراباً لأجيال من الشباب، ذلك اللقب الذي كان يرفضه.

إذن، ما المميز فيه؟ وماسر تعلق الشباب به؟ ولم كانت وفاته صادمة؟

قد يعود ذلك إلى أسباب عديدة، تدور معظمها حول ارتباط الشباب به ككاتب وإنسان، ذلك الارتباط الذي جعلهم يعرفونه ويتعلقون به، رغم أنهم لم يروه.

ربما يعود ذلك إلى أنه يُعد مؤسساً لأدب الرعب العربي، ورائداً في مجال أدب الشباب، والفانتازيا، والخيال العلمي، وقد ساعدت قصصه على فتح آفاق قرائه، وجعلهم أكثر رحابةً واتساعاً، أو ربما لأن كتاباته مثلت نوعاً جديداً على الأدب العربي، لم يكتبه أحد قبله، أو ربما لأنه عبّر عن أرواح الشباب التي تهوى الغريب حينما برع في أدب الغرائب، الذي شكّل وجدان أجيال من الشباب، أو لأن أبطاله لم يكونوا أسطوريين، أو سينمائيين يتصفون بالمثالية، والوسامة، والجسد الرياضي، والقوى الخارقة، فعلى غير المعتاد تعلّق الشباب برفعت إسماعيل، ذلك البطل العجوز. أو ربما كانت صدمتهم لأنهم كانوا ينتظرون بلوغه عامه السبعين؛ ليروا رفعت إسماعيل متجسداً فيه أمامهم.

ربما كان رفضه الإقامة في القاهرة، وبقائه في مسقط رأسه طنطا، يمثل حافزاً للشباب كي يتمسكوا بأصولهم وجذورهم ولا ينسلخوا منها لزحام وضوضاء واختناق العاصمة، والذي جعله يقول:

مش عارف الناس اللي فيها عايشين إزاي، الناس بتقضي 90% من حياتهم بتحاول توصل للبيت، أنا مش متخيل إني ممكن أعيش 3 شهور في القاهرة، وأعصابي بتكون هادية في طنطا، وده بيشجعني على الإبداع.

ربما لأنه كان مشغولاً بهموم المجتمع والشباب، أو لأنه صوّر بعضاً من أزماتهم في كتاباته، حيث تناول قضايا الاستقطاب، واتساع الفجوة المجتمعية، و«الديستوبيا» التي ترى المستقبل من خلف عدسات سوداء، لترى البشر يفقدون حريتهم، ومشاعرهم. أو ربما لأنه كان يكتب للشباب فقط، وكان يحترم رأيهم،فعندما أرسل له أحد قُرّائه يقول إن صديقه أصبح يُدخن؛ حبًا في رفعت إسماعيل، رد عليه بأنه أوقف استخدام الكلمات التي تصف التدخين.

ربما لأنه عاصر طفولتهم وشبابهم، أو كما قال عنهم «بكتب لجيل صغير وكبر معايا»، أو ربما لأنه يأس وأُحبط مثلهم مما آلت إليه ثورة 25 يناير، ولم يكن نخبوياً سياسياً يدعي الأمل الكاذب والإرادة السلمية في مواجهة القهر، أو ربما لأنه مات في مستشفى «الدمرداش»، كالفقراء الذين كتب لهم وعنهم.


أحمد خالد توفيق كما عرفناه

عاصرت كتاباته أجيالاً متتالية منذ بداية تعرّفهم على القراءة، رافقت كتبه جيوبهم، وعقولهم، وكراسات المدرسة، ما زالوا يذكرون بقعة القلم على رواية «ما وراء الطبيعة»، وأثر الشاي على «فانتازيا»، والورقة التي قُطعت من «سفاري» عندما جذبتها أمه من كتابه «وهو عامل نفسه بيقرا فيه»، وخلافه مع صديقه الذي أخذ موسوعة الظلام ولم يُعدها. ما زالوا يذكرون كم كانوا يقتصدون من مصروفهم لشراء العدد الجديد، وحين كبروا وجدوا «يوتوبيا» أمامهم في مشروعات قومية تُعلن عنها الدولة تحت مسمى العاصمة الإدارية، كل منهم يذكر عشرات المواقف التي كانت كتابات أحمد خالد توفيق، أو بمعنى أدق روح أحمد خالد توفيق، تمتزج به.

قبر دكتور أحمد خالد توفيق
عبارة «جعل الشباب يقرأون» على قبر دكتور أحمد خالد توفيق، كما تمنى.

الموت بعيون أحمد خالد توفيق

وكأنها كانت المرة الأولى التي يقرأ فيها متابعوه أنه تنبأ بيوم وفاته، لقد قرأوا «قهوة باليورانيوم»، وأعجبتهم كالمعتاد، لكنهم اكتشفوا أن هذه الفقرة لم يقرأوها جيداً:

عندما رقدت في الضوء الخافت بعد ذلك، كنت أفكر في أحداث اليوم، كان من الوارد جداً أن يكون موعد دفني هو الأحد 3 أبريل بعد صلاة الظهر. إذن كان هذا هو الموت… بدا لي بسيطاً ومختصراً وسريعاً… بهذه البساطة… أنت هنا… أنت لم تعد هنا.. والأغرب أنني لم أر أي شيء من تجربة الدنو من الموت NDE التي كتبت عنها مراراً، تذكرت مقولة ساخرة قديمة، هي أن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شاباً.

وإذا كانوا قد قرأوها ونسيوا، فإن هناك منهم من لم ينس عبارته الأخرى: «هناك عبارة يقولها (ر. ل. شتاين): «أريد أن أكتب على قبري جعل الأطفال يقرأون» أما أنا فأريد أن يُكتب على قبري: «جعل الشباب يقرأون»، وبالفعل كُتبت هذه العبارة على قبره.

شاعت تيمة الموت في كتاباته مع كل مرة كان يعود فيها قلبه لينبض بالحياة من جديد بعد أزمة قلبية، ليكتب قائلا:

لقد عدت للحياة… يجب أن أتذكر هذا… ربما كانت لعودتي دلالة مهمة… لا أعرف… ربما كان هناك عمل مهم جداً سوف أنجزه… لكن ما هو؟… أخشى أن أكون قد عدت لأتلف ما قمت به في حياتي الأولى.

أحمد خالد توفيق الذي ثار معنا في يناير

الموت بعيون دكتور أحمد خالد توفيق
الموت بعيون دكتور أحمد خالد توفيق
هؤلاء الشباب واجهوا الجزار، وقالوا له إن لحمه ردئ، النتيجة هي أن الناس انهالوا سباً وركلاً وضرباً في هؤلاء الشباب، واتهموهم بالرعونة والعمالة، بينما قالوا للجزار «آسفين»، لكن سوف يتعلم الناس الدرس بالطريقة الصعبة، وبعد فوات الأوان، ويتعلمون أنه لا يصح إلا الصحيح، وإن الشباب الذين قاموا بالثورة كانوا أفضل وأنبل ما فينا، ولن يذهبوا لمزبلة التاريخ أبداً.

أحمد خالد توفيق، تعليقاً على براءة مبارك.

فسّر أحمد خالد توفيق النبرة التشاؤمية في أعماله باليأس والإحباط الذي شعر بهما في أعقاب فشل ثورة 25 يناير.

ولعل ذلك يعود إلى أنه حلم بالتغيير مع الشباب، واعتبر نفسه واحداً منهم، حتى أنه أيّد المرشح الرئاسي -آنذاك– حمدين صباحي، مثلما فعل شباب كثيرون رأوا فيه أملاً لهم. وقد عبر عن تأييده لصباحي في قصة قصيرة عام 2012، بعنوان «أطفال بلا مناسبة»، قائلاً:

بصراحة لو كنت مكان الحسناء السمراء لاخترت النسر، أنا أثق بالنسور وأحبها، لقد رأيت هذا النسر الشامخ مراراً وأعرف أنه الاختيار الصحيح على الأرجح، أما عن الحسناء فقد اتخذت قرارها قبل أن تعود لدارها، وقبل أن تخرج الذئاب المتعطشة للدم، اختارت البرادعي، وتوتة توتة فرغت الحدوتة.عزيزي القارئ.. أي تشابه تكون قد لاحظته بين القصة السابقة وبعض الرموز الانتخابية لبعض مرشحي الرئاسة هو تشابه مقصود.

كما امتزج بأحاسيس الشباب عندما عبر عن يأسهم في أحد حواراته الصحفية، قائلاً:

الكل استغل الشباب وركبوه… قام بثورة عظيمة شجاعة، ثم خرج منها ليجد نفسه مسجوناً أو متهماً، بينما نعم آخرون بالحكم والقوة. هكذا يفكر 90% من الشباب الذين أعرفهم في الهجرة، وبعضهم يشعر بمرارة قاتلة، وبعضهم ازداد لا مبالاة، وأعتقد أن بعضهم صار متطرفاً بعنف… لا أعتقد أن نفسية الشباب ستعود سوية لهذا الجيل على الأقل.
وكذلك عندما كتب يقول:
لا ينكر أحد من الناس أن الناس تعبت من الثورة فعلاً، وهي لا تذكر كيف كانت الحياة أيام مبارك، لكنها متأكدة من أنها كانت أفضل أمناً وأكثر رخاءً… والحقيقة هى أن ما شهدناه من أهوال لم يكن سببه الثورة، ولكنها محاولات من يصرون على هزيمتها.

حتى وإن أخذ عليه البعض ما كتبه عن اعتصام رابعة، أو اعتبروه مؤيداً لاستخدام القوة ضد المعتصمين، في مقالة بعنوان «عزاء بالجملة»، فإنه لم يدّعِ أن رأيه هو الصواب. وقد يكون وقع في الخطأ والحيرة مثلما حدث مع الكثيرين الذين اختلفت آراؤهم وتوجهاتهم مرات عديدة، وعارضوا نظام الإخوان، وتوسموا فيمن أيدوه خيراً، قبل أن يتبدل الوضع ويكون ما كان.

وقد أوضح أن مقالته كانت تهدف إلى القول بأن «ما حذر منه كان له ما يبرره؛ فالعنف لا يجلب إلا العنف، وسوف يستمر، ما لم يتم تحقيق واضح صريح في مجزرة رابعة وميدان النهضة»، فضلاً عن اعتذاره عن كتابة أحد مقالاته في الذكرى الثالثة لفض الاعتصام؛ وذلك «حداداً على أرواح من ماتوا في أحداث رابعة الدامية، الذين قالت وزارة الصحة نفسها إنهم ثمانمائة… وبعد ثلاثة أعوام لم يتم أي تحقيق جاد لمحاسبة من قتلهم».

كل هذا كان بعضاً مما يمكن أن يمثله أحمد خالد توفيق لدى الشباب، وربما لا نجد نعياً نختم به حديثنا أفضل من ذلك المقطع المقتبس من أحد «دراويشه» بعنوان «رسالتي إلى رفعت إسماعيل» من مقال بعنوان «سلام على بطلنا العجوز»:

كنت أتمنى أن تظل حياً، حتى يعرفك أبنائي في المستقبل، ويعيشون مغامرات جديدة معك، وأعيشها أنا نفسي معك، لكنك رحلت عنا… لكن ذكرياتك ستظل حاضرة دوماً، وبالتأكيد سأعرفك إلى أبنائي، سيعرفونك على أنك أسطورة حية، أثرت في والدهم، بل وأثرت في العديد من الأفراد… عشنا أفضل لحظاتنا مع حكاياتك، وقصصك الرائعة… أعلم أن رحيلك أمر محسوم، كرحيل جميع البشر عن الحياة… وإن كان رحيلك مقدراً، فبقاؤك في القلوب أيضاً مقدراً، وإلى الأبد.