من الأهداف الرئيسية للخطاب الدعائي الإسرائيلي «تصفية القضية الفلسطينية»، ليس بالإبادة الجسدية لأهالي فلسطين مثلما أباد الرجل الأبيض الهنود الحمر في الأمريكيتين والسكان الأصليين في أستراليا، إنما بمحو الوجود التاريخي والثقافي والروحي للفلسطينيين، بالدعوة لذوبانهم في المجتمع الإسرائيلي، أي «أسرلة عرب الداخل» وفق تعبير المفكر الفلسطيني «عزمي بشارة». [1]

إذا جري «أسرلة عرب الداخل»، أي نبذهم إلى هامش الدولة اليهودية، وإذا قبلت الشعوب العربية بالدعاوى التي يُروِّجها الخطاب الدعائي الإسرائيلي بأن إسرائيل مجتمع متسامح دينيًّا، متنوع ثقافيًّا وإثنيًّا، ينشد السلام والتعاون والازدهار والأمان، فقد جرى إنهاء القضية الفلسطينية.

هذا الحل الذي تقترحه الدعاية الإسرائيلية يقدم حلًّا معكوسًا للمسألة الفلسطينية، إذ عاش اليهود في البلدان العربية والإسلامية في تسامح مع إخوانهم المسلمين والمسيحيين، يجري عليهم ما يجري للأقليات في التاريخ، من صعود وهبوط، يعيش الكل في ظلال الأمة الإسلامية، وهي ليست أمة دينية – مثل الدولة الإسرائيلية – بل أمة إسلامية، واسعة الجنبات، تتسع للمسلم والمسيحي واليهودي، وتصبغ الجميع بالصبغة الإسلامية في الثقافة والحضارة وطرائق التفكير والنظرة إلى الكون، يحكم الكل القانون الإسلامي العظيم «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».

أمَّا الصهيونية فتقدم حلًّا بديلًا، بأن يذوب الفلسطينيون، مسلمين ومسيحيين، تحت ظلال اليهودية/الصهيونية، لا شيء اسمه فلسطين، على المسلمين والمسيحيين أن يتناسوا مقدساتهم، الأقصى وكنيسة القيامة، وأن يقبلوا بالعيش تحت ظلال النظام الصهيوني.

هذا الحل الصهيوني للقضية الفلسطينية غير قابل للتحقق، ليس فقط لرفض وتمسك عرب الداخل بالهوية الفلسطينية، وليس بسبب استمرار المقاومة وتبنيها للجهاد كأسلوب لتحرير فلسطين كلها من النهر للبحر، إنما لأن الدولة الإسرائيلية تجمع بين الدين اليهودي والدولة، فهي ليست دولة دينية، وإنما دولة دين اليهودية واليهود، وليست دولة مواطنين، ولن تتنازل إسرائيل عن صبغتها الدينية. لن تتنازل إسرائيل ولن تتنازل الصهيونية عن صبغتها الدينية، لأنها بهذه الصبغة تكتسب وجودها.

حينما نشأت الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر كان قادتها علمانيين، بل إن تيودور هرتزل الاسم الأبرز في قادة الصهيونية كان ملحدًا، لا يلقي بالًا للمعتقدات الدينية اليهودية. كان هرتزل يخاطب أوروبا الغربية لكي تحل مشكلة تدفق يهود أوروبا الشرقية عليها بإيجاد أي مكان للصهاينة. لهذا لم تتجه الصهيونية السياسية أول أمرها إلى فلسطين، إنما بحثت عن أي أرض خالية تحت سيطرة الغرب لا يحسب فيها حساب للسكان الأصليين، ثم يحصل عليها هرتزل من خلال تأسيس شركة استعمارية، يعيش على أرضها اليهود الصهاينة.

حاول هرتزل الحصول على امتياز في موزمبيق أو الكونغو البلجيكية، وعُرضت مشروعات أخرى في الأرجنتين (1897)، وقبرص (1901)، وشمال شبه جزيرة سيناء (1902)، وأوغندا (1903)، ولم تختَر الصهيونية السياسية فلسطين إلا عام 1905، أي بعد وفاة هرتزل بعام. [2]

تفسير اختيار فلسطين أن الصهيونية السياسية عجزت كسب تأييد جميع جماهير اليهود، بل إنها أثارت مخاوف يهود عديدين. في الوقت الذي كان يُعقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، كانت جماعات ومنظمات يهودية في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإنجلترا تعترض على الحركة الصهيونية، تعترض على تحويل اليهودية من دين إلى قومية، ومن مواطنين يتعايشون ويعيشون بين شعوب إلى الانعزال ورفض الاندماج.

هذه المعارضة ما زالت مستمرة من بعض اليهود إلى اليوم[3]، وهو ما ينفي الوهم الشائع أنه شرط أن يكون الصهيوني يهوديًّا، فالصهيوني قد يكون يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا، مؤمنًا أو ملحدًا، طالما يعمل على سلب شعب فلسطين أرضه وتاريخه.

الانصراف اليهودي المبكر عن تأييد الصهيونية دفع قادتها العلمانيين/ الملحدين إلى تبني قراءة انتقائية للتوراة، وتبني أسوأ ما في الفكر اليهودي المتطرف، بالتركيز على أسطورتين وهما:

الأسطورة الأولى: الخلاص

إذ حرصت الدعاية الصهيونية على تصوير الحركة الصهيونية باعتبارها نهاية شتات ما أطلقت عليه «الشعب اليهودي»، وأن تأسيس إسرائيل يرتبط بقدوم المخلص الذي يُحرِّر اليهود.

اختلقت الصهيونية مصطلح الشعب اليهودي، إذ لم يكن اليهود أبدًا شعبًا، إنما هم أفراد وجماعات يتدينون باليهودية ويعيشون بين شعوب العالم. ثم روجت الصهيونية لأسطورة أن اليهود شعب بلا أرض، وبحثًا عن هذه الأرض قدَّموا قراءة انتقائية ملتوية لما جاء في سفر التكوين بأن الرب أعطى فلسطين كلها لليهود:

في ذلك اليوم عقد الرب مع أبرام (إبراهيم عليه السلام) عهدًا قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.
سفر التكوين، الإصحاح 15 – الآية 18.

كان من المتناقضات أن مؤسسي الحركة الصهيونية علمانيون، لكنهم يستغلون فكرة دينية متطرفة، ويحاولون تنفيذها بوسائل علمانية بالترويج الثقافي والدعاية والقوة العسكرية.

الأسطورة الثانية: شعب الله المختار

وهي فكرة عنصرية ترفع اليهود فوق كل البشر. اعتمدت «الصهيونية العلمانية» إذن في النشأة والتوسع على «الصهيونية الدينية»، وبعدما كانت تتردد بين بلدان مثل الأرجنتين وسيناء وأوغندا وقبرص فضلت فلسطين، وذلك حتى تستقطب تيار «محبي صهيون»، أي تستقطب الصهيونية الدينية وتحولها لكي تخدم أهداف الصهيونية السياسية العلمانية، رغم عدم إيمان هرتزل وقادة الصهيونية السياسية بالصهيونية الدينية.[4]

اليوم انقلب الوضع في إسرائيل، فالجماعات الصهيونية الدينية المتطرفة هي التي تتحكم في النخبة العلمانية الحاكمة، ويشهد الكيان الصهيوني صعودًا لليمين الإسرائيلي المتطرف. صحيح أن اليهود المتدينين يمثلون 20% من المجتمع الإسرائيلي، لكنهم يمثلون كتلة تصويتية كبيرة، ومن خلال هذا التصويت الانتخابي الجماعي يسيطرون على مجريات الأمور السياسية، حتى إن السياسيين العلمانيين باتوا يتوددون إليهم، ويتجنبون الاصطدام بهم.

هذا اليمين الصهيوني المتطرف يرفض التعايش مع العرب. تؤكد هذه الحقيقة نتائج دراسة أجراها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية؛ إذ أوضحت أن 82% من اليهود المتدينين يعتبرون «عرب 48» خطرًا على مستقبل إسرائيل، وعلى مستقبل طابعها اليهودي، وأنه لكي يتم الحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل، يجب أن يعيش اليهود والعرب منفصلين بعضهم عن بعض.[5]

يرفض اليمين المتطرف في إسرائيل الآخر العربي، مسلمًا كان أو مسيحيًّا، ويعترض أن يكون عرب الداخل مواطنين إسرائيليين لهم نفس حقوق اليهود، ويعتبر كل عربي مواطنًا درجة ثانية أو «نصف مواطن إسرائيلي»، ويتهم العرب بالتآمر على سلامة الدولة الإسرائيلية، وبأنهم مجرد طابور خامس للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ويرفض اليمين المتطرف الصهيوني حل الدولتين، أي تأسيس دولة فلسطينية منزوعة السلاح والاستقلال السياسي والاقتصادي على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ولو كانت تشكل 21% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. يضن اليمين المتطرف بهذا الفتات على الفلسطينيين، ويُطالب أن تكون إسرائيل على كامل مساحة فلسطين، ساعيًا لابتلاع الضفة الغربية، مُشجعًا على إقامة مزيد من البؤر الاحتلالية التي يطلقون عليها في وسائل الإعلام مستوطنات.

ولا يتورع اليمين المتطرف عن استخدام لغة الرصاص والدماء، لا يفرق بين علمانيين إسرائيليين وعرب مسلمين ومسيحيين. ففي 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 قتل «إيجال عامير» رئيس الوزراء الصهيوني «إسحاق رابين». لم يكن عامير مخبولًا، ولكنه كان نتاج التربية الصهيونية الدينية، فهو ابن حاخام، وطالب متفوق في جامعة لاهوتية، وعضو في جماعة «محاربي إسرائيل»، التي تنادي باغتيال كل من يتنازل للعرب عن جزء من الأرض الموعودة في يهودا وسامرا (الضفة الغربية). [6]

إلى جانب ابتلاع الضفة، يركز اليمين المتطرف على بيت القدس، فهي تشكل له رمز انتصار الدولة اليهودية، فتتكرر مسيراتهم إلى المسجد الأقصى، ويدعون علانية إلى هدمه، للبدء في إقامة الهيكل.

مزاعم إقامة السلام لا تهددها إذن المقاومة، ولا رفض بعض الفلسطينيين للسلام، إنما الداء في تركيبة الدولة الإسرائيلية التي ترى نفسها دولة اليهود، فترفض الاعتراف بالآخر المختلف. الداء في اليمين الصهيوني المتطرف الذي بات يسيطر على السياسة الإسرائيلية، ويدفعها إلى مزيد من التصادم مع مسلمي ومسيحيي فلسطين.

المراجع
  1. عزمي بشارة، العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل، الطبعة الثانية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000)، ص 22.
  2. روجيه جارودي، ملف إسرائيل: دراسة الصهيونية السياسية، الطبعة الأولي (القاهرة: دار الشروق، 1403/ 1983)، ص 69.
  3. جارودي، ص 20، 26.
  4. جارودي، ص 10.
  5. جريدة الشرق الأوسط. 15 يناير 2021، العدد 15389. ثلثا اليهود المتدينين يعتبرون العرب خطراً عليهم.
  6. جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، الطبعة الرابعة (القاهرة: دار الشروق، 1422/ 2002) ص 42، 51.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.