استغرق الأمر من المملكة العربية السعودية بضع ساعات لتهنئة دونالد ترامب بفوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ 4 أعوام مضت، بينما استغرقها الأمر بضع أيام حتى تُقرر أخيرًا تهنئة خلفه جو بايدن. قد يبدو الأمر مثيرًا للريبة، لكنه أمر مفهوم، فالمملكة قد خسرت لتوّها ترامب صديقهم المُقرب، والرئيس الأقرب للمملكة منذ عقود.

صحيح أن علاقات المملكة والولايات المتحدة تمتد إلى حدود عام 1945، ومن الأكيد أنها ستبقى علاقات قوية لزمن طويل، لكن لا يمنع ذلك من أن تلك العلاقات قد تتعرض لتقلبات ولحظات شد وجذّب. الأمر الذي يبدو جليًا في الآونة الأخيرة مع اقتراب تسلم بايدن مهام منصبه رسميًا أن المملكة تحاول أن تضع لمسةً من التغيير الحذر على سياساتها.

يتجلى ذلك في المصالحة الخليجية التي شهدت قمة العُلا في الرياض تتويجًا لها باجتماع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع أمير قطر، تميم بن حمد. كما يُلاحظ توجه سعودي لتخفيف الحدة اللفظية تجاه تركيا، الحدة التي وصلت بشكل غير رسمي لمقاطعة المنتجات التركية. لكن قال  الأمير فيصل بن فرحان آل سعود إن المملكة تمتلك علاقات طيبة مع تركيا، ولا توجد أي بيانات رسمية أو غير رسمية تدعو لمقاطعة تركيا أو منتجاتها.

كما يمكن أن تتغير سياسات السعودية في اليمن، فحرب اليمن من أبرز الملفات الشائكة التي ستفسد الدفء الأمريكي السعودي في عهد بايدن، إذ إن الكونجرس الأمريكي يُصر على معارضة الحرب السعودية في اليمن، خاصةً بعد أن تخلّت الإمارات عن السعودية وتركتها وحيدة في جحيم الحرب تحمل وزرها على صورتها الدولية. ويتوقع أن تصبح المملكة أكثر حذرًا في عملياتها العسكرية، ما لم تنسحب كليًا من اليمن، وإلا سوف تتعرض لتضييق أمريكي، في أقل صوره سيكون على هيئة حذر بيع السلاح للمملكة.

ستكون الاعتقالات صامتة

غير أن الملف الأكثر حساسية، والأشد تشابكًا، هو ملف حقوق الإنسان في المملكة. فستتوقع المملكة مزيدًا من التدخل والتعليقات من الجانب الأمريكي على انتهاكات الرياض فيما يخص حقوق الإنسان. أجل من المستبعد حدوث انفراجة حقيقية في مجال حقوق الإنسان وفي الحريات الفردية داخل المملكة، لكن على الأقل سيصبح ولي العهد حذرًا في حملاته القمعية التي كان ينفذها بحرية تامة ووسط صمت مطبق من ترامب.

ويتوقع أن يكون ذلك الملف هو سبب رئيسي في تدهور العلاقات بين الطرفين، تدهورًا قد يفوق ما يحدث إبان فترة حكم الرئيس الأسبق باراك أوباما. خاصةً أن بايدن قد عمل في إدارة أوباما وساهم في تشكيل المواقف الأمريكية الخارجية، كما عيّن بايدن عددًا من مسئولي إدارة أوباما البارزين في إدارته الجديدة. كما تساءل بايدن سابقًا، عام 2004، عن ماذا الذي تحصل عليه الولايات المتحدة من دعم السعودية ومن منحها مزايا خاصة، لم يتخل بايدن عن تساؤله مع تقدّم الوقت، فهو لا يرى الدعم المطلق للرياض إلا أمرًا يضّر بصورة الولايات المتحدة الدولية.

ويتضح أن المملكة تدرك ذلك لذا سرّعت من محاكمة بعض المعتقلين، وبعض من تصفهم بالمشتقين، مخافة أن يكون هؤلاء ورقة مساومة مع بايدن. فمثلًا صدر حكم بالسجن لمدة ست سنوات على الناشطة لجين الهذلول، ومثله حكم على الطبيب وليد فتيحي، الذي احتجز لمدة عامين بالفعل في فندق الريتز كارلتون، في إطار الحملة التي أطلقت عليها السلطات السعودية حملة مكافحة الفساد.

فالداخل السعودي يُدرك أن العلاقات مع ترامب كانت استثنائية، فالمملكة كانت وجهته الأولى بعد توليه السلطة، لكن مهما تكن العلاقات مع بايدن فلن تكون تلك العلاقات استثنائية كما كانت في عهد ترامب، كما لن تكون مرحلة قطيعة أيضًا، لأن المملكة ذات وزن اقتصادي كبير، ومصدر بارز للطاقة وصاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم، ولها مكانة روحيّة عند العالم الإسلامي باحتضانها الحرمين الشريفين.

على المملكة أن تدرك حجمها

السعودية سوف تجد نفسها مضطرة لتقديم تلك التنازلات لأن بايدن لا يرى العالم بنظرة القرن العشرين كما يراه ترامب، فرغم أن المملكة ثاني أكبر منتج للنفظ الخام، إلا أنّ واردات الولايات المتحدة من نفط الخليج العربي قد انخفضت بنسبة أكثر من 70% وأصبحت الولايات المتحدة أكثر استقلالية في مجال الطاقة.

كما أن بايدن ينظر للعلاقات الأمريكية السعودية بنظرة براجماتية بحتة باعتبارها علاقة نشأت في ظروف مختلفة وفي عالم مختلف تمامًا. كذلك لن يجد بايدن متسعًا للمناورة إذ إن سجل الحزب الديموقراطي حافل بانتقادات بايدن ورفاقه الديموقراطيين لتساهل ترامب في التعامل مع المملكة. ما يعني أن سياسة المملكة التي ترى نفسها دولةً لا غنى عنها، ما يجعلها تتعامل مع الولايات المتحدة بصفةّ ندية، تحتاج إلى أن تتغير قليلًا، لأنها ستكون سياسة محفوفة بالمخاطر.

المعضلة أن بعض التنازلات التي قد تُطلب من المملكة ربما تكون أكبر من احتمالها، مثل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. خاصة وقد سبقها في هذا المضمار دولتان، الإمارات والبحرين. لكن ستكون تلك مجازفة ضخمة نظرًا لأن لدى السعودية ما تخشاه على عكس الإمارات والبحرين الصغيرتين، فالسعودية لها تأثير قيادي في العالم العربي، ولها سلطة روحية على العالم الإسلامي، وتركيبتها الداخلية أكثر تعقيدًا وتقلبًا.

لكن لنفس الأسباب سيكون من المرجح أن إدارة بايدن سوف تضغط على المملكة لتحقيق اختراق دبلوماسي مع إسرائيل، لأنه بذلك سيقرب اثنين من شركاء واشنطن الكبار، السعودية وإسرائيل، ويوحد من الجهود الهادفة لكبح الهيمنة الإيرانية، والحفاظ على شرق أوسط متوافق مع رغبة الولايات المتحدة.

جماعات ضغط جديدة

لأجل كل تلك الاحتمالات تستعد المملكة لولاية بايدن الجديدة بحملة تعيينات لجماعات ضغط مختلفة عن تلك التي استخدمتها في عهد ترامب، من أبرز أهداف تلك الحملة كبار قادة الكونجرس الجمهوريين. حيث تستطيع جماعات الضغط الجديدة التعامل مع المشرعيين الجمهوريين بدلًا من الديموقراطيين، واستغلال تفوقهم الطفيف في عرقلة أو تأخير أي خطوة يتخذها الديموقراطيون ضد المملكة.

فقد وقعت المملكة عقدًا مع لارسون شاناهان سليفكا، شركة علاقات عامة في ولاية آيوا الأمريكية، بقيمة 1.5 مليون دولار لمدة عام واحد. ويقول تقرير الاتفاق بين الطرفين إن الهدف من التعاقد هو إبلاغ الجمهور والمسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام بأهمية تعزيز وتدعيم العلاقات القوية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

ويقود تلك الحملة مارك جرول، سياسي جمهوري كان مدير ولاية ويسكونسن لحملة إعادة انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش عام 2004.  كما كان رئيسًا لموظفي النائب السابق مارك جرين، جمهوري من ولاية ويسكونسن، عندما كان جرين في الكونجرس.

كذلك عيّنت الممكلة شركة أوف هيل للتخطيط لتكون شريكًا لها في عمليات الضغط على القيادات الأمريكية، العقد سيكون بقيمة 25 ألف دولار شهريًا. وتقول الشركة إن هدفها هو دعم جهود التواصل في الكونجرس بالسفارة السعودية وتعزيز العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. كما كشفت التقارير الأمريكية عن توقيع المملكة لاتفاقية مع إحدى شركات الضغط الأمريكية، لم تسمها، بقيمة 75 ألف دولار شهريًا، من أجل القيام بالاستشارات الإستراتيجية والعلاقات العامة.

إذن فإن الأمير الشاب ليس متزمتًا فيما يتعلق بمواقفه الخارجيه، بل يمكنه التأقلم مع التغيرات الدولية، ويحاول جاهدًا أن يكون تأقلمه استباقيًا، لكن المعضلة، والسؤال الأهم الذي ستسغرق الإجابة عليه 4 سنوات كاملة، إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا التأقلم؟