لا يمر عام خصوصاً بعد موجة الربيع العربي دون أن يدور جدل حول الجهر بالإفطار في رمضان. تتنوع ساحات الصراع حول هذه القضية بين المساحات الاجتماعية والقانونية وحتى السياسية وتعبر دائماً عن جدل أوسع عن دور الدولة والعلمانية والحقوق المدنية وحتى حقوق الأقليات.

ابتداءً من رمضان 2012 دأبت دار الإفتاء المصرية على إصدار فتوى لا ترى الجهر بالفطر في رمضان معصية فقط بل اعتداء على شعيرة من شعائر الإسلام، ورأت أن الوسيلة لمحاربة من يجهر بإفطاره في شهر رمضان هي توجيه النصح له بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يتخذ ولي الأمر من الضوابط ما يكفل منع المجاهرين بالإفطار في الشوارع والميادين وكافة الأماكن العامة. وشددت دار الإفتاء على أن هذه ليست حرية شخصية، بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام؛ لأن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان مجاهرة بالمعصية، وهي حرام فضلاً عن أنها خروج على الذوق العام في بلاد المسلمين، وانتهاك صريح لحرمة المجتمع وحقه في احترام مقدساته.


عرف اجتماعي وإطار قانوني

على الرغم من أن مصر ليس بها قانون لمعاقبة المجاهرين بالإفطار في رمضان إلا أن وقائع قبض الشرطة المصرية على المجاهرين بالفطر وتحويلهم للنيابة تتكرر بشكل شبه سنوي. أما في دول عربية أخرى مثل المغرب والكويت وقطر والإمارات والسعودية والأردن وعمان يعد الجهر بالإفطار جرماً قانونياً يعاقب عليه القانون بنصوص محددة.

في المذكرة الإيضاحية للقانون الكويتي رقم 44 لسنة 1968 في شأن المجاهرة بالإفطار في شهر رمضان جاء فيها: تنصُّ المادة الثانية من الدستور على أن «دين الدولة الإسلام» كما تنص المادة 49 منه على «مراعاة النظام العام واحترام الآداب العامة واجب على جميع سكان الكويت». وهذان النصان يعبران عن أحاسيس الكويت كبلد إسلامي يتمسك أبناؤه بالدين والقيم الإسلامية. وما من شك أن المجاهرة بالإفطار في الأماكن العامة يؤذي شعور المسلمين حتى لو كانت هذه المجاهرة ممن له عذر في إفطاره لأن هذا العذر لا يعلمه الناس كافة وإنما هو أمر بين العبد وربه، والمجاهرة به إيذاء لا مبرر له.

مثال آخر هو القانون المغربي الذي نص على «كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من اثني عشر إلى مائة وعشرين درهمًا»

هذه القضية والتي تبدو أمراً مستقراً في العرف القانوني والاجتماعي للدول العربية والإسلامية لا تنجو من جدل يظهر ببزوغ هلال شهر رمضان من كل عام ولا يقتصر الجدل عن كونه علمانياً إسلامياً فقط بل يمتد أحياناً ليكون إسلامياً إسلامياً وهو ما يظهره الجدل الإلكتروني على منصة تويتر بين المفكر الإسلامي محمد مختار الشنقيطي وعادل الكلباني إمام المسجد الحرام الأسبق.


البوركيني على مائدة الهلال!

لا يتفرد رمضان وحده أو باعتباره شعيرة موسمية أو الدول الإسلامية وحدها بمثل هذا الجدل، ففي موسم الصيف العام الماضي شهدت فرنسا جدلاً مشابهاً من عدة أوجه. حيث صدر حكم قضائي في أغسطس/آب بمنع ارتداء «البوركيني» وهو زي سباحة وصف بـ«إسلامي» للنساء على الشواطئ الفرنسية. بررت المحكمة قرارها بالقول: «في سياق حالة الطوارئ وبعد الهجمات الأخيرة التي نفّذها متطرفون إسلاميون في فرنسا، فإن عرض الرموز الدينية بشكل واضح، وفي هذه الحالة لباس البحر البوركيني، قد يكون سببًا في خلق أو زيادة التوترات وتهديد النظام العام».

لا يتفق جان كريستوف بلوكين، كاتب الرأي في صحيفة لا كروا، مع وجهة النظر تلك. ويقول: «في فرنسا من حق كل شخص أن يرتدي ما يروق له طالما كان ملتزمًا بالقانون، وبالتالي كل شخص من حقه أن يرتدي البوركيني إذا أراد». ويضيف: «لكن هذا لا يعني أن نكون ساذجين. فالبوركيني يقدم رؤية انعزالية للمجتمع، ويمثل ضغطًا على النساء الأخريات في المجتمع الإسلامي في فرنسا».

أما المعلّقة السياسية الفرنسية أغنيس بوارييه فترى أن منع البوركيني جاء حفاظاً على قيمتين مهمتين للأمة الفرنسية؛ الأولى، هي تحرير المرأة حيث يمثّل البوركيني ردة عن التحرر من سيطرة الرجال والدين. أما القيمة الثانية، فهي وحدة الأمة الفرنسية حيث تعبر ثقافة البوركيني نوع من الانعزال لدى فئات معينة من الشعب الفرنسي مما يسمح بتقويض الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها الدولة الفرنسية. في الحقيقة يتشابه النسقان الإسلامي الذي يجرّم الجهر بالإفطار في رمضان، والعلماني – بتعبير طلال الأسد – الذي يجرم البوركيني في فرنسا على قاعدة النفي. كلا النسقين الإسلامي عبر فريضة الصيام والعلماني عبر تجريمه للرموز الدينية يقومان بعمليتي نفي متشابهتين وإن كانتا في اتجاهين مختلفين.


في إمكان مواطنة اجتماعية أخلاقية

في تعليله لفريضة الصيام يذكر الحكيم الترمذي في كتابه «إثبات العلل» أن خصوصية شعيرة الصيام تكمن في كسرها للعادة الإنسانية فقال : «الصوم هو الكف عن عادة تعتادها، فإذا منعت النفس تلك العادة اشتد عليها فكان في ذلك تسليم الجسد إلى الله تعالى؛ لأن النفس إذا مالت إلى الشهوات فقد مالت بأركانها عن الله تعالى إلى دنياها»(1). الصوم إذن هو نفي لكل ما هو دنيوي في أخصّ خصائص هذه الدنيوية وهي الحاجات والعادات الإنسانية التي لا يعيش دونها. هو نفي للطعام والشراب والجنس عن حياة المؤمن لفترة زمنية من اليوم ولشهر كامل في العام. من هذا الباب يعد الصيام أقرب الشعائر التعبدية في جوهره من سردية الأديان التوحيدية التي تؤسّس نفسها كذلك على نفي ما سواها وربما يكون هذا التشابه بين وظيفة شعيرة الصيام والأساس الذي بني عليه السرد الإسلامي، هو علة الحديث القدسي «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ…».

خضوع الإنسان لهذا النفي للشهوات والحاجات الأساسية هو خضوع بالأساس لسلطة على حساب سلطة. خضوع لسلطة الدين على حساب المادة وهذا النفي أو الخضوع يقوم بعملية استحضار كثيفة للمقدّس سواءً في الحياة الشخصية أو الحياة العامة إذ تنقلبُ حياة الإنسان وفقاً لمقتضيات هذا النفي وهذه السلطة. لذا يمكن اعتبار الجهر بالإفطار هو مقاومة عكسية لهذا المقدس الذي تم استحضاره بكثافة في مدة زمنية محددة وفي مكان اجتماعي معلوم.

لكن هذه السلطة التي تستحضر المقدس وتنفي الدنيوي لا تقوم بعملها في المجتمع العلماني بطريقة اعتباطية إنما وفقًا لنظرية في «المواطنة على الطريقة الهيجلية» التي ترى ألا وجود للإنسان خارج النسيج الاجتماعي ولا ترى تقسيماً ثنائياً لمجال الفعل الإنساني إلى عام وخاص دون ديالكتيك يقوم بإدارة حدود هذين المجالين وفق توافقات اجتماعية تعيد توزيع الثروة والسلطة سواءً المادية أو الرمزية على الدوام وفقاً لسيرورة تاريخية ترتقي منبر العقل على طريقة هيجل أو تظهر نفسها على شكل دورة بندولية من التقدم والتحلل الأخلاقي على طريقة ابن خلدون.

يخلق الجدل عادة من التناقض، إما تناقض المصالح المختلفة أو تناقض النظرية وتطبيقها. إذا كان تجريم الجهر بالإفطار في نهار رمضان مطابقاً لـرؤية المجتمعات الإسلامية للمقدس والسلطة والمواطنة لماذا يدور هذا الجدل كل عام إذن حين تطبيقه؟ ربما تكون مصر مثالاً تطبيقياً جيداً للإجابة على هذا السؤال لأسباب عديدة منها أن الساحة المصرية شهدت هذا الجدل رغم عدم وجود قانون فعلي يجرم الإفطار العلني، ولكن رغم ذلك لا يمر رمضان دون حملات من الشرطة المصرية لضبط المفطرين وعرضهم على النيابة.


«السطو على المقدس» طريقاً للسلطة

في الحقيقة فإن مفهوم المواطنة في الدولة المصرية مفهوم مستورد لم يتحقق عبر سيرورة من التوافقات الوطنية بل عبر محاولة لفرض تحديث من الخارج. بمعنى أن نظرية المواطنة الليبرالية ومحاولة فرضها أدت إلى خلق أفق مشوه وغير متماسك للمواطنة في مصر. تفترض نظرية المواطنة الليبرالية تقسيماً للمجال العام والخاص باعتبار أن المجال العام قانوني بالأساس موجود لمراعاة مصالح الأفراد وحمايتها والحفاظ على تماسك الدولة واستقلال السوق، أما المجال الخاص فهو مجال الحياة الفردية التي يسعى فيها الإنسان لتحقيق حاجاته المادية والروحية أي يكون الإنسان حراً فيها في معتقده وشعائره وشهواته وهويته سواء العرقية أو الأيديولوجية أو الجندرية.

خلقت نظرية المواطنة هذه من رغبة وسعي لدى برجوازية أوروبا لإزاحة كل أشكال السلطة القديمة المادية والرمزية عن طريق مساعيها في تحقيق أكبر قدر ممكن من السلطة والأرباح المادية والتوسع الإمبريالي. لا تعني هذه السيرورة بالضرورة أن نظرية مواطنة ليبرالية لا يمكن أن تتحقق خارج هذه السردية لكن هذه السيرورة مهمة في فهم الطريقة التي تشكل بها أفق المواطنة في الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية في مصر.

باختصار فإن الليبرالية في مصر هي نظرية للسلطة ليس لها داعم أو فاعل شعبي محلي داعم، إذ تم إجهاض الحاضنة الشعبية الليبرالية في مصر في مرحلة الاستعمار عبر التدخل العسكري والسياسي المباشر من الاحتلال البريطاني ثم في مرحلة ما بعد الاستعمار عبر استبعاد هذه الطبقة من مساحات الفعل السياسي والاقتصادي. أما أفق المواطنة في السياق الاجتماعي فهو فاعل حاضر ذو حاضنة شعبية مستقرة، ولكن دون نظرية للسلطة أو ثغرة ينفذ منها هذا الأفق إلى مرحلة الفعل السياسي والقانوني.

هذا الأفق الاجتماعي تحديداً هو ما قام بخلق وإعادة تدوير سلطة المقدس الرمزية والتي تسعى السلطة الفعلية القائمة إلى السيطرة عليها حتى إن لم تملك الأدوات النظرية والخطابية والقانونية اللازمة لفعل ذلك. هذا التناقض بين الفاعل السلطوي والفاعل الاجتماعي وغياب توافق نظري تطبيقي في المجتمع هو الدافع الذي يعيد خلق الجدل حول الإفطار العلني في رمضان أو غيرها من قضايا حضور المقدس إلى المجال العام.

تسليط الضوء على التناقض النظري والخطابي والرمزي بين السلطة والمجتمع يقدم لنا فهماً للمنطلقات الذي ينطلق منها هذا الجدل لكنه لا يقدم صورة عن الفاعل الرئيس خلفه والمكاسب أو الخسائر السياسية والاجتماعية التي يحققها. ربما لا ينكشف هذا الفاعل بالوضوح الذي يظهر به في مرحلة ما بعد الربيع العربي. في ظل تهاوي سرديات الدولة الوطنية واحدة تلو الأخرى وكذلك سرديات الفاعلين الإسلاميين قبل 30 يونيو 2013 وتشظيها تماماً بعد هذا التاريخ، بدت الفرصة سانحة للمكون الليبرالي سواءً الكلاسيكي أو الذي نشأ بفعل الاقتصاد النيوليبرالي المعولم وثورة الاتصالات والمعرفة، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المساحات الخطابية والاجتماعية وهي المساحات التي لا تتكشف في قضايا مثل الجهر بالإفطار فقط إنما في قضايا الإرهاب والسلطة والاقتصاد وغيرها.

بطبيعة الحال ليس بإمكان هذه القوى والأفكار القديمة الجديدة أن تكسب هذه المساحات دون سيرورة تشكل علمانية تعيد تعريف المقدس كما بين طلال الأسد في تفكيكه لعملية تشكل «العلماني» كأفق مفاهيمي وليس باعتباره جوهراً ثابتاً (5)، لم يعد للمقدس في إطار هذه العملية قدرة سامية تفرض نفسها على شيء بعينه لتجعله من المحرمات وتمنع انتهاكه، أصبح المقدس ابتداءً من القرن التاسع عشر مجرد صفة للأشياء. أي بتعبير آخر نزعت السلطة الرمزية لهذا المقدس واستبدلت بسلطة قائمة على جدلية القدرة على الفعل والطبيعة المتجانسة المعلقنة كمساحة لهذا الفعل.

بتعبير آخر تسعى هذه القوى لسحب بساط السلطة الرمزية من تحت أقدام القوى الاجتماعية التقليدية وكذلك السلطة الحاضرة التي تسطو على هذه السلطة الرمزية. وذلك في سعيها للاندماج في اقتصاد عالمي معولم ومتطور ضمن أفق ليبرالي حقيقي للمواطنة. هذا الأفق طبعاً لا يخلو من تناقضات هي الأخرى أدت إلى الجدل الذي شهدناه سابقاً في قضية تجريم البوركيني في فرنسا.

المراجع
  1. إثبات العلل، الحكيم الترمذي، منشورات كلية العلوم والأداب الإسلامية بالرباط، 177