ترى أي إجابة أقرب لقتل التساؤل الآتي: هل مشكلة فريق مانشستر سيتي مع «بيب جوارديولا» ذهنية أم كروية؟ أعتقد الإجابة السريعة هي أن المشكلة ذهنية. أظن كذلك أنها الإجابة الأقرب للصواب، فلا يمكن أن يتفوق كثير من المدربين كرويًّا على المدرب الإسباني، وفي حال كان هناك تفوق فلا أعتقد أن يكون كاسحًا.

الآن لنتساءل مرة أخرى، أيهما تظنه يقدم ما هو أفضل على أرض الملعب في هذه الأثناء: فريق جوارديولا أم فريق «توماس توخيل»؟ حسنًا، الإجابة هنا ليست بنفس البساطة، حيث يتدخل هنا التاريخ والتمرس والاستمرارية في عمل العقل لاستنباط الإجابة.

الآن، لنزيد من صعوبة الأسئلة أكثر، لماذا يعتبر العقل هو الجزء الوحيد من الجسد الذي لا يتلقى اللاعبون تدريبًا أو تعليمات خاصة بشأنه؟ أو أن هذه التدريبات تكون هامشية ثانوية في مرات محدودة من التدريبات الكروية، حيث لم تكن تعرف كرة القدم التدريبات العقلية حتى سنوات قليلة، وحتى كتابة هذه السطور، لم تتعمق التدريبات العقلية لتصبح تمرينًا أساسيًّا في الفرق الكُبرى.

دعنا ننهي حدة هذه الأسئلة بالسؤال الذي طرحنا كل ما فوقه من أجل الوصول إليه، هل تظن أن أفضل ما يمكنك فعله لتخطي عقبة أي سؤال هو توقع السؤال ومحاولة تحضير إجابة نموذجية له، أم أنه من الأفضل أن تجعل عقلك في حالة استعداد تام لمواجهة أي سؤال مهما كانت درجة صعوبته؟ لنعفيك من الإجابة ونعرف كيف سيجيب توخيل.

كيف لا تخسر في دوري الأبطال كل عام؟

في عام 2011، تبنى أحد المدربين البلجيكيين الذي يُدعى «ميشيل براونينكس» مفهوم جديد في تدريب اللاعبين الشباب في كرة القدم، يمكن أن يطلق على هذا المفهوم اسم «التعلم المتمحور على العقل – brain centred learning». يعتمد هذا الأسلوب على فرضية أن العقل يعمل أسرع 1000 مرة على الأقل من الكمبيوتر.

حاول براونينكس التأكد من أن لاعبيه يستخدمون قدراتهم العقلية بنسبة 100% مما سيجعلهم أكثر ذكاءً ومهارة. الاعتماد الكامل هنا على قدرة العقل على التعامل مع مهام متعددة، كلما زادت المهام زاد عمل المخ والدماغ، ومن ثم تصبح الصحة العقلية أفضل كثيرًا وعليه تنتج قرارات أكثر دقة وإتقان.

تبدأ التمارين العقلية ببساطة شديدة، ثم تزداد تعقيدًا، تمامًا مثلما حدث في الأسئلة التي طرحناها في بداية هذه السطور، أو كما يحدث في أي اختبار ذكاء في أي جهة. الغرض هو تحدي تركيز اللاعبين والحفاظ على كامل انتباههم في التدريب بلا أي سهو أو سرحان. يقول خط الوسط السابق بفريق ماينز، «أندرياس إيفانشيتز»، وأحد الذين تدربوا تحت يد توخيل، إنك بحاجة إلى أن تكون أستاذًا جامعيًّا لفهم جلسات التدريب رفقة المدرب الألماني.

في تجربة ماينز في ألمانيا، حاول توماس توخيل تطبيق نفس الأساليب التي تبناها براونينكس، والتي تهدف دائمًا إلى تنوع الأساليب التدريبية لسبب مهم جدًّا من وجهة نظر المدرب الألماني، وهو أن عملية التنبؤ بما سيقوم به الخصم تكاد تكون مستحيلة من وجهة نظره.

كانت تجربة فريق أياكس الهولندي أحد التجارب الملهمة في النظام الذي اتبعه توخيل خلفًا لميشيل براونينكس، حيث تم إعادة تقديم نوع مهم من التدريبات في هذا النظام وفقًا لما ورد من النظام الهولندي. وهو نظام الكرة كثيرة الارتداد bouncing ball والتي تساعد على لمس الكرة كثيرًا وبكلتا القدمين.

خلال هذا النظام يستطيع اللاعب لمس الكرة ما يقرب من 500.000 مرة في السنة، في حين أن المحترف الذي يتدرب بالطريقة التقليدية لن يلمسها سوى حوالي 50.000 مرة. الأهم من ذلك أن هذه اللمسات يتم تقسيمها 50% للقدم اليمنى ومثلها لليسرى.

الأهم أن براونينكس قام بتطبيق هذه الطريقة، لكن بإضافة لمسة جديدة، والتي يدخل فيها حواس أخرى للعمل في الوقت نفسه، وهي أنه أضاف أنواعًا متماشية من الموسيقى أثناء التدريبات، وهو ما أوجد تقدمًا أسرع كثيرًا من قبل اللاعبين.

ينشأ هنا اختلاف كبير بين توخيل وأغلب المدربين المتمرسين في اللعبة، وعلى رأسهم «ماسيمليانو أليجري» فيما يخص توقع الخصم أو قتل السيناريوهات المعتادة. حيث يفضل الإيطالي أن يخلق سيناريو قبل أي مباراة، يتقنه اللاعبون ويخوضون اللقاء على أساسه، في الغالب تنجح هذه الخطة الإيطالية، لكن ماذا لو لم تنجح؟ هذه أسئلة تصيب جوارديولا بالحرج.

تدريبات يخشاها لاعبو تشيلسي

فور تعيين توماس لقيادة الفريق اللندني، أكد أنه سيسعى لخلق فريق يخشى الجميع مواجهته. وبعد شهور قليلة من هذا التعيين، صدق وعد الألماني، وباتت مواجهة تشيلسي صعبة لأي مدير فني. لكن إذا سألت لاعبي البلوز عن أي الأشياء أصعب، بالتأكيد سيجيبون بأن المباريات مهما زادت حدتها تكن أسهل من الحصص التدريبية.

يظهر وجه توخيل بوسامة توحي بالبشاشة والهدوء، جسد رفيع منعدم العضلات تقريبًا، حتى في حالات غضبه على خط التماس، قد لا يبدو لك مُخيفًا على الإطلاق. لكن في واقع الأمر، فهو على العكس تمامًا.

تسلم توخيل مسئولية تشيلسي وهم في وضع سيئ بعد فترة غير جيدة في ولاية الإنجليزي «فرانك لامبارد». عمومًا، لا يمكن تذكر فريق قد تولاه توماس لا يعاني من شيءٍ ما، خلقت تلك المعاناة أدوات عدة للابتكار لمحاولة مجابهة كبرى الفرق، أو كما يقول الألماني عن فترته في ماينز، وهو ما يمكن إعادة اقتباسه عن فترة تشيلسي، إنه كان عليه الابتكار لأنه كان يعلم أنهم أقل شأنًا كفريق.

وفقًا لصحفي شبكة The Athletic «رافائيل هونيجشتاين» فإن الألماني يسعى لأن تكون تدريباته أصعب لأقصى حد ممكن. قد تجد هذه الصعوبة في التدرب بكرات أصغر حجمًا من المعتاد، مثل كرات التنس أو كرات كرة قدم لكن أصغر حجمًا، أو قد تجد هذه الصعوبة في صغر المساحة المتروكة لتحرك الأجنحة على طرفي الملعب، أو خلق مباريات يشارك فيها 11 لاعبًا ضد 11 لاعبًا في نصف ملعب فقط.

يعتبر التدريب بكرة التنس فكرة شائعة إلى حد ما عند أغلب المدربين، حيث تملك غرضًا واضحًا، وهو زيادة التحكم في التعامل مع الكرات صغيرة الحجم بالتالي تصبح الأمور أكثر سهولة عند التعامل مع كرة القدم الحقيقية. لكن يعتمد توخيل أحيانًا على التدرب بكرة التنس باليدين وليس القدمين، هنا يأتي عامل التمحور حول التركيز والعقل.

تستغرق تدريبات توماس توخيل في الغالب ساعتين ونصفًا، وربما أكثر، لكنها لا تكون مملة على الإطلاق، والسبب أن اللاعبين لا يمكنهم توقع كيف سيكون التدريب غدًا، ولا يمكن التنبؤ بما يمكن طلبه منهم في الدقيقة التالية.

تأتي هنا مدرسة جديدة في التعلم خضع لها توخيل في فترة الراحة التي حصل عليها بعد تجربة ماينز وقبل خوض تجربة جديدة مع دورتموند، إنها مدرسة «التعلم التفاضلي/المتغير – Differential learning».

حيث لا مجال للتكرار

في عام 2006 اقترح «ولفجانج شولهورن» الأستاذ الألماني بجامعة ماينز في ألمانيا، أسلوبًا جديدًا في التعلم يسمى التعليم التفاضلي، والذي يهدف في وصفه البسيط إلى ممارسة مجموعة متنوعة من الحركات بطريقة عشوائية وغير متكررة، والهدف هو تسهيل قرار الحركة مهما كانت مختلفة.

النتيجة الطبيعية لذلك أن عملية التكييف مع المواقف الجديدة يكون أسهل كثيرًا. علينا هنا أن نرجع إلى الأزمة الموجودة في اعتقاد توماس توخيل بأن عملية توقع الخصم مستحيلة. يؤمن ولفجانج، ومن بعده توماس، أن عملية التغير المستمر والعشوائية للتقنية المستخدمة في تنفيذ إحدى المهارات سيصل في النهاية إلى كسر كل الحدود التي قد تقيد ديناميكية تنفيذ أي حركة.

حاول توخيل الجمع بين أسلوب براونينكس وقواعد شولهورن، فالنتيجة أن فلسفته باتت تتيح استيعاب المكون الأساسي لكرة القدم الحديثة بشكل أعمق، وهو: سرعة الرؤية، وسرعة اتخاذ القرار، وسرعة التنفيذ. مضافًا إليها أن التدريبات ليست مكررة، حتى لو بأوامر مختلفة، لأنه يأمل ألا يصل في النهاية عقل اللاعب إلى أنه يعرف الإجابة بشكل مسبق.

نتيجة الاعتماد على الدراية بالإجابة بشكل مسبق أنه قد لا يحاول اللاعبون إيجاد أنماط جديدة لتنفيذ أي قرار، ومع الوقت وفي حالة ظهور موقف جديد، تجد اللاعبين في حالة من الخمول العقلي، بالتالي قرارات سيئة ينتج عنها عواقب أسوأ. وبالرغم من أن تنفيذ هذا النمط في التدريب في البداية قد يبدأ بأنواع من التدريب تبدو بعيدة تمامًا عن كرة القدم، لكنها في النهاية تتجه نحو قرارات ثورية في كرة القدم نفسها.

قام توماس في فترة توليه في لندن بقطع أركان الملعب الهجومي من مناطق تنفيذ الكرات الركنية، وهو ما يجعل الثلث الأخير من الملعب يتخذ شكلًا هرميًّا أو على هيئة مثلث. الأمر نفسه حين يحاول زيادة إتقان التحكم في الكرة لدى لاعبيه، فيطلب منهم التحكم بالكرة عن طريق الركبة وليس الأقدام أو التدرب دون أحذية.

ما قد يختلف فيه توخيل عن غيره من المدربين، وبالتحديد جوارديولا، هو أنه لا يطمح فقط للتدخل لمعالجة أخطاء لاعبيه، بل يسعى لتخطيها، يجهزهم جميعًا لخلق أشكال في عقولهم أصعب كثيرًا من التي قد يواجهونها في المباريات مهما كانت صعبة.

لا يرتكن للقرارات السهلة، لا يعتمد كليًّا على قدراته الخططية والتكتيكية، لكنه يؤمن بأن دوره الأساسي هو مساعدة لاعبيه على تخطي كل سؤال صعب مهما زاد تعقيدًا. الآن، قد جاء وقت السؤال الأكثر صعوبة، هل يظل لاعبو توخيل على نفس الدرجة من الإيمان بأفكاره حتى لو فشلوا في الفوز بأي مواجهة صعبة قادمة؟