جون سابين

بعد أن تعرفنا على المفاهيم التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية والأهداف الاستراتيجية لصانع السياسة الأمريكية (راجع الجزء الأول).. بقي أن نتعرف على كيفية صناعة القرار فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية. يخرج القرار الأمريكي بعد أن يمر بعملية مؤسسية طويلة، يؤثر عليه عبرها العديد من الأطراف؛ مثل: الرأي العام، ووسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث وغيرها؛ لكن يبقي القرار في يد الرئيس والكونغرس..

أولا.. الدستور الأمريكي:

يقوم الدستور الأمريكي في جوهره علي مبدئين رئيسيين: الأول هو مبدأ الفصل بين السلطات، والمبدأ الثاني هو التوزنات والضوابط؛ والمقصود بكل منهما أن كل سلطة تراقب وتوازن حركة السلطات الأخرى، فمجلس الشيوخ يعمل عائقا ضد إقرار التشريعات الخاطئة من مجلس النواب والعكس صحيح، وحق الفيتو متاح للرئيس الأمريكي كمانع ضد التشريع الجائر للكونغرس؛ إلا أن الرئيس يخضع للاتهام أيضا من قبل الكونغرس بحيث لا يسمح الدستور لأحدهما بالطغيان أو الاستبداد عن طريق تحالفهما معا. ولا تتطلب عملية صناعة القرار عمل السلطات التشريعية والتنفيذية معا، فلكل منهما صلاحيات مختلفة، ولكنها في ذات الوقت مكملة لبعضها البعض.. وهنا تفصيل لهذه الصلاحيات.

أولا.. السلطة التشريعية:

تنص المادة الأولي من دستور الولايات المتحدة الأمريكية على أن “جميع السلطات التشريعية الممنوحة في الدستور تُخَول لكونجرس الولايات المتحدة الذي يتألف من مجلس للنواب وآخر للشيوخ”.يمثل مجلس الشيوخ المجلس الأعلي للولايات جميعها حيث تمثل كل ولاية بشيخين على قدم المساواة بين الولايات. بينما يتكون مجلس النواب من 435 عضوا موزعين على دوائر انتخابية بحسب عدد السكان. ويكون حضور الإدارة الأمريكية في مجلس الشيوخ عن طريق رئيس مجلس الشيوخ الذي هو في نفس الوقت نائب رئيس الجمهورية. وفيما يتعلق بصلاحيات السلطة التشريعية فإن الوظيفة الأساسية هي إصدار وتشريع القوانين؛ وله سلطة استشارية، وسلطة التصديق في أمور مثل المعاهدات وتعيين السفراء، وسلطة إعلان الحرب، وسلطة إقرار الميزانية العامة لمالية الدولة؛ وهذه الأخيرة تعد في كثير من الأوقات الورقة الضاغطة في التأثير على سياسات السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس، إذ من دون الدعم المالي لا يستطيع الرئيس المضي في خططه. وتندرج سلطات الكونجرس تحت فرعين: (1)

سلطات دستورية تشريعية: فرض الضرائب، السلطة التجارية، سك العملة، الاقتراض، إصدار قوانين موحدة خاصة بالإفلاس، سلطة إعلان الحرب. (2) سلطات دستورية غير تشريعية:

1- انتخاب الرئيس ونائب الرئيس، إذا لم يحصل أي مرشح للرئاسة على أغلبية أصوات الهيئة الإنتخابية.

2- توجيه الاتهام إلى الرئيس أو إلي أحد أعضاء الفرع التنفيذي بما يؤدي إلى الإطاحة بهم كما حدث في فضيحة ووترجيت مع الرئيس (نيكسون)، وأدين بناء على الاتهام مما اضطره إلى الاستقالة.يستنتج من ذلك أن الكونغرس أعطي صلاحيات واسعة حتى أنه عد من أقوى المؤسسات التشريعية في العالم.ويأتي حق الكونغرس بالضغط على الرئيس عن طريق سلطاته في الموافقة والتصديق على إقرار الميزانية التي يقدمها الرئيس، وكذلك إقرار المعاهدات التي يوقعها الرئيس، والموافقة على تعيين كبار القضاة والموظفين الحكوميية، والتصديق على إعلان حالة الحرب أو سحب القوات التي أمر الرئيس بنشرها.ويعد الكونغرس مجلسا سياسيا للرئيس، تدخل في اختصاصاته بعض المسائل التنفيذية التي يشترط موافقة الكونغرس عليها مثل: رسم السياسة الخارجية للدولة، وإبرام المعاهدات الخارجية؛ إذ اشترط الدستور وجوب موافقة مجلس الشيوخ عليها بأغلبية ثلثي الأعضاء مما يضع القيود على حركة الرئيس الخارجية. ولكن علي الرغم من أن الكونغرس لعب دورا كبيرا في صناعة السياسة الخارجية منذ

السبعينات، إلا أن المبادرة الحقيقية لانتزاع القيادة من البيت الأبيض لا زالت تنقصه. وهناك أسباب عدة وراء عجز الكونغرس عن مجاراة البيت الأبيض في إدارة الشئون الخارجية منها:1- احتكار السلطة التنفيذية للمعلومات في مجال الاستخبارات والدبلوماسية و الدفاع والتجارة وأشياء أخرى.

2- طريقة عمل الشئون الخارجية والشئون العسكرية و الدبلوماسية تتطلب معرفة دقيقة ومتخصصة وتمتلك السلطة التنفيذية الموارد لتوظيف الخبراء والحصول علي البيانات التقنية.

3- تمسك السلطة التنفيذية بأدوات السياسة الخارجية، وتتخذ القرارات في بعض الأحيان بدون التشاور مع الكونغرس وخصوصا في مجال الأمن القومي. وفي المجمل، فإن الكونغرس يمارس نوعا من الرقابة السلبية لا الإيجابية على السلطة التنفيذية.

الكونجرس والشرق الأوسط:

أما فيما يخص الشرق الأوسط فإن الكونغرس يمارس نفوذا حاسما في سياسة الولايات المتحدة أكثر من أي مكان آخر في العالم. ففي العشرين سنة الماضية، ظهر الكونغرس لاعبا حاسما في السياسة الأمريكية تجاه هذه المنطقة؛ ولهذا أسباب عدة.. فإسهام الكونغرس يعد ذا طبيعة طويلة المدى وعالمية؛ وهذا ما يتوافق مع طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يساهم الكونغرس في توفير الإمدادات العسكرية والمالية لإسرائيل، وتوفير تكلفة النفط. ويعيق الكونغرس أي محاولة من الرئيس لربط المساعدات العسكرية والمالية لإسرائيل بسلوكها الحقيقي.. ففي عام 1996 ذهب الكونغرس إلى المصادقة على تشريع -ضد رغبة الرئيس- يطالب بتحويل مقر السفارة الأمريكية إلى القدس.

نتنياهو يلقي خطاب الأزمة أمام الكونجرس
(نتنياهو يحيي الكونجرس كزعيم شعبي بعد أن ألقى أمامه خطاب الأزمة والنواب يصفقون!)

ثانيا.. السلطة التنفيذية:

نص الدستور الأمريكي علي أن “السلطة التنفيذية يتولاها رئيس الولايات المتحدة الامريكية” ويكون اختياره بواسطة الشعب عن طريق الانتخاب على مرحلتين، ويمارس الرئيس السلطة بجانبها الفعلي، ويعد رئيسا للدولة ورئيسا للحكومة يقوم الرئيس باختيار الوزراء ويعينهم بنفسه بعد أن يوافق عليهم مجلس الشيوخ.ومن المميزات التي أعطاها الدستور للسلطة التنفيذية نلاحط ما يلي:

– لا تملك السلطة التنفيذية حق حل السلطة التشريعية.

– رئيس الجمهورية غير مسئول سياسيا أمام الكونغرس وإنما في واقع الأمر يصبح مسئولا أمام الرأي العام وجماعات الضغط ومراكز القوى.

– الوزراء غير مسئولين أمام الكونغرس وإنما أمام الرئيس وحده.ومن اختصاصات الرئيس التي نصت عليها المادة الثانية من الدستور الأمريكي “رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وقيادة الجهاز التنفيذي، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ولجهاز الشرطة، ويعد أيضا رئيس جميع الموظفين في الدولة، وله حق العفو وابرام المعاهدات بشرط موافقة مجلس الشيوخ بأغلبية الثلثين، وللرئيس حق التصرف في الشئون الخارجية، فهو مفوض في تعيين كبار موظفي السلطة التنفيذية وكبار ضباط القوات المسلحة بشرط الحصول على موافقة مجلس الشيوخ”.

الصلاحيات المتنازع عليها بين الرئيس والكونغرس

(1) صلاحيات الحرب:

يمتلك الرئيس الأمريكي صلاحية إعلان الحرب؛ فهو يمثل في الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويمتلك أيضا الحق في اتخاذ القرارت الخاصة باستخدام القوة المحدودة، مثل: ضربات الطائرات بدون طيار ((Drones. بينما يمتلك الكونجرس صلاحية إقرار الموازنة الخاصة بالدفاع والموافقة على قرار إعلان الحرب الذي اتخذه الرئيس.

قانون سلطات الحرب:

على الرغم من أن الدستور يعطي الكونغرس سلطة إعلان الحرب بحسب الدستور، ويفرض قانون سلطات الحرب الصادر عام 1973 بعيد حرب فيتنام على الرئيس أن يتشاور مع الكونغرس قبل القيام بإرسال قوات إلى الخارج أو إعلامه بالأسباب التي دعته إلى ذلك بعد 48 ساعة من الإرسال الفعلي، والقيام بإعادة تلك القوات بعد 60 يوما إذا أصر الكونغرس على ذلك.. فقد تجاهل الكثير من الرؤساء الكونغرس وقانون سلطات الحرب. ولم يقم الكونغرس بإعلان حالة الحرب في تاريخ الولايات المتحدة إلا في خمس مرات من أصل 130 حربا أصدر الرؤساء وحدهم قراراتها. أضف إلى ذلك أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تقف أي مؤسسة في وجه قرار الرئيس بإعلان الحرب ولاسيما أن أغلب قراراتهم كانت تتخذ في حالات يكون الرأي العام الأمريكي فيها معبأ بشعور الخوف على أمنه بسبب ما يساق إليه من تهديدات خارجية سواء حقيقية أو مصطنعة.

(2) المعاهدات:

يعطي الدستور للرئيس حق تمثيل الأمة الأمريكية في المفاوضات واللقاءات مع الديبلوماسيين، وتوقيع المعاهدات، والحديث بالنيابة عن الأمة. ولكنه يعطي لمجلس الشيوخ تأكيد هذه الاتفاقيات بنسبة الثلثين، ويعطي الكونجرس موازنة المساعدات والإعانات الخارجية. نستنج من هنا أن الدستور أعطى السلطة التنفيذية مكانة تفوق السلطة التشريعية في مجال السياسة الخارجية.

ثانيا.. الهرم التنفيذي المساعد للرئيس:

قلنا سابقا أن الرئيس هو قمة الهرم التنفيذي لكن يساعده في ذلك العديد من القنوات التي تصب آرائها و استشاراتها في تشكيل قرار الرئيس ومن ذلك:

(1) مجلس الأمن القومي national security council

يُعنى مجلس الأمن القومي بتنسيق أنشطة المؤسسات المهتمة بالأمن القومي، ويرأس رئيس الدولة بنفسه أعمال المجلس، ويضم: وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ووزير المالية، ورئيس هيئة الأركان. ويمكن أن يضم عددا من كبار الموظفين في الجكومة. ويتولى مستشار الأمن القومي تنسيق الأعمال التي يقوم بها المجلس بين الوكالات الآتية: وكالة المخابرات المركزية – وزارة الدفاع – وزارة الخارجية ومكاتب الاستخبارات والأبحاث التابعة لها. ويتولي مجلس الأمن القومي بالإضافة إلى تقديم المشورة الدائمة للرئيس، تحديد الخطط والبرامج ذات الطابع الاستراتيجي في مجالات الدفاع والسياسة الخارجية والأدوار الاقتصادية لأمريكا في العالم، وصياغة الخطوط العامة للقرارات ذات الطابع الاستراتيجي عسكرية واقتصادية وسياسية.

(2) وكالة المخابرات المركزية Central intelligence Agency

من أهم الوسائل التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة لتحقيق الاستراتيجية الأمنية الاستخباراتية الاستباقية: إقامة هيئة الاستخبارات في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية ذات الطابع الاستراتيجي. تقدم المخابرات الاستشارات لمجلس الأمن القومي وتقدم التوصيات للهيئات الحكومية جميعها، وتنفذ الوكالة بأمر من مجلس الأمن القومي مهاما مختلفة تتعلق بالأمن القومي لأمريكا.جدير بالذكر أيضا أنه تم تحديد نشاط وكالة المخابرات بحيث لا تشمل الشئون السياسية الداخلية ولا أعمال الاعتقال ولا الضبط القضائي. تتلخص وظائف وكالة المخابرات في التالي:

– تقديم المعلومات والمعطيات والتحليلات في الميادين الاستراتيجية العسكرية والسياسية والاقتصادية لمجلس الأمن القومي.- القيام بأعمال أو عمليات سرية في الخارج لتنفيذ أهداف استراتيجية أو سياسية أو عسكرية أو اقتصادية محددة في إطار برنامج السياسة الخارجية الأمريكية، وبأمر من رئيس الدولة أو من يفوض له صلاحية القيام بذلك. ويعد مدير الوكالة مسؤولا مباشرا أمام رئيس الدولة. ويتضح مدى أهمية الوكالة من خلال الميزانية الضخمة التي وصلت إلي 30 مليار دولار في سنة 1992.

(3) وزارة الدفاع

تحتل المؤسسة العسكرية مكانة خاصة داخل أجهزة صنع القرار الأمريكي. ودستوريا يعد الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهي ليست سلطة رمزية وإنما فعلية، فالرئيس يتخذ شخصيا القرارات الآمرة لكل جندي أو ضابط أو قائد أركان في القوات المسلحة.

(4) وزارة الخارجية

من الناحية النظرية يفترض أن تكون وزارة الخارجية هي المسؤولة عن الشئون الدولية؛ إلا أن وظائفها غالبا ما تؤثر فيها العديد من الدوائر التنفيذية. وتعاني وزارة الخارجية من حالة من الركود والبيروقراطية وانعدام للفاعلية التنفيذية وفقدان المبادرة فيما يخص الشئون الخارجية.فقد دشن هنري كيسنجر كمستشار للأمن القومي اتجاها جديدا وجد فيه بعض وزراء الخارجية أنفسهم مهمشين وغير قادرين على مجاراة مستشار الأمن القومي في الوصول إلى الرئيس. وتصرف كيسنجر كما لو كان وزيرا للخارجية؛ فقد أثر في تفكير نيكسون وعمله تجاه المنطقة العربية إذ نجح في تغيير موقفه من موقف متوازن إلى موقف مبدئي موالٍ لإسرائيل.

كسينجر مع جولدا مائير
كسينجر مع جولدا مائير

(كسينجر مع جولدا مائير)

ثالثا.. دور جماعات المصالح:

من السمات المميزة للنظام الأمريكي الدور الواضح لما يعرف بجماعات المصالح في التأثير في السياسة الداخلية والخارجية للدولة؛ وهو دور كفله لها الدستور الأمريكي. فقد عني الدستور بأن تكون للمؤسسات الجماهيرية قوة ذات أثر واضح في صنع القرار ورسم السياسات.وقوة تلك المؤسسات نابعة من أن استمرار الرئيس والنواب في مناصبهم يعتمد على أصوات الناخبين، كما أن نجاح أو إقرار أي سياسة يعتمد على وجود مساندة كافية.تقوم هذه الجماعات بالضغط على النواب والرئيس لحماية مصالحها المختلفة؛ كما أن لبعض هذه الجماعات قوة جماهيرية واقتصادية كبيرة تؤثر بواسطتها في من يصنع القرار. وتُعَرّفُ هذه الجماعات بأنها “منظمة تضم مجموعة من الناس تربطهم رابطة معينة تهدف الي الضغط السياسي علي الحكومة بهدف إيقاع التأثير السياسي المطلوب لإنجاز مصالح معينة”.

الآيباك: اللوبي الإسرائيلي، إحدى أهم جماعات المصالح المتحكمة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة
الآيباك: اللوبي الإسرائيلي، إحدى أهم جماعات المصالح المتحكمة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة

(الآيباك: اللوبي الإسرائيلي، إحدى أهم جماعات المصالح المتحكمة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة)

وتلعب هذه الجماعات دورها إما عن طريق التأثير المباشر بالاتصال بكلا السلطتين التشريعية والتنفيذية. أو تلعب دورا غير مباشر عن طريق تعبئة الرأي العام من خلال وسائل الإعلام أو التأثير في الأحزاب السياسية والرئيس عن طريق حملات التمويل التي تقدمها أثناء الانتخابات؛ فضلا عن تنظيم حملات شعبية لإقرار تشريعات على مستوي الكونغرس والولايات بهدف دعم قضاياها.في الختام من الجدير بالذكر أن مركز صنع القرار في الولايات المتحدة متنقل بحسب قوة شخصية الرؤساء أو الزعماء السياسيين؛ فتارة نري مركز القرار هو الرئيس، وتارة يكون بيد الكونغرس، في صورة متغيرة وخاضعة لمعايير مختلفة منها شخصية الرئيس، والحزب الذي ينتمي إليه، وما يحوزه هذا الحزب من مقاعد في الكونجرس.


* أسقط المقال عمدا الحديث عن السلطة القضائية لأن دورها محدود في الشئون الخارجية.


اقرأ المزيد:

ما بعد العاصفة.. إعادة الأمل أم خيبة أمل؟!

كيف تسيطر أمريكا على الممرات الاستراتيجية في العالم؟