في ظهيرة أحد أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كان نادي ساجان توسو يخوض مباراة صعبة ضمن منافسات الدوري الياباني. تأخر الفريق في النتيجة، وتسرب القلق لجمهوره. لذا بدأ الهتاف لنجم فريقهم الأول «فرناندو توريس» يتصاعد بقوة. لم يتأخر رد الأسطورة الإسبانية كثيرًا،ونجح في قلب النتيجة قبل صافرة النهاية.

انتهت المباراة، وبدأ الكل في مغادرة الملعب، عدا فرناندو الذي كان ينتظر أحدًا ما. بعد دقائق، ظهر رجل خمسيني بملامح يابانية، وهنا ارتسمت بسمة كبيرة على وجه الإسباني الذي بادر بالتحية. دار بينهما حوار طويل، ثم طلب توريس التقاط صورة تذكارية معه قبل أن يهم بنشرها على حسابه عبر تويتر.

قد تظن أن هذا الرجل هو رئيس النادي، أو مدير إحدى شركات الإعلان، أو ربما مشجع طلب مقابلة توريس، لكن في الحقيقة لم يكن هذا سوى رسّام يُدعى «يوتشي تاكاهاشي»، وقد عمل طوال حياته في صناعة أفلام الأنمي. إذن ما الذي قد يجمعه بتوريس؟ الإجابة هي أن فرناندو يعرف تاكاهشي منذ سنوات بعيدة، وقد تابع كل أعماله بشغف ونهم كبيرين، سوى أن عملًا بعينه سيترك داخل نفس توريس أثرًا عميقًا وسيدفعه خلال كل مرحلة من مسيرته.


55 جول

سجل هدفًا..حقق فوزًا ضاعف جهدك في التمرين لن تحرز أهدافًا حلوة إلا بالتصميم.

إن كنت أحد مواليد جيل الثمانينيات أو التسعينيات، فلابد أنك تعرف هذه الكلمات جيدًا، تلك التي غناها المبدع «طارق العربي طرقان» في أغنية المقدمة لمسلسل الكارتون الأشهر «الكابتن ماجد». كان هذا المسلسل بداية تعارف الكثير منا على عالم كرة القدم. ومن خلاله تعلمنا قوانين اللعبة والقواعد الحاكمة للفريق، كما أدركنا القيم الواجب أن يتحلى بها اللاعب المميز والتي جعلت من ماجد لاعبنا المفضل لفترة غير قليلة.

فرناندو توريس أيضًا كان أحد المتيمين بالبرنامج في نسخته الإسبانية، حيث كان يحرص على مشاهدته رفقة زملاء المدرسة، ثم يشرع هؤلاء في تقسيم أنفسهم لفرق وبدء المباريات. وهنا كان يتخذ توريس مركزه في الملعب، وهذا المركز يختلف تمامًا عن رأس الحربة، إذ كان يشارك حينها كحارس مرمى، لعله كان معجبًا بتصديات الكابتن رعد.

لكن ذلك تغيّر في سن السابعة، وتحديدًا عندما انضم لنادٍ متواضع في بلدية فوينلابرادا يدعي «رايو 13»، حيث رأى أحد المدربين هناك أن على توريس خلع قفاز حراسة المرمى، والتوجه مباشرة لمنطقة جزاء الخصوم. لم يحتج هذا المدرب وقتًا يذكر لتبرير قراره، خصوصًا عندما تصدر الصغير قائمة هدافي فرق الناشئين بعد ثلاثة أعوام فقط مسجلًا 55 هدفًا في موسم واحد فقط!

عندها ظن والده أن الوقت قد حان ليحقق أمنيته، وهو أن يرى أحد أبنائه بزي الأتليتي، لذا سجل اسم فرناندو في اختبارات الناشئين، لكنه أبدًا لم يكن يتوقع أن يتحوّل بعد بضع سنوات فقط لابن أتليتكو مدريد المدلل.


الطفل والأب

طبعًا لا أحد يحب أن يكون لقبه هو «الطفل»، خصوصًا عندما يكون بالفعل طفلًا أو مراهقًا على أفضل تقدير، وهذا ما شعر به فرناندو توريس بمرور السنوات بين جدران النادي العاصمي. مشكلة فرناندو كانت تميزه الشديد عن أقرانه، إذ لا يكاد تمر عليه شهور معدودة داخل إحدى الفئات السنية، إلا ويتم تصعيده للفئة الأكبر، حتى وجد نفسه أمام عقد رسمي للانضمام للفريق الأول بينما هو في الـ15 من عمره وينتظر حلقة الكابتن ماجد الأسبوعية!

بلا شك استغرب أعضاء الفريق الأول عند رؤيته للمرة الأولى. تساءل الجميع: هل هو ابن المدرب؟ ربما شقيقه الأصغر، لكنهم صعقوا عندما علموا أنه زميلهم الجديد الذي سيشاركهم حلم الصعود للدرجة الأولى. لم يكن أحد يعرف اسمه،فأطلقوا عليه لقب «الطفل» أو كما تعرفه دائمًا «النينو»، وقد استخدمته الصحافة مع تصاعد نسبة مشاركات توريس.

لكن موسم 2001/2002 كان قصة مختلفة تمامًا، ليس لأن الأتليتي صعد أخيرًا أو لأن فرناندو ترك بصمته مسجلًا 6 أهداف، ولكن لأن مدرب الفريق آنذاك «لويس أراجونيس» منحه ثقة كبيرة في قيادة خط الهجوم بالموسم التالي وهو لا يزال ابن الثامنة عشر. في الحقيقة كان «النينو» يحتاج لرعاية فنية ومعنوية خاصة، وقد آمن أراجونيس بموهبته منذ اللحظة الأولى لذا كان هو من لعب دور «الأب».

لا يوجد نموذج عن الدعم الذي يوفره المدرب للاعب ناشئ مثل ثنائية «أراجونيس- توريس»، إذ لم يدخر العجوز الإسباني جهدًا أو وقتًا مع لاعبه. علمه كيفية إنهاء الهجمات والتمركز الصحيح داخل منطقة الجزاء، كما زرع في نفسه رغبة قوية في التألق بقميص أتليتكو، وقد دفع باسمه عاليًا في ترتيب من يحمل شارة القيادة.

في المقابل، كان فرناندو يثبت يومًا بعد الآخر أنه جدير بتلك الرعاية، حيث وجد لنفسه مركزًا بين أفضل مهاجمي الليجا بسرعة قياسية. تخيّل أنه سجل في موسمه الأول 13 هدفًا، ثم أنهى الموسم التالي برصيد 20 هدفًا مزاحمًا أسماء بقيمة «الظاهرة رونالدو، راؤول جونزاليس، صامويل إيتو» على صدارة هدافي البطولة الإسبانية وهو لم يكمل عامه العشرين بعد!

بات فرناندو توريس رمزًا في أتليتكو مدريد؛ كان القائد، والهداف، وابن النادي والمدينة. أصبح هو المعادل لكارليس بويول في برشلونة، وإيكر كاسياس في الريال. وكل ذلك حدث بينما كان يبحث بقية أبناء جيله على فرصة للمشاركة ولو كبدلاء.

فرناندو توريس، أتليتكو مدريد، الدوري الأسباني، لويس أراجونيس
فرناندو توريس خلال الفئات السنية المختلفة مع نادي رايو 13 وأتليتكو مدريد.

وطن بعيد عن الوطن

بنهاية موسم 2006/2007، كان توريس يحتفل بهدفه رقم 82 مع الأتليتي. وبقدر سعادة الجماهير بما حققه، كانت إدارة النادي على يقين أنها لن تتمكن من الاحتفاظ به فترة أطول، خصوصًا مع العروض المالية التي قدمها مالك نادي تشيلسي «رومان أبراموفيتش» لاستقدامه، لكن اتصالًا هاتفيًا من إنجلترا سيغير وجهة فرناندو بعيدًا عن لندن. كان ذلك «رافاييل بينيتيز».

المدرب الإسباني أكد لابن جلدته قناعته التامة بإمكانياته، واستعداد إدارة ليفربول لدفع مقابل مالي مُغرٍ، كما ثقته أنهما سيتمكنان معًا من صناعة شيء كبير، فقط طلب منه أن يتخذ صف الريدز في مقابل البلوز على طاولة المفاوضات. اقتنع بالفعل فرناندو، وانتقل صيف 2007 في صفقة بلغت 30 مليون يورو.

طبعًا كان ذلك حينها رقمًا ضخمًا، خصوصًا وأن توريس لم يمتلك خبرة اللعب في التشامبيونزليج بعد. لذلك بدأت موجات من التشكيك في قدراته تتوالى منذ وصوله، لكنه لم ينتظر أكثر من ربع ساعة في أولى مشاركاته بالقميص الأحمر ليسكت كل المتربصين. كان ذلك عندما تلقى تمريرة رائعة من «ستيفن جيرارد»، لينطلق بسرعة الصاروخ صوب مدافعي تشيلسي ويسكن الكرة أقصى يسار مرمى «بيتر تشيك».

أصبح هذا الهدف هو عنوان حقبة خالدة في ذاكرة جمهور ليفربول لثنائية «جيرارد- توريس». هذه الثنائية، التي ستصل لدرجة مرعبة من التفاهم والانسجام، احتاجت فقط لخطأ دفاعي بسيط أو مساحة صغيرة أمام المرمى لتهديد الخصوم. كان فرناندو هو المهاجم الذي ظل ستيفي يطلب من الإدارة انتدابه خلال كل السنوات الماضية، وكان جيرارد هو «الكابتن ياسين» صاحب القدرات المتعددة الذي يدعم زميله ماجد كما يعرفه توريس.

لا شك أن نسخة المهاجم الإسباني في ليفربول هي الأقوى في تاريخه، بل من غير المبالغة وصف فرناندو بأنه أقوى مهاجمي تلك الفترة، حيث أصبح أكثر شمولًا وشراسة، ويمكنه استغلال أي وضعية هجومية والتسجيل بكلتا قدميه أو برأسه. وقد نجح فرناندو في تحقيق عدد من الأرقام المذهلة؛ أولها طبعًا تسجيله 33 هدفًا بمختلف البطولات خلال موسمه الأول، كما صناعته لخمسة أهداف أخرى.

وبفضل تلك الأرقام، ظن الكل أن توريس مع جيرارد سيرجحان كفة الفريق في الموسم التالي. لكن لأن الدراما لا تضل طريقها لليفربول أبدًا، فقد تعرض الثنائي لإصابات متكررة في أوقات مختلفة. وهو ما أدى بالضرورة لغياب أحد الضلعين عن أغلب مشاركات الفريق، وبالتالي انخفاض كفاءة الريدز الهجومية والسقوط في فخ التعادل خلال أكثر من جولة، ومن ثم خسارة الدوري في الأسابيع الأخيرة رغم ما حصده الفريق من نقاط.

الكابتن ماجد وياسين على اليمين، وفرناندو توريس مع ستيفن جيرارد في اليسار.


اللعنة

فرناندو توريس، ستيفن جيرارد، ليفربول، الدوري الإنجليزي.
فرناندو توريس، ستيفن جيرارد، ليفربول، الدوري الإنجليزي.

قصة فرناندو توريس بها قدر كبير من الرومانسية، يبدو ذلك واضحًا في مراحل النشأة والتوهج. وككل القصص الرومانسية، فإن النهاية لابد أن تحمل قدرًا مساويًا من الدراما. وقد بدأت الدراما فعلًا في يناير من عام 2011، أو ربما قبل ذلك قليلًا عندما بدأت المشاكل والأزمات في ضرب إدارة ليفربول، ومن ثم لجأت لبيع أهم نجومها كـ«ماسكيرانو، وتشابي ألونسو». وهنا تأكد السيد أبراموفيتش أن اللحظة قد حانت ليحقق أمنيته ويرى توريس بالقميص الأزرق.

قدم الملياردير الروسي عرضًا من الصعب رفضه. وضع 50 مليون يورو دفعة واحدة أملًا في أن يواصل فرناندو عروضه المذهلة مع تشيلسي، لكن ذلك لم يحدث أبدًا. يرى بعض جمهور الفريق اللندني أن المشكلة تكمن في اللعنة التي تصيب كل من يرتدي الرقم 9، فيتحول من مهاجم فذ وشرس للاعب آخر تائه وعديم الفاعلية، لكن في الحقيقة يبدو الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.

أزمة توريس مع تشيلسي كانت مركبة؛ من ناحية فقد عانى مع أسرته من التأقلم مع الحياة في لندن، بعكس ما كان الحال في ليفربول. ومن ناحية أخرى، كان فرناندو يفتقد الرعاية والاستقرار الفني مع التغيير الدائم لمدربي تشيلسي في تلك الفترة، بخلاف ما كان الوضع عليه مع بينتيز أو أراجونيس. ومن ناحية ثالثة، فإن الإصابة التي تعرض لها أثرت سلبيًا عليه.

بالطبع لم يحقق فرناندو النجاح المتوقع مع البلوز، لكن على الأقل سيتذكره جمهور تشيلسي بهدفه الرائع في شباك برشلونة بالكامب نو، كان هذا هو هدف تأهل الفريق لنهائي تشامبيونزليج 2012 الذي فاز به رفاق «دروجبا» في الأخير.

خرج فرناندو في إعارة غير ناجحة لميلان، ثم انتهى به الحال حيث بدأ هناك في ملعب فيسينتي كالديرون. كان في استقباله الجمهور الذي آمن به صغيرًا، وزميله السابق «دييجو سيميوني» الذي أضحى مدربًا وصنع تاريخًا لأتليتكو مدريد، ليكتب توريس الفصل الختامي من مسيرته. هذه المسيرة التي نبتسم حين نتذكرها تمامًا كما نفعل حين يمر أمامنا اسم الكابتن ماجد.