«جوزيف تيتو»، اسم لشارع يمتد في منتصف المسافة بين مطار القاهرة الدولي ومصر الجديدة، يتعامد معه شارع «جمال عبد الناصر» المتفرع من جسر السويس، في جوار جغرافي تتبادر معه إلى الذهن صورة الصداقة المتينة التي ربطت بين صاحبي الاسمين في حياتهما، وأثَّرت على مستوى دولي وإقليمي، وكذلك على مستوى السياسة الداخلية والخارجية لبلديهما.

نستعرض في هذا المقال بعضًا من نتائج هذه العلاقة المتينة بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وجوزيف تيتو، الرئيس اليوغسلافي.


حركة عدم الانحياز

في أواخر 1954 كان أول لقاء لجمال عبدالناصر وتيتو، تبعه لقاء آخر في مؤتمر باندونج بإندونيسيا، والذي على إثره تأسّست حركة عدم الانحياز التي كانا يحملان فكرتها ومعهما نهرو رئيس وزراء الهند، وفي هذا المؤتمر وضعت ما يسمى بمبادئ باندونج العشرة التي تحكم العلاقات بين دول الحركة وغيرها، وكان هدفها الرئيسي «عدم الانحياز» إلى المعسكرين الشرقي والغربي آنذاك، وأيدت حق تقرير المصير، والاستقلال الوطني، والسيادة، والسلامة الإقليمية للدول، وعارضت الفصل العنصري، ودعت لعدم الانتماء للأحلاف العسكرية المتعددة الأطراف، وللكفاح ضد الاستعمار بكافة أشكاله وصوره، وغير ذلك.

ترافق تأسيس الحركة مع تحرّكات دبلوماسية شملت زيارة الزّعيمين ناصر وتيتو كل منهما لدولة الآخر وإلقاء الخطابات الجماهيريّة، وكذلك مع علاقات اقتصادية دخلت من خلالها يوغسلافيا السّابقة السّوق الأفريقية، خصوصاً في مجال الإنشاءات وبناء الجسور وتصدير السّلاح.

ونتج عن صداقة الزّعيمين تغيّرات في حقوق المواطنين في دولتيهما، لم تكن لتحدث ربّما لولا تلك الصّداقة، فمثلاً في إحدى زيارات عبد النّاصر ليوغسلافيا دعاه تيتو لحضور المؤتمر الشّيوعي ووقف مندوب يوغسلافي وسط الجلسة ووجّه التّحية لروح شهدي عطيّة الشّافعي الذي سجن بسبب شيوعيّته، وقتل في سجون ناصر تحت التّعذيب. وقتها أمر ناصر من يوغسلافيا بوقف التّعذيب وتمّ نقل الشّيوعيين لسجن الواحات.

وعلى صعيد يوغسلافيا فقد اعترفت لأوّل مرّة بالمسلمين كقوميّة لها حقوقها وتمثيلها الخاص في الاتحاد اليوغسلافي، بعد سنوات من الاضطهاد والتّهميش.


وضع المسلمين في يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية

بعد استيلاء الشّيوعيين بزعامة جوزيف تيتو على الحكم بيوغسلافيا السّابقة، تتالت القرارات التي عملت على تحجيم تأثير الدّين في حياة المجتمع، واستهدفت الدّين الإسلامي بصورة أقوى لسببين:

1. النظرة له كدين آسيوي لا ينتمي للمنطقة ويعارض التقدّم والتّحديث.

2. دين لا يقتصر على الشّعائر والطّقوس الدّينيّة، بل يؤثّر بشكل واضح على مجتمع معتنقيه.

وهكذا رغم وجود بند في الدّستور الذي صدر عام 1946 يمنح الحريّة الدّينية لجميع الأفراد في يوغسلافيا، صدر في نفس العام قرار يلغي المحاكم الشّرعية، ومنع النّقاب في عام 1950، وأغلقت كتاتيب تعليم القرآن للأطفال، وبعد عامين حُظرت تكايا الدّراويش وبلغت ذروة الاضطهاد بقرار إعدام أربعة أعضاء في جمعية الشّبان المسلمين بتهم عدّة وسجن المئات من أعضائها.

وكان وضع المسلمين الموزّعين في أنحاء يوغسلافيا، وإن تركّز أغلبهم في البوسنة والهرسك وكوسوفو ما زال يحمل صفة الجماعة الدّينية، وليس القوميّة العرقيّة، مما حرمهم من التّمثيل العادل في حكومات ومؤسسات الاتحاد اليوغسلافي، وكانت علاقة تيتو بناصر ونشوء حركة عدم الانحياز نقطة تحوّل في الاعتراف بالمسلمين.

ففي إطار تسويق يوغسلافيا لنفسها كدولة لا تنتمي للمعسكر الشّيوعي بل تمتلك عوامل تقرّبها من الدّول الأخرى المشتركة معها في حركة عدم الانحياز صدر قرار عام 1968 يقضي بمنح المسلمين في يوغسلافيا صفة الجماعة الوطنية وأصبح مسمّى «مسلم» تصنيفًا ضمن التّعداد الوطني للسّكّان أسوة بنظرائهم من المجموعات القوميّة الأخرى مثل الصّرب والكروات، الأمر الذي ساعد مسلمي البوسنة فيما بعد بالمطالبة بحقّهم بجمهوريتهم التي يشكّلون غالبيّتها بعد تفكّك الاتحاد اليوغسلافي، وكذلك منح تيتو إقليم كوسوفو الذي تقطنه غالبية من المسلمين الألبان صفة الحكم الذّاتي.

وذكرت مقالة منشورة في موقع المجتمع الإسلامي الكرواتي حادثة توسّط فيها عبد الناصر لعلماء مسلمين من يوغسلافيا درسوا في الأزهر لدى تيتو ليخرجهم من السّجن، وقام بزيارة سراييفو وجامع الغازي خسرو بك معلمها الإسلامي الرّئيسي ليطّلع على أحوال المسلمين بنفسه.

وكان هناك اتجاه واسع بين مسلمي يوغسلافيا آنذاك ينظر لعبد النّاصر كرمز عربي يهتمّ بحقوق المسلمين، وشاعت في حقبة السّتينيات والسّبعينيات تسمية مواليد المسلمين بـ«جمال» و«ناصر»، ومن هؤلاء المواليد ناصر أوريتش، قائد الدّفاع عن سربرينتسا وأحد أشهر أبطال الميدان أثناء العدوان الصّربي على البوسنة، الذي ذكر في مقابلة معه أنّ أبواه سمّياه بهذا الاسم تيمّنًا بجمال عبد النّاصر.


موقف يوغسلافيا من الصّراع العربي الإسرائيلي

ونظرة مسلمي يوغسلافيا «السّابقة» ربما تفاجئ الكثيرين من العالم العربي الذين يعتبرونه رمزًا لفكرة «القوميّة العربية» و «الاشتراكيّة العربية»، وكذلك الذين يعلمون بالصّراع المرير بين ناصر وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتأميم الأزهر الذي قام به في عهده وإلغاء المحاكم الشّرعية وتأميم الأوقاف الأهلية وغيرها من الأعمال التي تبدو مناهضة للنّفوذ الدّيني في الحياة السّياسيّة والاجتماعية.

كان أيضًا من نتائج صداقة ناصر وتيتو تغيّر موقف يوغسلافيا من الصّراع العربي الاسرائيلي، فقبل لقاء ناصر وتيتو كانت الحكومة اليوغسلافية تقف مع التطلّعات الصّهيونيّة، وقال مندوبها في جلسة الأمم المتحدة المنعقدة في مايو/ آيار 1947:

دعونا نتعاون جميعًا في خدمة الشعب اليهودي. فقد عانى من العذاب ما فيه الكفاية وآن له ولنا أن يستقر به المطاف…
ثم تابع بقوله:
من المستحيل فصل مشكلة فلسطين عن مصير الشعب اليهودي.
ونصح العرب بالاستفادة من اليهود قائلا:
سيستفيد العرب من أيام اليهود بالأنظمة الاشتراكية والديمقراطية التي يفتقرون إليها. وعلى العرب أن يقدروا تضحيات اليهود ويكفوا عن العناد الذي لا جدوى منه.

وحين تحرّكت الجيوش العربية في 1948 للمشاركة في تحرير فلسطين، أصدرت الحكومة اليوغسلافية بيانًا ندّدت فيه بالهجوم العربي ووصفت العرب فيه بـ«الغزاة».‪

أما بعد مؤتمر باندونج فقد شجبت يوغسلافيا العدوان الثّلاثي على مصر عام 1956 وهدّدت بإرسال المتطوعين للقتال بجوار الشّعب المصري، وبعد عدوان 67 كانت يوغسلافيا أول دولة تقطع علاقتها الدبلوماسيّة مع إسرائيل في 11 يونيو/ حزيران، وكذلك أمر تيتو على الفور بإنشاء جسر جوي للطوارئ وتوريد الأسلحة لمصر.

وبسبب مواقف تيتو، التي يزعم الكثيرون أنها شخصية في طبيعتها، دخل في صراع ليس فقط مع القوى الغربية، لكن مع أعضاء داخل الحزب الشيوعي اليوغسلافي، فقد كانت هناك مخاوف مبررة من أن يوغسلافيا، التي تنظر غربًا نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، قد تعرض موقفها للخطر إذا استمرت بتوجيه اتهامات ضد إسرائيل، وبالتالي ضد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

وتغيّر موقف يوغسلافيا من القضية الفلسطينية رافقه دعم قويّ لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد ذلك، إذ دعت قادة المنظمة لزيارة بلغراد، فقام وفد برئاسة رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عرفات بزيارة يوغسلافيا في مارس/ آذار 1972، ولم تكتف يوغسلافيا تيتو بتسليح منظمة التحرير الفلسطينية فحسب، بل أصبحت أيضًا ملاذًا آمنًا وقدّمت التّدريب للعديد من كوادرها في مجال قيادة الطّائرات وهؤلاء كانوا نواة القوات الجويّة التّابعة للمنظمة، ويقال إن عدد المتدربين بلغ 350.

كان هذا على الصّعيد العسكري، أمّا على الصّعيد السّياسي فقد دعا تيتو للقضية الفلسطينية في محافل مختلفة حول العالم، وسعى في عام 1970 إلى إيجاد تسوية سلمية للنزاع العربي- الصهيوني. وقد جاءت هذه المبادرة اليوغسلافية إثر لقاء جرى بين الرئيس تيتو ووزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز في أديس أبابا في العام ذاته لبحث تطورات النزاع العربي – الإسرائيلي، لكن هذه المساعي لم تثمر لأسباب أهمّها قبول مشروع روجرز الأمريكي.