تنطلق أغلب المواقف المناهضة للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه التي لا تنتهي عادة من قاعدتين أساسيتين، أولهما رفض الوجود الصهيوني على الأراضي الفلسطينية باعتباره احتلالًا استيطانيًا غير شرعي وفق كافة المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية، أما القاعدة الثانية فتنطلق من التعاطف الإنساني تجاه الملايين من الفلسطينيين الذين قُتلوا أو هُجّروا من أراضيهم منذ النكبة وحتى اللحظة الراهنة.

ولكن المشهد الحالي لما يحدث في غزة عقب عملية السابع من أكتوبر، التي أطلقت عليه فصائل المقاومة الفلسطينية «طوفان الأقصى» يحيلنا إلى حقيقة جديدة، حقيقة ربما تكون أشمل وأعم من كافة الحقائق التي نعرفها جيدًا عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي الإجرامية، ألا وهي أن وجود الاحتلال الإسرائيلي يمثل خطرًا على الحضارة البشرية كلها، وعلى العقل البشري بمعناه التاريخي، حتى وإن توقف عن إجرامه يومًا ما، حتى وإن كَفّ عن مجازره على نحوٍ ما، سيظل مجرد وجود هذا الكيان وكأنه علامة على جبين الإنسانية، علامة تشير إلى هزيمة العقل أمام البربرية والجنون، تمامًا مثل قوس قزح، العلامة التي وضعها الله لبني البشر وعدًا بألا يتكرر طوفان نوح مرة أخرى بحسب القصة التوراتية.

إسرائيل ضد العالم

ظهرت في الآونة الأخيرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تزامنًا مع المجازر اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة، العديد من المواد المصورة والمقروءة التي تشبه الفلسطينيين بالسكان الأصليين لأمريكا الشمالية، في إشارة إلى الإبادة العرقية التي ارتكبها المواطن الأبيض ضد مَن أُطلق عليهم «الهنود الحمر»، ومقاربة تلك القضية بالمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ثم إظهار الحدث الثاني كامتداد للحدث الأول.

إلا أن تلك المقارنة وعلى الرغم من نبل أهدافها، بافتراض حسن النية، لكنها تتجاهل عديدًا من الحقائق التاريخية والفلسفية حتى وإن كان من دون قصد، فالإبادات العرقية التي ارتكبها الأوروبيين ضد السكان الأصليين لأمريكا بدأت في القرن السابع عشر، أي قبل وجود المنظمات الدولية ومواثيقها التي تُعرّف وبشكل دقيق تلك المعايير السياسية بمئات السنين.

ذلك بالطبع لا يعفي المستعمر الأبيض من تحمل مسؤوليته تجاه جرائمه التاريخية ضد السكان الأصليين في شتى بقاع الأرض وليس في أمريكا وحدها، ولكن أخذه في الاعتبار ضروري من أجل فهم الأحداث داخل سياقاتها التاريخية ثم الخروج باستنتاجات موضوعية. فالمستعمر الأوروبي لم يكن يحكمه قبل أكثر من 300 عام إلا منطق القوة ولا غيره، وهكذا تعامل مع السكان الأصليين في كافة المستعمرات التي استوطنها.

بينما على الجانب الآخر من المقاربة، نجد الاحتلال الإسرائيلي، الذي أقام دولته المزعومة رسميًا قبل أقل من 100 عام، أي في وجود منظمة الأمم المتحدة، وفي وجود الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. ولن نطيل الحديث عن المجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي خلال النكبة وما بعدها فالمصادر لا تعد ولا تحصى.

هنا تظهر المفارقة على نحوٍ أوضح، فالسياق التاريخي حاسم، جرائم الاحتلال الإسرائيلي لم تمر فقط لأن مرتكبها كان الطرف الأقوى في الصراع كما في حال الإبادة العرقية لسكان أمريكا الشمالية، لكنها مرت أيضًا لأن الاحتلال الإسرائيلي تحدى العالم وقوانينه، ووجد من يدعمه في ذلك. ومن تلك النقطة نستطيع ببساطة استنتاج معنى العامل الزمني وتأثيره على تقييم الوقائع التاريخية، فالاحتلال الإسرائيلي وجرائمه التي ارتكبها طوال نحو 80 عامًا، وما زال حتى ساعة كتابة تلك الكلمات، لا تتشابه بحال مع جرائم أسلافه من المستعمرين الأوروبيين، فالعالم الآن لديه قوانينه، وقد نضج بالقدر الكافي لكي يدرك يقينًا فداحة تلك الجرائم.

التاريخ معكوس

لا يمكن الحديث عن التاريخ فلسفيًا من دون استحضار أهم من تناولوه، الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، الذي دارت فلسفته حول فكرة مركزية محددة ألا وهي أن العقل البشري، أو ما أطلق عليه هيجل «روح العالم»، يظهر في التاريخ، أو بمعنى أدق في حركة التاريخ، فتطور التاريخ من عصر إلى عصر، وتطور معارفه وقيمه ومنظوماته الحاكمة يعد انعكاسًا للوعي الجماعي للبشرية الذي يتقدم بالضرورة ويعاد تشكيله بما يتفق مع مفردات عصره، هنا يكون العقل في المركز من التاريخ، فهو الذي يحركه ويتحرك من خلاله.

وبقراءة سريعة ومقتضبة للتاريخ الإنساني، يمكننا استنتاج حقيقة واحدة يمكن الاتفاق عليها بسهولة، وهي أن التاريخ البشري يتقدم من البربرية إلى التحضر، من منطق القوة إلى منطق العدالة والحق، حتى وإن بدت تلك الكلمات الآن هزلية بعض الشيء في ظل ما يحدث على الأرض فعليًا في قطاع غزة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، لكن تلك المفارقة تحديدًا هي لُبّ حديثنا.

فالعالم قبل مائة عام لم يكن يشبه عالمنا اليوم لا قيميًا ولا أخلاقيًا، وكذلك العالم في العصور الوسطى كان أبعد اختلافًا، وهكذا دواليك، فحقيقة تطور الوعي البشري بتقدم التاريخ تبدو جلية للجميع.

إلا أن الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، وهو أحد أهم الفلاسفة الهيجليين المعاصرين، يجادل بأن جوهر فلسفة هيجل التاريخية لا تدّعي أن التاريخ يتجه إلى نقطة محددة، أو بمعنى آخر لا تبشّر بأن التاريخ يسير في خطٍ مستقيم، وهو يقتبس من هيجل مقولته الشهيرة: «بومة مينيرفا لا تبدأ في التحليق إلا بعد هبوط الليل»، أي أنه لا يمكن الحكم على ظاهرة تاريخية ما إلا بعد انتهائها تمامًا، حيث تكون قد تشكلت وبلغت ذروة نضجها التاريخي ثم اضمحلت وتفككت لصالح ظاهرة جديدة.

لذلك فإن الاعتقاد الليبرالي الغربي السائد في عصرنا الحالي، والقائل بأن الحضارة البشرية تتقدم بالضرورة نحو مزيد من التحضر والرقي ليست إلا محاولة للتأكيد على علو القيم الغربية ومشروعيتها، لكنها لا تتفق مطلقًا مع جوهر حركة التاريخ. ويدلل جيجك على وجهة نظره تلك باستحضار نماذج من التاريخ الحديث، نماذج بدأت بمشاريع سياسية ذات أهداف نبيلة وانتهت إلى كوارث لم تكن تخطر ببال إنسان، كالنموذج السوفييتي على سبيل المثال.

وفي إطار تلك الانحرافات التاريخية التي حدثت ومازالت تحدث، يأتي السؤال، ما الذي يمكن أن يضمن للبشرية ألا تعيد إحياء ماضيها البربري الهمجي من جديد؟ وخصوصًا في ظل تكاتف أعتى قوى العالم لدعم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي فقط من أجل مصالح سياسية، متجاهلين كافة القوانين والمواثيق الدولية وحتى الأخلاقيات الإنسانية بفجاجة تدعو للكفر بكل ما آمن به العقل الحديث يومًا ما.

ومن تلك النقطة يمكننا استنتاج أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي واستمرار الدعم السياسي العالمي له على هذا النحو، لا يمكن أن يُكرّس أي فكرة في الوعي الجماعي البشري، أو روح العالم، إلا منطق القوة ولا سواه، ويقف حائلًا أمام استمرار رحلة العقل الطويلة نحو التحرر من الهمجية والبربرية، بل وإنه يعيدها قسرًا إلى الوراء، ولذلك يصبح كل صوت يدين الاحتلال الإسرائيلي، لا يكون مدافعًا عن قضية سياسية عادلة فحسب، أو عن شعب أعزل يتعرض للإبادة فحسب، ولكن عن مستقبل البشرية برمتها الذي نرى إرهاصاته المخيفة الآن.

الجنون نقيض للحضارة

انطلاقًا من الاستنتاج السابق بأن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وانعكاساتها على مجرى العقل البشري تُبشّر بمستقبل عنوانه الاحتكام للقوة ولا سواها، يُعرّف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الجنون على نحوٍ مخالف للتعريفات النفسية والطبية، حيث يعتبره ظاهرة حاربتها الحضارة البشرية على امتدادها بغية الدفاع عن العقل ومكتسباته.

ولا يعده مرضًا محضًا، بل جادل بأن الجنون يحمل في طياته ما أطلق عليه الوجود الأصيل، أي أنه نمط من الفكر المستقل الذي يعكس رؤية جمالية وأخلاقية خاصة للعالم، لكن تلك الرؤية لا تتلاءم بالضرورة مع الأفكار التي اتفق عليها العقل البشري الجماعي الذي أنتج الحضارة، لذلك دأبت البشرية على محاربة الجنون وعزل المنتسبين إليه، ليس لمجرد أنهم يمثلون خطرًا على محيطهم الاجتماعي فحسب، ولكن على الحضارة كلها.

من خلال تلك المقدمة يؤكد فوكو أن الجنون كان لديه المقدرة على تغيير العقل ثم العالم، أو على أقل تقدير تعطيل مسيرته وتشتيتها، وإلا فلماذا اشترك كافة البشر باختلاف الزمان والمكان في محاربة الجنون حتى وإن اختلفوا على مظاهره وتعريفاته؟

وبالعودة مجددًا إلى العالم الذي يُبشر به التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في شكله المفاهيمي، ألا وهو التطبيع مع منطق القوة معيارًا حاكمًا للعالم، نجد أن الواقع الذي بتنا بصدده، مجددًا، لا يعد سوى انعكاسًا للجنون الذي يتسرب إلى العقل البشري وحضارته، ذلك الأمر الذي تمكن قراءته من خلال الفعاليات الاحتجاجية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، التي تعج بها كثير من بلدان العالم بشكل ربما لم نشهده من قبل طوال عقود من الصراع.

وذلك لأن العقل الجماعي لا يزال يدرك جيدًا أن الجنون يجب عزله، ويجب محاربته، لأنه وإن كان خطرًا على فئة صغيرة اليوم، يمكن أن يتضخم ويتربع على عرش العالم ليكون دستور الحضارة الجديد يومًا ما، أو ربما أطلال الحضارة، فالعالم الذي تحكمه القوة فقط، لن يختلف بحال عن عالم ما قبل التاريخ حيث يتساوى فيه الإنسان والحيوان، حتى وإن بدت مظاهره الشكلية عاقلة، فإن جوهره سيكون الجنون.