هل سيتطور علم الإنسان حتى يفهم كل شيء؟ هل ستأتي لحظة نحوذ فيها العلم الكلي بالأشياء حتى لا يبقى على الأرض مجهول؟ أم أننا نحسّن ونطوّر من معارفنا ولكننا لن نحيط بكل شيء علمًا؟

منذ أن وُجد الإنسان على الأرض وهو يسعى دائمًا إلى فهم العالم من حوله. يحاول فهم سقوط الأمطار، حركة الرياح، المد والجزر، بل فهم الإنسان نفسه. ومن فهمه يحاول أن ينتج شيئًا جديدًا، فيتعلم الزراعة والصناعة وبناء السفن والسيارات والطائرات، ويكتب مناهج التعليم والنظريات السياسية ونظريات علم النفس والاجتماع وغير ذلك كله.

ولكي يفهم الإنسان الظواهر من حوله ويستخلص منها نموذجًا تفسيريًّا يميل دائمًا إلى «تحديد» الأشياء والمفاهيم، أن يجعل لها حدًا فاصلًا تنتهي عنده ليتمكن من رؤيتها والتعامل معها والبناء عليها، ويختار الإنسان أن يبتعد عن «السيولة» الموجودة في الطبيعة لكل شيء، فيفقد بذلك جزءًا من الحقيقة.

فدراسة أي ظاهرة في الطبيعة تتطلب دراسة العوامل المؤثرة فيها، ومن هنا يقوم الباحث باختيار عدد من تلك العوامل يظن أنها الأكثر تأثيرًا في الظاهرة، ثم يهمل العوامل الأخرى نظرًا لضعف تأثيرها، كما يرى ويتبدى له.

فمثلًا الذي يبحث في ظاهرة تلوث البيئة يبدأ بالنظر في العالم محاولًا إيجاد الأسباب أو العوامل المؤثرة في الظاهرة، فيأخذ في الاعتبار عوادم السيارات والمداخن ومخلفات المصانع، وكلها من الجنس نفسه، وهو إخراج المواد الكيميائية الضارة، ولكن قد يتوسع ليحيط بعوامل أخرى تزيد من دقة نظرته، إلا أنها تزيد من تعقيدها، مثل الأنماط الاقتصادية الاستهلاكية وعلاقتها بزيادة الإنتاج ثم الرغبة في تقليل تكلفة التصنيع باستخدام مواد قد تكون ضارة بيئيًا، ثم كذلك تأثير النموذج الاقتصادي الحاكم والذي يسعى لتحقيق الربح كهدف.

هنا قد تكون الصورة اتضحت أكثر للباحث إلا أنه قد زادت صعوبة دراستها وتناولها بين الناس. ومع ذلك تبرز دائمًا أسئلة جديدة مع أخذ المزيد من العوامل في الحسبان، مثل لماذا يتبنى الناس تلك النماذج الاقتصادية مثلًا؟ هل هناك بدائل؟ وما هي تلك البدائل؟ ثم ما معوقات تبني تلك البدائل؟ ثم يبرز دور السياسة كمعوق للتغيير، ثم ينفتح الباحث على المعوقات السياسية والقانونية والاجتماعية، وهكذا قد تتطور إلى حد شديد من التعقيد لدرجة أن الظاهرة قد تتفرع لعلوم كاملة.

لذا فكلما زاد الباحث من عدد العوامل المأخوذة في الاعتبار؛ زاد استحكام نموذجه المفسّر للظاهرة واقترب من الدقة والفهم الكلي لها، ولكن زاد مع ذلك تعقيد النظرية ودراستها ومن ثم انتشارها بين الناس، وصعُب استخراج الحلول العملية التطبيقية منها.

وفي اختياره لعوامل قليلة؛ سهولة دراسة المسألة وتبسيطها وسرعة إخراج ذلك النموذج إلى النور والبناء عليه، ولكن المخاطرة هنا هي عدم دقة النموذج، فعمر النموذج التفسيري سيكون قصيرًا حتى تأتي ظروف معينة يظهر فيها أهمية أحد العوامل المهملة ويعجز النموذج عن تفسير الظاهرة، وتعجز الحلول المنبثقة من النموذج عن حل المشاكل.

ولنأخذ مثالًا بسيطًا آخر من سياق مختلف على ذلك نفعله يوميًا، وهو تقريب الأعداد الطبيعية. فمثلًا إن أردنا أن نقسم الرقم 4 على 3، فقد نعتبر أن الناتج هو 1.3 أو دعنا نقول 1.33 لنكون أكثر دقة، أو نزد رقمًا آخر بعد العلامة العشرية فيصبح العدد 1.333، الآن صرنا أكثر دقة حين اعتبرنا عددًا أكبر من الأرقام بعد العلامة، وهكذا كلما زاد عدد الأرقام صار عندنا تعبير أقرب للدقة الكاملة، وكلما اقتصرنا على عدد أقل من الأرقام فقدنا بعضًا من القيمة وابتعدنا عن الدقة والقيمة الحقيقية.

في الغالب ما نفعله هو الاقتصار على عدد قليل حسب المجال المستخدم فيه الرقم، فإن كنا مثلًا نتعامل بالأموال نقتصر على عددين بعد العلامة العشرية. يتراضى البشر بذلك رغم أنهم يعرفون أن هناك قيمة مفقودة من الأموال نتيجة لهذا التبسيط الذي تم، ولكن مثلًا إن تم الاقتصار على عدد أقل مثل أن يكون ناتج قسمة 4 على 3 = 1، هنا يصبح الفقد في القيمة كبيرًا، وابتعاد الحل عن القيمة الحقيقية أكبر، ولا تصلح تلك الدرجة من التنازل عن الدقة في إنجازنا لأعمالنا.

تخيل الآن أن هذه العملية تم البناء عليها وتم استعمال تلك النتيجة في حسابات أخرى، سيزداد الفقد في القيمة الحقيقية كلما استعملنا ذلك الرقم أو تلك النتيجة التي توصلنا لها. وهناك العديد من الكوارث التي حدثت بسبب تراكم الفقد في الحسابات بسبب تقريب الأعداد لدرجة معينة، ومن ثم فقد قيمة لم يرَ أهميتها واضعو النظم. يمكنك قراءة أمثلة عن تلك الكوارث هنا.

ستجد ذلك التحديد يتم في كل شيء حولنا، في دراستنا للإنسان والتجارب النفسية التي تضع البشر في قوالب، في الطبيعة وظواهرها، وفي دراسة باطن الأرض وخارجها، نحاول دائمًا أن نقترب من القيمة النهائية، القيمة المطلقة، ولكن لا تتسع حدودنا التي نضعها لذلك الكمال.


إذن ما هي القيمة الحقيقية هنا؟

ما هي القيمة الحقيقية هنا؟ ما هي الحقيقة التي نبتعد ونقترب منها ولكن لا نبلغها أبدًا؟

القيمة الحقيقية وحقيقة أي ظاهرة ندركها عند اعتبار كل العوامل، حتى تلك العوامل التي نراها ضعيفة وغير مؤثرة بشكل أساسي. فتلك العوامل رغم ضعف تأثيرها؛ فإن تجاهلها سيحقق في النهاية فقدًا ما ويبعدنا عن الحقيقة. ولكن «كل العوامل» في حالة الأعداد على سبيل المثال يعني عددًا لا نهائيًا من الأعداد، وذلك ما تسميه الرياضيات ما لا نهاية، وهو ما لا نستطيع إدراكه، حتى لو كتبنا الأعداد على المسافة بين كوكب الأرض والشمس، حتى لو كانت ملء المسافة بيننا ومجرة أخرى؛ فلن نبلغ اللانهاية أبدًا.

وكذلك اعتبار كل العوامل في مثال فهم ظاهرة تلوث البيئة سيجعلنا نبحث في طرق الصناعة والنظم الاقتصادية، والنظم السياسية والقانونية، ثم علوم النفس والاجتماع لدراسة سلوك البشر، وغير ذلك من العلوم، ليبلغ بنا الأمر حدًا شديدًا من التعقيد لا نعرف له نهاية.


هل نحتاج فعلًا إلى بلوغ الحقيقة الكاملة؟

ولكننا قد نتساءل: وهل نحتاج فعلًا إلى بلوغ الحقيقة الكاملة؟ هل من الضروري أن نحتوي الحقيقة في حين أنه يمكننا الوصول إلى حد معين من فهم الواقع أو حل مشاكلنا دون الدخول في التعقيد الكاشف لنقصنا وعجزنا؟ ذلك سؤال يجيب عنه الإنسان دائمًا بالنفي، ثم يستمر في اختراعاته وابتكاراته وصياغة نظرياته عن الإنسان والكون، وتفي الاختراعات بحاجة البشر حتى نكتشف فيها القصور، أو آثارًا جانبية لم نكن نراها نتيجة إهمال عوامل ظننا أنها غير مؤثرة، فنضيف على النظرية عوامل جديدة وتتعقد قليلًا، ثم نسير بها في رحلتنا عبر التاريخ، ثم تفشل في لحظة معينة فنزد عليها ونحسّنها.

وهكذا تسير حياة البشر. نعلم بنقصنا ولكنه نقص لا يعجزنا، نقص يأتي معه مكابدة فلا يقعدنا، نقص لا يوقف التاريخ ولكنه في نفس الوقت يكشف ضعفنا، عجز يجعلنا دائمًا ندرك أن هناك المزيد لنتعلمه، ولنظل ندرك دائمًا أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلًا.

وذلك النقص لا ينتهي، فهو نقص كامن فينا نحمله على كاهلنا عبر التاريخ، حتى اختراعاتنا التي نستخدمها كأدوات نصنع بها اختراعات جديدة تحمل في ذاتها ذلك النقص وتورثه لما تعمل عليه، فحتى المقاييس كالمتر والبوصة والثانية والساعة تحمل هذا النقص والانحراف عن الدقة بدرجة معينة، ثم تسلّم هذا النقص لما تقيسه.

ويقابل هذا النقص في الإنسان إدراك بتعقيد مطّرد في الطبيعة، فأغلب الاكتشافات والاختراعات التي كانت مدفوعة بسؤال واحد أفضت بعد حل ذلك السؤال إلى مئات الأسئلة الجديدة. فعندما تساءل الإنسان عن الكواكب فاخترع التليسكوب، فتح ذلك عليه بابًا عظيمًا من الأسئلة الجديدة تفرع عنها علوم كاملة، وحين اخترع المجهر اكتشف الإنسان كائنات دقيقة تعيش معنا وكنّا لا ندري بها، وتفرع عن ذلك علوم واسعة تبحث في آلاف الأسئلة الأخرى، وغير ذلك في كثير من الاكتشافات والاختراعات الأخرى.

إذن فالأمر ليس منوطًا بقصور الآلات والأدوات العلمية، فإن تم التوصل إلى أداة معينة صرنا بعدها على علم كلي بالكون، بل إن الأمر يرتبط بمحدودية إدراك الإنسان وحواسه، تلك المحدودية التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، بل هي خاصية كامنة في الإنسان، أن الإنسان قاصر ويخطئ.

والإنسان إذا وعى نقصه وعلِم أنه لا يمكنه أن يحيط علمًا بالطبيعة؛ تيقن أنه لن يحيط علمًا بخالق الطبيعة. فسبحانه وتعالى لا تحيط به الأذهان ولا تدركه العقول، فهو الذي لا يحده محدود وقد وسع كرسيّه السماوات والأرض، وهو الذي لا يحيطون به علمًا.

وسبحانه القائل: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا». سورة الطلاق: 12.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.