يجلس كيليان مبابي، ووالدته فايزة لعماري، ومحاميته دلفين فيرهايدين في جلسة تفاوض جديدة مع مسئولي باريس سان جيرمان وعلى رأسهم رئيسه ناصر الخليفي. هذه المرة، انتقلت ذراع التحكُّم للاعب، الذي يبدو أنه قد عقد العزم على ترك الدوري الفرنسي بلا رجعة.

فجأة، يتدخَّل كيليان مقاطعًا الجميع، بعدما سئِم الانتظار من أجل الوصول لحل يرضي جميع الأطراف، موجهًا حديثه للرئيس قائلًا: إن لم تتركني أرحل لريال مدريد، فلا مشكلة سأنتقل للهلال السعودي، أمتلك عرضًا براتب سنوي يصل لـ 700 مليون يورو. 

عند هذه اللحظة، فقدت هذه الجلسة التفاوضية معناها، بل فقدت الأموال نفسها معناها. اللاعب لم يأتِ ليتفاوض على قيمة بقائه، أو حتى سعر خروجه من النادي، بل جاء لاستعراض قوته أمام الشخص الذي ساهم في صناعة هذا الوحش، إن صح التعبير.

حقيقة لا نعلم ما إذا كان عرض الهلال السعودي السخي مُغريًا لمبابي أم لا، أو بالأحرى لا نعلم ما مدى الأمان المادي الذي يضمنه راتبًا سنويًّا يقترب من الـ 700 مليون يورو، ولا يمكن لراتبه الحالي أو راتبه المتوقع في ريال مدريد أن يوفره. 

عذرًا، لا أنا ولا أنت سبق لنا أن تفاوضنا على راتب كهذا. 

في الوضع الطبيعي، قد تكون ساذجًا إذا رفضت راتبًا يساوي 20 ضعف ما تتقاضاه من أجل طموحك المهني، لكن في حالتنا هذه، لا توجد تضحيات. قد تكون الأزمة فقط هي مدى حرص اللاعب على تأمين مستقبل أحفاد أحفاده، لا أكثر ولا أقل. 

والسؤال: كيف وصلنا إلى هنا من الأساس؟

أين البوصلة؟ 

نحِّ الفرنسي جانبًا، لأنه مجرد حالة توضح الوضع الراهن لا أكثر؛ فالراتب الذي يتقاضاه اللاعب في باريس هزلي، والراتب السعودي المعروض هزلي أيضًا، بل إن ريال مدريد نفسه قد سبق أن عرض على اللاعب نفسه راتبًا هزليًّا مقابل خدماته.

يبدو السؤال الأهم الآن هو هل يستحق لاعبو كرة القدم أجورهم الخيالية بالفعل؟ لحظة! نعلم تمامًا أن نسبة اللاعبين الذين يتقاضون رواتب خيالية ضئيلة جدًّا، وكلما نزلنا أسفل الهرم الكروي تضاءلت هذه الأجور حتى نصل لمستوى الهواة، الذين يلعبون دون مقابل. 

في ظل النظام الرأسمالي القائم الإجابة هي نعم. هذا النظام يجعل راتب اللاعب المميز يساوي 600 ضعف الراتب السنوي لرئيس وزراء إحدى الدول المتقدمة، طبقًا لمبدأ العرض والطلب.

والنظرية بسيطة جدًّا، حتى وإن رفضها الجميع من ناحية أخلاقية. العدد المعروض من اللاعبين الذين يمكنهم التنافس بمستوى عالٍ ضئيل جدًّا، بالتالي تعرض الأندية على هذه الزمرة المحدودة رواتب خيالية. 

تضاعف متوسط رواتب لاعبي البريميرليج 15 مرة منذ 1992 وحتى 2012، أي أكثر بعدة مرات من الزيادة في متوسط الأجور بالمملكة المتحدة التي بلغت 186% فقط. 
ذي جارديان، أغسطس 2012. 

الأزمة الحقيقية ليست في الرواتب بحد ذاتها، لكن في عدم وجود معايير حقيقية يُحدد من خلالها الراتب الذي يستحقه كل لاعب لأكثر من سبب؛ أولها هو أننا أمام مزايدة شبه علنية للحصول على خدمات اللاعب، الذي عادةً ما يذهب لمن يدفع أكثر، إلا في استثناءات نادرة لا تنفي القاعدة. وثانيها وهو الأهم أن مسيرة لاعب كرة القدم المحترف تتلخَّص في ثلاثة أو أربعة عقود كبيرة، يحرص عادة على أن تضمن له عزاءً عن التضحيات التي قدمها حتى وصل إلى هذه النقطة، وتقيه شبح قلق ما بعد الاعتزال. 

من ناحية أخرى، تسوق القلة التي تدعي أحقية اللاعبين في مثل تلك الرواتب مجموعة من المبررات المادية، مثل ضمان وجود أبرز اللاعبين، الذين يتقاضون أعلى الرواتب، حصد الألقاب وبيع التذاكر وارتفاع عوائد الحقوق التجارية، وهي مجموعة الروافد التي تضمن بقاء هذه الصناعة قائمة من الأساس، بالتالي من المنطقي أن تذهب الحصة الأكبر من أرباح هذه الأندية لحسابات اللاعبين البنكية. 

لكن ماذا لو أن كل ذلك محض هراء؟ 

أليس بينكم رجل رشيد؟   

المفاجأة، التي لا يمكن اعتبارها مفاجأة للمفارقة، هي أن نخبة أندية كرة القدم الأوروبية مُثقلة بالديون، التي تنوعت أسبابها بكل تأكيد، لكن القاسم المشترك الأعظم بين كل الأندية هو الضرر الذي تسبب به ارتفاع رواتب اللاعبين. وهو ما يثير التساؤل حول السبب الحقيقي في استمرار هذه العجلة في الدوران؟ 

قبل أكثر من عقد كامل، طرح المؤلف والاقتصادي «سايمون كوبر» نفس التساؤل في مقال نشرته «فاينانشيال تايمز» الأمريكية. وقتئذٍ، كانت ديون الأندية الأوروبية قد تخطت 8 مليار دولار أمريكي. في حين كانت تدفع عشرات الأندية أكثر من 100% من حجم مبيعاتها كأجور للاعبين. 

بالطبع، تنتفي هنا حجة دفع أجور خيالية طمعًا في زيادة الأرباح؛ حيث لا توجد أرباح من الأساس، بالتالي ما الهدف إذن من إتخام جيوب اللاعبين بملايين الدولارات؟ 

على عكس ما تعتقد، لم يجد «كوبر» أي مشكلة في هذه الأزمة، بل يرى أننا نبالغ في الحديث عن العلاقة بين ديون الأندية ورواتب اللاعبين، التي قد تنهي وجود أي مؤسسة تهدف للربح؛ لأن رؤساء أندية النخبة لا يجدون حرجًا في الاستدانة من أجل جلب أفضل اللاعبين ومنحهم أعلى الرواتب، بحثًا عن تحقيق الألقاب. 

يبدو الرجُل مُحقًّا، لأننا بعد مرور عقد أو أكثر بقليل لا نزال ندور في نفس الدائرة المُفرغة؛ أندية تراكم الديون دون اكتراث، بينما لا تزال رواتب اللاعبين تتضاعف، كأن شيئًا لم يكن. 

هنا يمنحنا «ستيفان زيمانسكي»، بروفيسور الاقتصاد الرياضي، عبارة مفتاحية يمكن من خلالها حل اللغز، وهي أن فقاعة اقتصاد كرة القدم غير قابلة للانفجار؛ لأن الأندية تعلَّمت مع الوقت أن الحكومات والبنوك لن تتوقف أبدًا عن إقراضها، للدرجة التي تجعلنا نقول إن نخبة أندية كرة القدم الأوروبية أصبحت قوية للدرجة التي تجعل فشلها مستحيلًا. 

من مقعد المشاهد 

لا نعلم هوية من بدأ هذه المتوالية، ولا نعلم متى تتوقف. ربما بدأ كل شيء مع قانون «بوسمان»، الذي أنهى سنوات من استعباد الأندية للاعبين، واستبدل بها سنوات أخرى من جشع اللاعبين أنفسهم، الذين أصبحوا مدركين لحقيقة مكانتهم داخل كرة القدم.

على ذكر اللاعبين، في كتابه: لاعب كرة القدم السري، يتعجب اللاعب مؤلف الكتاب، الذي لم يفصح عن اسمه، من تكرار استعراض مشكلة رواتب اللاعبين في أوساط الجماهير من ناحية أخلاقية؛ لأنه يعتقد أن اللاعب يطلب رقمًا مُعينًا والمسئول يُجيب إما بالقبول أو الرفض، بينما يجب أن تهتم الجماهير بمردوده داخل الملعب فقط. 

إذا كان بإمكاني الحصول على نفس المال من خلال أي وظيفة أخرى، فسأتوقَّف عن لعب كرة القدم فورًا. 
لاعب كرة القدم السري.

يعتقد جيف مور، أستاذ أخلاقيات الأعمال بجامعة دورهام الإنجليزية، أن اعتقاد لاعبي كرة القدم أنهم يستحقون بأي شكل هذه الرواتب ما هو إلا خداع لأنفسهم؛ لأنهم حتى من وجهة نظر اقتصادية بحتة، لا يقدمون للأندية ما يجعل هذا المقابل منطقيًّا. 

على سبيل المثال لا الحصر، أنهك راتب كريستيانو رونالدو يوفنتوس، الذي ظل يعاني توابع وجوده حتى بعد رحيله بأكثر من عام، فيما كان عقد ميسي الخرافي أحد أسباب انهيار برشلونة اقتصاديًّا، وربما ينطبق نفس الأمر على مبابي وباريس سان جيرمان، لكننا فقط لا نستطيع الوصول للأرقام المالية الحقيقية الخاصة بالنادي الباريسي. 

في النهاية، ربما علينا أن نخبرك بأهم ما قاله مبابي لناصر الخليفي خلال الجلسة التي افتتحنا بها حديثنا، لكن نعتذر، فهذه الكلمات خرجت نصًّا على لسان مثله الأعلى. 

ربما يجب أن أحصُل على عقد فريد، لأنني لاعب فريد.