تعاني المؤلفات البحثية العربية من مكامن ضعف واضحة عندما تتحدث عن الحقل الدلالي لما بعد الحداثة، فهي دائماً ما تُختزل في تيار واحد، غير أن الواقع يؤول إلى وجود ما بعد حداثات متمايزة بوضوح في تيارات متعددة، فالماركسية والفرويدية والبنيوية والعدمية كلها تيارات ما بعد حداثية، لأنها حققت الشرط الرئيسي لهذه الحركة، وهو اشتراط كل ما دون السلوك البشري محدداً ومسيّراً لعقل الإنسان.

وهذا الضعف في التعيين الدلالي يمنع من فهم بعض المظاهر التي تجلت داخل المذاهب، والعودة إليها من جهة واحدة، سيجعل المتلقي ينظر إليها بصورة غير مكتملة وستصبح الظاهرة بالنسبة له ملغزة وغير مفهومة، مثل لحظة التأسيس في الفلسفة اليونانية مع طاليس، فإن أخذها وتفسيرها بطريقة أحادية، سيجعل من ذلك النموذج التفسيري مثاراً للغرابة وربما للسخرية [1]، والطريق الأصوب هو التفسير دون إهمال الإطار الفلسفي والتاريخي والاجتماعي.

مثلها قضية موت الإنسان، هذه المسألة التي تعتبر وليدة تراكمات فلسفية وتاريخية واجتماعية، أكثر من كونها كينونة مستقلة، والأدق اعتبارها نتاج صيرورة تمتد بجذور ترجع إلى قرون ماضية طويلة، ولا يمكن فهمها إلا باستحضار مرحلة ولادة الحداثة والجدل الذي قام فيها، مروراً بلحظة نقد العقل، وانتهاء بالثورة عليه مع نيتشه وفرويد وهايدغر.

مقتل الحداثة.. الصيرورة الأهم في التاريخ الفلسفي الحديث

وُلدت الحداثة في أوائل القرن السادس عشر مع رينيه ديكارت (1596-1650م)، وانتهت في نهاية القرن التاسع عشر، لتبدأ بعدها مرحلة تُسمى بما بعد الحداثة، وهي المرحلة التي ثارت على تأكيد العقل الأوروبي على الثقة في الذات وقدراتها على إنتاج الحقيقة والسيادة على نظم الكون.

وقد بدأ تشييد هذه الثقة المطلقة في العقل قبل ظهور ديكارت، فمشروع الأخير لم يكن تأسيسياً بالمعنى الحرفي، وإنما هو مشروع مُستأنف مع بداية عصر النهضة في أوروبا، حيث جاء هذا التأكيد على الثقة بالعقل نقداً لثقافة القرون الوسطى الأوروبية التي كانت تحط من شأنه، وتعدم كل من يضيف ويبدع باسمه، إلا أن المشروع الحداثي أصيب بأزمة كبيرة مع مشروع نقد العقل، الذي أرسى أركانه إيمانويل كانط (1724-1804م)، بعد الإيمان بما يمكن للعقل أن يصنعه، حيث ضرب كانط ضربته وتسبب بشرخ كبير في صيرورة الفكر الأوروبي، فمن خلاله اتجهت أوروبا إلى نقض الأساس الحداثي الرئيسي، وهو مبدأ الذاتية الذي اعتبره مارتن هايدغر (1889-1976م) الإطار العام للحداثة، فانعدم تأليه العقل واستحال إلى أداة محدودة في اقتدارها المعرفي.

ومع انتهاء القرن التاسع عشر اتضح جلياً أن مشروع الحداثة عندما أعلن استقلالية العقل جوهراً متفرداً في مقابل المرجعية الدينية، كان ذلك إشارة للدخول إلى مأزق جديد، حيث اعتُبر العقل مرجعاً للحقيقة الفلسفية، وهو ما يعني أنه يمكنه إنتاج أي تنظير في الحياة، سواء كان اقتصادياً أو سياسياً، فإن مع ما شهدته أوروبا من متواليات اجتماعية وصناعية، لم يستطع العقل الحداثي أن يحقق للإنسان ما تطلع إليه من مطالب ومكاسب، ولم يستطع أن يفسر الواقع الأوروبي الجديد، فكانت تلك لحظة الانقلاب التاريخية، اللحظة التي انتقلت بها أوروبا من ثقة معرفية شاملة بأسس الحداثة إلى نقد تلك الأسس بالكامل، أي لحظة انقلاب على الحداثة بكل تجلياتها، السياسية والنفسية والاقتصادية واللغوية والاجتماعية والفنية، وبلا شك الفلسفية.

فالحداثة عندما أعلت شأن الذات الإنسانية والعقل الاستدلالي، وجعلته سيداً على الكون، جاءت ما بعد الحداثة لتضرب هذا الأساس، وأصبح الإنسان وتفكيره خاضعين لشروط خارجة عنه، وهذا قلب للكوجيتو الديكارتي الذي عيّنه هيغل أرضية للمشروع الحداثي، فالـ «أنا أفكر إذن أنا موجود» تلاشت ولم تعد موجودة، والذات المنتجة للفكر انتهى مآلها إلى أن تصبح مشروطة باعتبارات خارجة عن الإرادة البشرية، وهنا اللحظة التي تهشمت فيها الحداثة حتى انتقل الفكر الفلسفي الأوروبي إلى حقبة الما بعد، أي ما بعد الحداثة. [2]

وعليه، اعتلت أصوات تيارات أوروبية جديدة تنادي بإلغاء السرديات الكبرى وتعلن عن موت الميتافيزيقا، وتلزم بالخروج عن المسارات الحتمية للوجود، ترسيخاً لمبدأ اللذة الفردية والثقافة الاستهلاكية، إضافة للدعوة إلى رفض وصايا عصر التنوير وخطاب العقلانية، ونفي الكائن الإنساني من أصله.

ما بعد الحداثة وموت الإنسان.. عرض ونقد

إن أبسط أشكال ما بعد الحداثة تتضح في ثلاثة مذاهب رئيسية، أولهما يتجلى في شخص سيغموند فرويد (1856-1939م)، الذي أسّس مذهباً خاصاً للتحليل النفسي، وادّعى أنه بهذا المذهب حطّم أساس العقلانية في الحداثة، وهو بإيجاز إعلاء مفهوم اللاوعي ليجعله بُعداً فاعلاً ومُحرِّكاً أساسياً للنفس الإنسانية، فيجعل قرارات الإنسان واستنتاجاته العقلية عائدة إلى محددات لا شعورية، ومفاهيم مثل التعقل والإحساس والمشاعر يعتبرها ألفاظاً زائفة دلالاتها غير واقعية ولا تنطبق على الذات البشرية، وإنما تعود في أصلها إلى الغريزة، مُشبهاً الإنسان بجبل الجليد الذي في جزئه العلوي يغطيه العقل والوعي، بينما في جزئه السفلي، وهو الأعظم، فاللاوعي هو الحاكم. [3]

ثاني تلك المذاهب الماركسية، التي نزعت القدرة الإنسانية على الاستدلال العقلي وحددته في دائرة العامل الإنتاجي، فهو الذي يوجه الإنسان بحسب احتياجاته المادية، وهي بذلك لا تنتمي إلى دائرة مستقلة في سياق حركات الفكر المعاصر، وإنما لا بد وأن تُدرج ضمن تيارات ما بعد الحداثة، لأنها جعلت السلوك البشري مشروطاً بما هو خارج عنه. [4]

والماركسية بحسب الماركسي لوي ألتوسير (1918-1990م) تحولت تحولاً جذرياً من كتاب الأيديولوجيا الألمانية إلى كتاب رأس المال، وكلا الكتابين لكارل ماركس (1818-1883م)، فإن كان الأخير في كتاب الأيديولوجيا الألمانية ينظّر من أجل إثبات مفهوم الذاتية الإنسانية، فهو في كتاب رأس المال ينزع رداء الحداثة ويرهن علاقة التفكير بالاقتصاد، أي بأمر خارج عن الإرادة البشرية. [5]

وثالث تلك الحركات، وهي أقصى مراحل ما بعد الحداثة، في عدمية فريدريش نيتشه (1844-1900م)، الذي قال صراحة بتغييب الإله والإطاحة بالمفاهيم المطلقة، ويأتي هذا بحسب نيتشه للتخلص من الهيمنة التي تفرضها «المرجعية»، وقد استوعب نيتشه أن وجود الإله هو الحقيقة التي تمنح كل الحقائق سلطتها على الوجود، وعليه دعا إلى جحد هذه الحقيقة، فالجحود يؤدي إلى إنقاذ العالم. [6]

هنالك عديد من المذاهب التي تفرّعت عن الأصول المنشِئة لما بعد الحداثة، مثل التفكيكية والوجودية والبنيوية اللسانية والفلسفية، فإن المذاهب الثلاثة السابقة أبسط ما يصور للقارئ الفكرة العامة التي يدور هذا المذهب في فلكها، وهي إسقاط السردية الفلسفية الأولى في التاريخ البشري وهي وصف الإنسان بأنه كائن عاقل مريد، فالفلسفة منذ أن أيقظت عقل الإنسان وهو لم يخرج في أدبياتها عن الجنس والفصل المنطقي بوصفه كائناً عاقلاً، حتى جاءت ما بعد الحداثة وألغت هذا الشرط، وانتهت لجعل العالم عبارة عن أنساق مختلفة ومتعددة تحكم سيطرتها على العالم، وهي في واقعها ما يشرط وجود الذات البشرية، لذلك نجد ميشيل فوكو (1926-1984م) في نهاية كتابه الشهير الكلمات والأشياء يقول: بقرب انتهاء الإنسان، أي موته، ترسيخ لمآل فلسفة ما بعد الحداثة، وهو الارتحال من أرضية الوجود والذات والوعي والإنسان إلى اللاعقل والغريزة والمادة.

يتلاشى مفهوم المعنى في ما بعد الحداثة عندما يراد من الإنسان أن ينطبق مع الوجود دون التفكير في ماهيته، لكن ما نجده أن ما بعد الحداثة هي أكثر الحركات الفلسفية في تاريخ الفكر الإنساني وقوعاً في مفارقة الدحض الذاتي، وهي المفارقة العقلية التي تؤول إلى نقض العبارة لنفسها، أو نقض الادعاء لنفسه، وهو ربما الأمر الأول الذي يخطر على الذهن حينما يفكر مثلاً أن فرويد أسّس هذا المذهب نقضاً ونقداً للأوهام التي يفرضها العقل باسم التجريد، في حين أنه استطاع بطريقة ما أن يعزل نفسه عن قبضة اللاوعي ليخرج بهذه النتيجة الموضوعية، والسؤال هو: أليس فرويد كان في قبضة اللاوعي حينما فكر بذلك؟

في حين تخلص الرؤية الماركسية إلى أن العلاقات الإنتاجية للبشر هي الأصل المتعالي فوق كل شيء، فالإنسان خاضع للحتمية التاريخية، ولهذا قال ماركس إن وجود الإنسان هو الذي يحدد وعيه لا أن وعيه هو الذي يحدد وجوده [7]، مثلما أن الدائرة المادية التي يُقيِّد الماركسيون بها العالم تمنع من استمداد أي فكرة ميتافيزيقية للعالم، سواء كانت أخلاقاً أم تصورات، فالشأن الأول يعود إلى العلاقات الإنتاجية، ولهذا يقول بوليتزر بوضوح إن أي فكرة لدى البشر، فهي تعود في أصلها للعلاقات الاجتماعية الإنتاجية التي أريد بها مصلحة مادية معينة لهذا العالم [8]، والمفارقة هنا هل هذه العبارة عائدة إلى نظام موضوعي معين كشف من خلاله بوليتزر الحقيقة أم هي عائدة لنظام علاقاتي اجتماعي إنتاجي؟ ولو كان الثاني فكيف من الممكن الوثوق به؟

أمّا بالنسبة لنيتشه فالأفكار لا تأتينا ولا تنبثق منّا، بل تأتي عندما تريد هي ذلك، بمعنى أن الذات لا يمكنها إطلاق الفكر، بل هنالك لاوعي كامن يفرز الفكر، أما الحديث عن الوعي المجرد فهو حديث بيولوجي بحت عنده، والإنسان عندما يفكر، فهو يعود إلى آلية غريزية، ولهذا فلا يصح استمداد قوانين منه واعتبارها كلية وشاملة، فإن ذلك يؤدي إلى تقييد الحاجات الغريزية، وهذا كله كما لا يخفى رؤية داروينية تعتمد على اختزال الإنسان إلى جسم بيولوجي لا يمكنه أن يخرج عن دائرة الحيوانات. [9]

وما يلاحَظ عند تتبع الصيرورة الأوروبية منذ نشأة الحداثة حتى مقتلها فالوصول إلى منعطف ما بعد الحداثة، أن كل ذلك التمرد على الوسم والتنظيم والتمييز والعقلنة، يعود إلى إفلاس التنظير الديني لدى الغرب، بل هو العجز الواضح عن تعويض الفراغ الاعتقادي الذي خلفه نقد الميتافيزيقا مع كانط، والتاريخ يقول بصراحة إن الإنسان لم يستطع أن يهدم ديناً بفلسفة أو نزوع فكري، بل التاريخ يقول إن الدين لا يُهزم إلا بدين مثله، فمن قال بتغييب الإله اضطر بشكل آخر إلى تأليه غيره وجعله سيداً على الوجود، مثل فرويد واللاوعي، أو هايدغر واللغة على سبيل المثال.

ولهذا يقول كانط إن الإنسان مهما فعل، سيبقى عاجزاً عن الانسلال من سؤال المعنى، مثلما أن أشرس فيلسوف إلحادي في تاريخ أوروبا، وهو آرثر شوبنهاور (1788-1860)، عندما وصف الإنسان قال إنه حيوان ميتافيزيقي، فسؤال الأصل والوجود والمعنى يهجس دائماً فينا مهما حاول الإنسان الانفكاك منه.

ختاماً

يمكن أن نختم المقالة بوجهة نظر مهمة، وهي للفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، عندما سئل عن شخصية فريدريش نيتشه، فاعتبرها أقصى تجليات ما بعد الحداثة، ونتيجة حتمية لمصير الإنسان عندما يُسقط العقل والإله من الوجود، فجوهر الأزمة الروحية لنيتشه هي من وجهة نظره تشخيص لتلك الحالة، فنيتشه عندما أدرك أن العقل الذي يتقدم على شكل دين وثقافة لم يعد يقدم قوة التنظير والتقريظ، ولا يمكنه أن يحل مكان القوة الموحدة للدين التقليدي، أصيب بالإحباط الذي أشرنا إليه، فالجنة التي كان يحلم بها حداثيو أوروبا تبينت أنها وهم من الأوهام.

ولعل ما يريد أن يصل إليه هابرماس هو أن شخصية نيتشه وسيرة حياته ومآلها، تعطي انطباعاً صريحاً للشخصية النموذجية في عالم ما بعد الحداثة، فالإنسان عندما يقرر هجر الدين إلى العقل، ثم يسقط العقل من عرشه، ينتهي به الحال آخر حياته مُلقى وحيداً في مستشفى الأمراض العقلية، كما جرى لنيتشه.

المراجع
  1. كما حدث مع فريدريش هيغل وبرتراند راسل، فقد فسرا نشوء الفلسفة نشأة تأسيسية، وقالا إن الفلسفة قد نشأت في اليونان بسبب عرقي.
  2. عبد الوهاب المسيري، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، ص81.
  3. روجيه غارودي، البنيوية فلسفة موت الإنسان، دار الطليعة، ص12.
  4. جون بوليتزر، أصول الفلسفة الماركسية، ج1، منشورات المكتبة العصرية، ص230.
  5. بول ريكور، محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، دار الكتاب الجديد المتحدة، ص343.
  6. فريدريش نيتشه، غسق الأوثان، منشورات الجمل، ص56.
  7. كارل ماركس، إسهام في نقد الاقتصاد السياسي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ص25.
  8. جون بوليتزر، أصول الفلسفة الماركسية، ج1، منشورات المكتبة العصرية، ص340.
  9. عبد الرزاق الدواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، ص36.