أحيانًا ما نسمع ونرى هذه الأيام هجومًا من بعض الإعلاميين والمتحدثين وشباب المسلمين على كتب الحديث الشريف تشكيكًا في المنقول لأنه يخالف العقل في رأيهم أو يخالف القرآن كما يظنون، أو يخالف المصلحة العامة أو الخاصة في تقديرهم، فهي اعتراضات متعلقة بمضمون الأحاديث النبوية المنقولة إلينا لبيان أسباب ردها، وهناك اعتراضات أخرى أقل شيوعًا تتعلق بأشخاص الرواة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أصحاب الكتب والمصنفات الحديثة، ويدعي بعض المعترضين عدم صلاحية هؤلاء الرواة علميًا أو أخلاقيًا لأنهم ينقلون لنا أحكام الشرع الشريف.

ويتخذ هؤلاء الطاعنون مثل هذه الشبهات ذريعة للحط من شأن الحديث الشريف، والتقليل من شأن السنة النبوية في نفوس الناس، ثم يغلفون تبجحهم هذا بكلمات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، فيقولون: نحن قرآنيون، نتبع الكتاب العزيز فيما جاء به عن رب العزة سبحانه، ونتجاهل ما ورد في السنة من تشريعات وأوامر وأخبار، إذ القرآن يكفينا، ثم يهاجمون بسؤال خبيث: ألا تقولون مثلنا إن القرآن يكفي لهداية الناس وإصلاحهم وإرشادهم؟ أم أنكم تدعون أن كتاب الله ناقص عاجز عن الوفاء بهذا المطلوب؟ ونقول بكل هدوء وثقة: نعم كتاب الله يكفينا، والصادق في اتباعه لكتاب الله يجد قوله تعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٣١﴾ قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ». (آل عمران، 31-32). فهذه الآية واضحة الدلالة جدًا في أن من زعم اتباع القرآن فعليه أن يبرهن على صدق زعمه باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ولكن إرجاف المرجفين لا ينتهي، وترويجهم الكذب باسم الحق مستمر من أول نزول القرآن وبعثة النبي العدنان إلى يوم الناس هذا، لذا أكرم الله تعالى هذه الأمة بمن يحمل أمانة العلم ويرد على هذه الشبهات والتحريفات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ».

لذلك خرجت عدد من الكتب العلمية في بيان مناهج المحدثين والفقهاء في نقد الأخبار والمرويات لتمييز المقبول فيها من المردود، وذلك للرد على هذا الأفكار المشككة والأهداف الخبيثة، وأيضًا لترسيخ الإيمان في نفوس أبناء هذه الأمة، وتحصين العقول من أن تتزعزع ثقتها فيما نقل إليها من الهدى ودين الحق.

ومن هذه المؤلفات كتاب «مناهج المحدثين» للشيخ نور الدين عتر -حفظه الله- وكتاب «مناهج المحدثين» للشيخ رفعت فوزي -حفظه الله- وكتاب «دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والمعاصرين» للشيخ محمد محمد أبو شهبة -رحمه الله- وكتاب «مكانة السنة في التشريع الإسلامي» للشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله – وغير ذلك من الكتب والمصنفات العلمية الراقية التي تخاطب جمهور المثقفين من المسلمين لإزالة الشبهات من نفوسهم أو تحصينهم منها قبل حدوثها.

وكان مما صدر في هذا الموضوع المهم كتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين؟»، لأخي وصديقي الحبيب الشيخ علاء عبد الحميد – حفظه الله – ونفع به، وقد صدر الكتاب في أول أيام معرض الكتاب بالقاهرة عام 2019 عن دار دوّن للنشر، وقد اقتنيت الكتاب فور صدوره وحرصت على قراءته فسرني سرورًا بالغًا فأحببت كتابة هذا المقال لتوضيح فكرة الكتاب والحديث عن موضوعه المهم، وذلك بناء على اقتراح طيب من أخي وصديقي الأستاذ أحمد أبو خليل رئيس تحرير موقع إضاءات فاستجبت لأمره وطلبه مسارعًا محبًّا فأقول وبالله التوفيق:

إن هذا الكتاب يتسم بعدد من السمات التي تجعله جديرًا بالقراءة والمدارسة، وسوف نعدد بعض هذه المميزات فيما يلي:


موضوع الكتاب

يعالج كتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين؟» موضوعًا مهمًا جدًا، هو نقل الشرع الشريف -قرآنًا وسنة- من الجيل الأول جيل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جيلنا في القرن الخامس عشر الهجري، وإلى ما يشاء الله تعالى للأرض أن تبقى وللدين أن يُذكر، وما العوارض التي اعترضت عملية النقل، إذ لا يخلو نقل من أخطار التحريف والتبديل المتعمد وغير المتعمد، ولم يسلم نقل الشريعة الإسلامية إلينا عبر هذه الرحلة الزمنية الطويلة من هذه الأخطار، فكيف أثق أن ما أقرأه الآن هو شرع الله حقًا وليس من كذب الكذابين وتحريف المحرفين وأوهام الواهمين؟

إن الدين كالبناء يقوم على أساس ثم تتوالى الطوابق كل طابق يعتمد على ما تحته، وإذا أردنا معرفة طوابق الإسلام وترتيب أفكاره فنقول: إن أول هذه المراتب وأساسها بلا شك، هو الإيمان بوجود خالق لهذا الكون ومدبر لأمره بحكمة وإرادة وقدرة وعلم، وهذا الإيمان يقوم على تأمل العقل ولو لم يصله الشرع، فمن كان منكرًا لحقيقة وجود الله – تعالى – فإن مناقشته في أي أمر آخر من المسائل الدينية يعد من قبيل العبث وتضييع الأوقات فيما لا يفيد، إذ ما الفائدة من إقناع رجل بالصلاة أو صاحب مال بالزكاة أو قادر على الحج بالقيام به أو فتاة بالحجاب مثلًا أو غير ذلك من الفرائض الشرعية وهم ينكرون الأساس الذي يقوم عليه الشرع بل وتقوم عليه السماوات والأرض أعني: وجود الخالق – سبحانه وتعالى؟

وثاني المراتب، بعد إثبات وجود الله وحكمته وعلمه وإرادته هو إثبات حاجة البشر للأنبياء والرسل، وما وظيفة أنبياء الله ورسله – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثم تأتي المرتبة الثالثة، وهي إثبات صدق نبوة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وإقامة الأدلة على صدقه، وأن القرآن الكريم هو كتاب الله – تعالى – حقًا.

والمرتبة الرابعة، هي إثبات تبليغه عليه الصلاة والسلام الرسالة وتأديته الأمانة ونصحه الأمة وبذله وافر الجهد في ذلك.

وأما الخامسة، فهي وصول الشريعة إلينا كما بلغها النبي – صلى الله عليه وسلم – سالمة من التصحيف والتحريف، وفي هذه النقطة تحديدًا يأتي الكتاب الذي بين يدينا، «كيف وصل إلينا هذا الدين؟».

ثم تأتي سادسة المراتب وهي قبول هذه المنقولات للفهم والتنفيذ، إذ قد يقول قائل: سلمنا بوجود الإله، وإرساله الرسل، وصدق النبي محمد، وقيامه بالتبليغ، ووصول الشريعة إلينا، لكن لغتها غريبة علينا فلا نستطيع فهمها، أو إن فهمناها فلا نستطيع العمل بما فيها، وهذا ما يعالجه علم أصول الفقه الذي يضع قواعد الفهم وتحليل النصوص واستفادة المعاني منها.

وأما المرتبة السابعة، فهي التفريق بين القطعيات والظنيات، وبيان الثوابت والمتغيرات، وذلك حتى لا يقول قائل: كيف نلتزم بأحكام مر على نزولها مئات السنين، فنقول إن تغيُّر الظروف الدنيوية مؤثر في بعض الأحكام الشرعية وغير مؤثر في بعضها الآخر، والفصل بين النوعين يكون بمعرفة أصول الفقه وقواعد الاجتهاد والإفتاء.

ثم المرتبة الثامنة، بناء على ما سبق هي إثبات وجوب الامتثال لأمر الله – تعالى- وأمر رسوله، وأن في هذا الامتثال صلاح الدنيا والآخرة، بل لا صلاح على الحقيقة إلا بالامتثال والاتباع، إذ الإله الحكيم العليم الخالق المدبر هو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير، وأن بعض الأحكام مما تدرك العقول منفعتها الدنيوية، ومنها ما ليس كذلك بل هو تعبدي محض نفعله لإثبات الاتباع والالتزام والامتثال، وفي كل من النوعين مصلحة ومنفعة سواء أدركها بعض الخلق أو غفل عنها آخرون.

وأما تاسعة المراتب، فهي إثبات استحقاق الثواب والعقاب دنيويًا وأخرويًا على الالتزام بالأحكام أو مخالفتها، إذ قناعتك بالقانون أو عدمها لا تعفيك من المسؤولية ولا تسقط عنك وجوب الامتثال لأحكامه وقواعده.

ثم تأتي بعد ذلك مرتبة عاشرة أخيرة، هي الالتزام العملي بهذه الأحكام المنقولة، فمحاولة مناقشة الالتزام بالأعمال مع شخص مضطربة أفكاره حول أي من النقاط التسع السابقة يعد مضيعة للوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه.

وفي ضوء هذه المراتب العشر المهمة يأتي كتاب الشيخ علاء في بيان المرتبة الخامسة منها تحديدًا، فيتساءل متأملًا «كيف وصل إلينا هذا الدين؟».


لغة الكتاب

مما يميز الكتاب بعد تميز موضوعه هو لغته الجميلة، إذ يأتينا هذا الكتاب المهم في هذا الموضوع الدقيق بلغة أدبية رقيقة بسيطة غير متكلفة، في صورة حكاية شيقة، يطوف بنا الكاتب في رحلته الشخصية لفهم الدين من خلال عدد من المتقابلات المتكاملات، ومنها ثلاثية العقل والنقل والعلاقة بينهما، فجعل هذا الكتاب للحديث عن النقل، ووعدنا أن يكون للحديث عن العقل وعلاقته بالنقل لقاء آخر إن شاء الله.

إن لغة الكتاب من التشويق والسلاسة في الانتقال بين الفصول المختلفة بحيث إني قرأته كاملًا في جلسة واحدة قصيرة، إذ ما إن ينتهي بي فصل حتى أجد نفسي مدفوعًا للانتقال فورًا للفصل الثاني مباشرة، لذلك أحسب هذه اللغة السلسة البسيطة من الأمور المهمة التي ستعين على حسن استفادة القراء منه، خصوصًا وأنه موجه لغير المتخصصين في دراسة العلوم الشرعية التراثية.


الكاتب

هو الأخ الحبيب والصديق العزيز الشيخ علاء عبد الحميد، المتخرج مثلي في كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، مع دراسته الحرة للعلوم الشرعية مع عدد من العلماء المصريين وغيرهم، وقد عرفته منذ ثمانية أعوام تقريبًا في إطار عملنا معًا في «شيخ العمود» على تدريس العلوم الإسلامية عامة والشرعية خاصة لغير المتخصصين بدراستها بوسائل مختلفة، وسافرنا معًا أكثر من مرة لتدريس بعض المعارف الشرعية لطلاب الجامعات المدنية، وقد تعرفنا في هذه المجالس وغيرها على احتياجات كثير من أبناء الإسلام معرفيًا وثقافيًا وفكريًا، وقد ظهر استثمار هذه المعرفة بشكل جيد في كتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين»، إذ عالج مؤلفه مشكلات بعض الشباب حول النقل ومنهجيته بوصفه واحدًا منهم، وليس كاتبًا أكاديميًا يسكن برجًا عاجيًّا لا يعرف أحوال من ينبغي عليه مخاطبتهم بما يحمل من ثقافة وفكر وعلم، بل عالجها معالجة رجل يحرص على الاتصال بواقع الشباب ومعرفة حالهم، لذلك أتى الكتاب قريب المأخذ سهل العبارة ليصل – بإذن الله تعالى – إلى المسلمين في مصر ثم مشارق الأرض ومغاربها حسب ما تقتضي إرادة الله، تعالى.

كان هذا عرضًا مختصرًا لفكرة كتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين؟» للشيخ علاء عبد الحميد، وبناء على ما ذكرته لحضراتكم في هذه الجوانب الثلاثة (موضوع الكتاب – ولغته – وكاتبه) فإنني أرى أنه كتاب مهم، جدير بالاقتناء والمذاكرة الجيدة، وأسأل الله – تعالى – لي ولكم وللمسلمين دوام النصرة والتأييد والفتح، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.