محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2014/03/14
الكاتب
آدم روبيرتس

مقدمة المترجم

ليس هناك من يعرف طعم السعادة الخالصة. حتى أسعد لحظات نجاحنا مخلوطةً بشيءٍ من مرارة الحزن.

ربما ينطوي هذا الاقتباس لبيري كورنيلي، أحد ألمع كتّاب الدراما والتراجيديا الفرنسيين، على شيءٍ من المغالاة الميلودرامية، ولكنه قد يكون إقرارًا لا بدّ منه بأن الحزن جزءٌ لا يغيب عن الحال البشرية. إلا أن روبيرتس يحاول في مقالته هذه تناول هذه الفكرة، الكئيبة في ظاهرها، بشيءٍ من التفاؤل المتلطّف، فحديثه هنا ليس عن ضرورة وجود الحزن لتقدير السعادة، وإنما عن ضرورة الحزن كعاطفةٍ تثري وجداننا وأفكارنا.


حنّت نفسي في الآونة الأخيرة إلى الاستماع إلى ألبوم «Hearts and Bones» لبول سيمون، وهو ألبومٌ لم أستمع له منذ سنوات، وبالأحرى منذ أن كنت مراهقًا. كنت قد اشتريت هذا الألبوم وقت صدوره عام 1983، وكنت أستمع إليه مرةً بعد مرة دون توقف. إلا أن كلمات الأغنية الرئيسية قد رسمت سؤالًا أمام عيني، وأنا أسمعها بعد كل هذه السنين: كيف نظرت إلى هذه الكلمات وقتها؟ وماذا كان معناها في قلبي؟ ولماذا احتلت منزلةً خاصةً فيه؟

حسنًا، الأغنية الرئيسية هي إجابةٌ رسمها مؤلّفها بجمالٍ على علاقةٍ تلفظ أنفاسها الأخيرة، مزيجٌ من نظراتٍ ملؤها الشوق على ماضٍ عبق بلحظاتٍ أكثر سعادة، وتعقّلٍ مكلومٍ متوجّس لما آلت إليه الأحوال بعد انفصالٍ عنيف اختزل الكثير من العواطف. كان ذاك المراهق الذي يستمع إلى تلك الكلمات في ذاك الوقت طفلًا لم يعرف ولم يعايش أيًّا من هذه العواطف. وأتساءل اليوم إن لم أكن راغبًا بأن أحمل هذه المشاعر على صدري. لقد أردت هذه السعادة، ولكن برجعيتها (لأنها ستكون غير ذلك سعادةً منتهيةً ومغبرةً وآمنة)، ولكني كنت أريد هذا الغمّ لأنه، وببساطة، بدا لي حسًّا جذّابًا في تعقيده ونضجه. لقد كنت أريد، كما تقول إحدى النكات القديمة، أن أقفز من فوق الزواج إلى الطلاق مباشرةً. ولست أنا بالتأكيد أول من يدرك هذه الفكرة، فينطوي الحزن على متعةٍ معقّدة.

ولكن هل هذا صحيحٌ حقًا؟ فبالتأكيد ما يمنّي الناس أنفسهم به هو أن يكونوا سعداء. فهناك فلسفاتٌ بحالها (وأوجّه كلماتي إلى فلسفة النفعية على وجه الخصوص) التي ترتكز على الفكرة العريضة بأن تحقيق سعادةٍ أكثر هو أمرٌ مرغوبٌ دائمًا وفي كل مكان. وهناك مقياس السعادة العالمي الذي يقدّر لنا مدى سعادة الشعوب (تعتلي الدنمارك الصدارة). وهناك دولة البوتان التي استصلحت لجنة ناتج السعادة القومي، بل وأعطيت هذه اللجنة السلطة على مراجعة قرارات الحكومة وإعادة تخصيص الموارد.

لا شكّ بأن التنعم بالسعادة هو أمرٌ حسنٌ، في بعض الأوقات. ولكن واقعنا الغريب يحكم بأننا لا نريد بأن نكون سعداء طوال الوقت. فإن كان هذا هو الحال حقًا، لكان هناك عددٌ أكبر منا ينعم بالسعادة، وليس الأمر وكأننا عجزنا عن ابتكار الأدوات التي تمكّننا من إمتاع أنفسنا في الغرب. نشعر بالحزن أحيانًا لسببٍ من الأسباب، ولكن يتملّكنا الحزن في أحيان أخرى لأننا عن وعيٍّ منا أم دون ذلك، نريد حزنًا. وربما يكمن في داخلنا حسٌّ بأن وجود التنوع العاطفي أفضل من رتابة الحال الواحد، حتى لو كان هذا الحال هو السعادة. ولكن الأمر ينطوي على أكثر من ذلك، كما أعتقد، فنحن نحبّ الحزن بطرقٍ تجعل السعادة تبدو بساطةً ساذجة.

تستلهم الأحزان فنًّا عظيمًا بطريقةٍ تعجز عن تلمسها وأنت تأكل الآيسكريم جالسًا وحدك في منتهى سعادتك. يمتدح هارتلي كولريدج (ابن الشاعر البريطاني سامويل تايلور) في مقالةٍ كتبها بعنوان «أفكارٌ حزينةٌ عن الكآبة» (1823) الغمَّ بأنه حالةٌ ذهنيةٍ أكثر صفاء من السعادة. «تشحّ الكآبة في الروح الخام. ولا يمكن لها أن تتجسّد في حيوان»، وهكذا يصيغ كولريدج فكرته:

لا عروس لكتاباتك وشعرك سوى الحزن. الحزن هو ليلى وجوليت، هو الجميلة التي ألهمت ميلتون، ومايكل أنجلو، وسويفت، وهوجارث. كل الأشخاص الذين أنعمَ عليهم بالعبقرية هم أناسٌ مغمومون، وليس هناك من ذاق طعم هذه اللعنة أكثر ممن كانت عبقريته في الكوميديا. يُقسَم الرجال (ومقصدي هم الرجال الذين ليسوا مجرد حيوانات) بالاستناد إلى نوع غمّهم، إلى ثلاثة أنساقٍ عظيمة – إلى أولئك الذين يصبون إلى اللامحدود في تضاده مع المحدود، وأولئك الذين يصبون إلى اللامحدود في المحدود، وأولئك الذين يحاولون تطويع المحدود بمقارنته باللامحدود. فيضمّ النسق الأول الفلاسفة والدينيين، والثاني الشعراء، والعاشقين، والفاتحين، والبخلاء، والسماسرة، والثالث هم الساخرون، والكوميديون، والهزليون بجميع أصنافهم وألوانهم، وبصورةٍ عامة باغضو الرجال، وباغضو النساء، والأبيقوريون، والمنكبون على ملذات الحياة.

يرى كولريدج أن الحزن هو حالةٌ أسمى من السعادة. وظني أن هذا أمر يميزه معظم الناس، أن البهجة، في أصلها، هي حالةٌ من المتعة البلهاء، بالونٌ ينتظر فقط من يفجّره. وقار الحزن هو أكثر نضجًا لأنه أقل توهمًا. بل وهو أكثر صدقًا وأصالة. نسخت جورج إيليوت هذا الشطر من قصة «Life of Oliver Cromwell»، لمؤلفها توماس كارليل، إلى مسودتها وهي تستعد لكتابة روايتها الأولى «Adam Bede» عام 1859:

تلك الكآبة التي يحوزها. ألا تعني كمّ التعاطف الذي يتحلى به، ألا تعني كمّ القوة والنصر الذي سيحوزه؟ إن كآبتنا هي الصورة التي تعكس نبلنا.

ولأنها تتلوّن بشيءٍ من النبل كانت السعادة أيضًا، ربما، أكثر جمالًا من الحزن. يختم فيليب لاركين قصيدته «Money» عام 1973:

أسمع المال يغنّي. وكأنه ينظر إلينا من الأعلى من نوافذ فرنسا الطويلة إلى بلدةٍ ريفية الشوارع الفقيرة، والنهر، وزخرفات الكنائس، والجنون وتحت شمس المغيب. تحتضر البلدة من ثقل الحزن

«من ثقل الحزن» يصلح عنوانًا لدراسةٍ تتناول كلمات لاركين. وطبعًا يمكن أن يكون رد فعلك على هذه الكلمات هو: «انتظر لحظةً، يا فيليب، أنت لا تقصد أن تقول إن البلدة تحتضر من ثقل الحزن»، بل تقصد: «أنا أحتضر من ثقل الحزن». الشوارع، والكنيسة، والبلدة الريفية بأحسن حال، ونشكرك على سؤالك، وليست مسؤولةً عن آهات حدادك وأنت تنظر من نوافذك الفرنسية الطويلة». ولكن رد فعلٍ كهذا لا يقلّل من معاني لاركين أيضًا، فقد كان ذلك، في النهاية، هو غاية شعره – بأن يكتب، ليس عن فقر الأحياء، ولا عن النهر، ولا عن الكنيسة، بل عن وقار الكآبة.

وهل يُعقل أن تكون الكآبة وقورة أو جذابة، ولماذا؟ ففي ظاهرها هي الشيء الذي يريد الاختيار والتطور الطبيعي أن يسلخه عن جنسنا البشري، أحد الأشياء التي نتلافى تكرارها في تكاثرنا البشري. فمن هذه الأنثى المجنونة التي تريد أن تزاوج شريكًا تعيسًا عندما تستطيع أن تنعم بشريكٍ سعيدٍ مبتسم؟ ولك ربما أن تصيغ الإجابة بهذه الطريقة، السؤال نفسه قد يبدو سؤالًا أبله بعض الشيء، فمن منا يريد أن يعيش مع المغني الإنجليزي الحزين موريسي عوضًا عن سبونجبوب. ولكن لماذا؟ لماذا يمكن أن ترغب بأن تقضي وقتك مع الأول، موريسي وليس الآخر، سبونجبوب.

وقد كان تشارلز داروين هو من أشار في كتابه عام The Expression of Emotions in Man and Animals» 1872»، إلى أن الحزن يتجلى بنفس الطريقة في كل الثقافات. ومن المغري ربما أن نحاول رسم شرحٍ لشيءٍ عام الوجود كهذا في أنساق نظرية التطور، ولكن للأسف ركّزت الأعمال الأنثروبولجية والتطورية في هذا المجال بصورةٍ شبه كاملة على الاكتئاب، وليس هو ما نحاول الحديث عنه هنا. أستطيع أن أؤكد لك هنا بيقينٍ صارم أن الفرق بين قرمزية السأم والكلب الأسود الذي نسميه الاكتئاب هو مثل الفرق بين الشعور بالنشوة والتيفوئيد. تناولت الكثير من نظريات التطور قيمة الاكتئاب من ناحية التكيف، ولكن لم يحاول أحدٌ، على حدّ علمي، أن يدعي أنه فكرةٌ تبعث على الرضا.

إن كان الاكتئاب مثل طاعونٍ مشؤوم ينهش الدماغ، فالحزن الوقور هو مثل ذيل الطاووس، يزدان بزرقة الزهور ونبضِ الخَضار. وهل هذه أيضًا فكرةٌ كونية؟ لا تعطينا الأنثروبولوجيا أي إجابةٍ قطعيةٍ على هذا السؤال. ولكن تتجلى هذه الحالة في عددٍ كبيرٍ من الثقافات، فالحزن هو ما يُقصد بالقول الياباني الشهير: «الكآبة الجميلة في الأشياء» (物の哀れ). هذه البساطة المسحورة الكامنة في التقاليد الموسيقية من أفريقيا إلى العالم الجديد، والتي نسميها الزرقة. إنه مزيج القوة، والطاقة، والشفقة، والغمّ الذي تلمسّه كلود ليفي ستراوس في البرازيل، واختزله في عنوان كتابه عن أسفاره هناك «Trises Tropiques» أو المداريات الحزينة (1955)، وهو ما عرّفه إيناس، بطل ملحمة فيرجل الشعرية Aeneas، وهو يعود ببصره إلى الوراء مستذكرًا ما مرّ به من نوائب في الماضي ومنتظرًا ما سيأتيه في المستقبل:

الدموع موجودةٌ في كل شيء. لم تكن عبرات الكآبة ما دفعته إلى أن يقول ذلك، ولا انهزامية اليأس، بل كانت إقرارًا بارادوكسيًا بجمال العالم.
(Aeneid 1:462)

ومن الممكن بالتأكيد أن نحاول تحليل هذا النوع من الحزن الذي أصفه هنا. وربما نستطيع القول إنه مؤشّرٌ على أن الفرد الذي نحاول دراسته يتحلى بالقوة، والقرمزية، والحساسية، لينكب على الحزن. وقولنا هذا هو تمثل ما يسميه علماء التطور بـ«مبدأ التعويق»، وهي فرضيةٌ وضعها عالم الأحياء والتطور الإسرائيلي آموتز زاهافي عام 1975، وتقوم الفكرة على أن وجود بعض السمات الفارهة بصورةٍ واضحة مثل القرون الكبيرة للظبي وذيل الطاووس لها فائدة، ولها فائدةٌ تحديدًا بسبب طبيعة التفاخر الباهظة الكامنة فيها، فهي تعيق مالكها بصورةٍ واضحة. وهي رسالةٌ فحواها: «أنا قويٌّ جداً وجيناتي مرغوبةٌ إلى حدٍّ كبير، إلى درجة أني أستطيع أن أجرّ ورائي هذه السمة السلبية عمليًا، والجميلة بالمناسبة، التي ألصقت بجسدي».

فلو نظرنا إلى الحزن من منظور هذا المبدأ، فسنرى أنه استهلاكٌ واضح. فعدد العضلات اللازم لكي نعبس أكثر من عدد العضلات اللازم لكي نبتسم، وربما يكون هذا هو القصد. فلا أدلّ على قوتك وقدرتك على استهلاك هذه الموارد من أن تستهلكها فعليًا. يستطيع أي إنسانٍ أحمق أن يعيش ويكون سعيدًا، ولكن يتطلب الأمر قوةً رهيبة أن تعيش وتكون حزينًا.

ولكن يغفل هذا التحليل عن أهم جوانب هذه العاطفة – ليس كلفتها، بل جمالها. صحيحٌ أن منظر السعادة يمكن أن يكون جميلًا، ولكن بعض جوانب الحزن تصلنا بجمالٍ لا تستطيع السعادة أن تعرفها أصلًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.