اختلفت دوافع التحاق الجند بأول جيش تكون في الإسلام على يد الرسول محمد، ما بين دينية ودنيوية، وتعددت في الوقت ذاته معايير اختيار المقاتلين، وكان لكل فترة زمنية معطياتها التي حكمت اتخاذ هذه القرارات.

ويذكر ماجد علي سليمان في دراسته «ألوية ورايات الجيش ومعايير إسنادها في العصر النبوي»، أن أسباب ودوافع التجنيد والالتحاق بالجيش في العهد النبوي تعددت ما بين دينية ودنيوية، فتمثل النوع الأول في حب الشهادة في سبيل الله زهدًا في الدنيا وطمعًا في الآخرة، فكان الصحابة يتسابقون ويجتهدون من أجل الشهادة في سبيل الله نصرة لدينه وفدءًا لنبيه.

وتجلى ذلك واضحًا في المعارك، ففي موقعة بدر تسابق المسلمون من المهاجرين والأنصار على الشهادة حينما دعاهم الكفار إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فلما أبى أعداء الإسلام إلا يخرج إليهم نظراؤهم، خرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الجراح وعلي بن أبي طالب، ولما احتمل عبيدة على النبي بعد أن قُطعت رجله في المبارزة، لم يسأل الرسول شيئًا من أموال الدنيا، بل كان جُل همه أن يُكتب شهيدًا، فكان الصحابة يقاتلون في سبيل الله وينالون الشهادة طمعًا في أجرها ومرضاة لله تعالى.

الرغبة في الغنائم

أما الأسباب الدنيوية فتمثلت في الغنائم، فمع أن الترغيب فيها يعد وسيلة مشروعة في إنجاح المشروع الجهادي للمسلمين لقول الرسول «من قتل قتيلًا فله سلبه»، فهو لم يكن مبدأ أو دافعًا بالأساس، إلا أن الرغبة في الحصول على الغنائم ربما كان واحدًا من الأسباب التي دعت بعض المسلمين إلى الالتحاق بالجند، لا سيما أنهم كانوا يشكون عُسر الحال وقلة المال، كما أنهم لم يكونوا جميعًا على درجة واحدة من الإيمان والصبر والمقدرة، فمثلما كان بعضهم يريد الجهاد في ثواب الآخرة، ابتغى آخرون ثواب الدنيا مع الآخرة، بحسب سليمان.

وهؤلاء هم الذين عجب منهم الصحابي عبدالله بن مسعود حين رأى تسابقهم في طلب الغنائم يوم أُحد، مخالفين بذلك أمر الرسول، وكان ذلك سببًا مباشرًا في خسارة المسلمين الأليمة، فكان من عجبه أن قال «ما شعرت أن أحدًا من أصحاب رسول الله كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ»، ونزل في وصفهم قوله تعالى: «وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ».

كذلك كان في صفوف جيش المسلمين من لم يبلغ الإيمان عنده مرتبة الجود بالنفس في سبيل الله، وكان يضع المال همه الأول، ولا يخرج للقتال إلا إذا أخذ أجره مسبقًا غير مبال بأجر الآخرة.

فعندما كُلف الصحابي عبد الرحمن بن عوف عام 6هـ بالخروج في سرية إلى دومة الجندل بين الحجاز والشام (إمارة حائل اليوم)، طلب من بعض الفقراء في المدينة الخروج معه في سريته، فاعتذر له أحدهم عن الخروج معه لما كان عليه عياله من حاجة، فأعطاه عبدالرحمن ثلاثة دنانير مقابل خروجه، وبعد أن عادوا من غزوهم سأل الرجل ابن عوف نصيبه من الغنائم، فقرر عبدالرحمن أن يستفتي الرسول في أمر هذا الرجل، فأفتاه قائلًا «تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه ونصيبه في أمر دنياه وآخرته»، روى سليمان.

وفي غزوة المريسيع سنة 5هـ، خرج مع الرسول كثير من المنافقين الذين لم يخرجوا في غزوة مثلها، وليس بهم رغبة بالجهاد، ولكن طمعًا بأن يصيبوا من عرض الدنيا، لا سيما بعد أن أصبح للجندي نصيب كبير من الغنيمة، فضلًا عن السلب الذي يأخذه من قتيله.

وكان القتال على الأحساب (أي من أجل الدفاع عن رفعة الحسب والأصل)، واحدًا من أسباب ودوافع الالتحاق بالجند، فقد كان رجلًا يدعى «قزمان» من المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة أُحد في بداية الأمر، إلا أنه لحق بجيش المسلمين بعد أن عيّرته نساء بني ظفر قائلات: «ما أنت إلا امرأة خرج قومك فبقيت في الدار»، فأثار ذلك حفيظته، وكان هو مقاتل شجاع، فجاء من خلف الصفوف حتى كان في الصف الأول، وكان أول من رمى بسهم من المسلمين وأخذ يرمي نبلًا وكأنها رماح وتجنّد سيفه وفعل الأفاعيل.

وعندما انكشف المسلمون في هذا المعركة جعل يقول «الموت أحسن من الفرار يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثلما أصنع»، فلما كثرت به الجراح وقع على الأرض فمر به قتادة بن النعمان ليهنئه بالشهادة في سبيل الله، إلا أنه كان يقول: «إني لم أقاتل على دين، ولكن حمية عن قومي خشية أن تطأ قريش بيوتنا». وبعد أن اشتدت جراحاته أخذ سهمًا من كنانته وقطع بها يده فقتل نفسه. وكان إذا ذُكر إلى الرسول قال إنه من أهل النار، ذكر سليمان.

شروط الالتحاق بالجيش

رغم أن الإسلام لم يشترط في الجندي إلا أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا، سليمًا من الأمراض، مقدامًا غير هيّاب، فإن الرسول كان لقلة أصحابه أول الأمر لا يشترط فيهم سوى الرغبة في الجهاد لإعلاء كلمة الله، لا للشهرة أو المغنم، وقد ضمن لمن خرج لمجرد الجهاد في سبيل الله أن يدخل الجنة إذا مات، وأن يعيده لمنزله بالأجر والغنيمة إذا ظفر، بحسب ما ذكر عبد الرءوف عون في كتابه «الفن الحربي في صدر الإسلام».

ولم يكن الرسول يشترط في جنده سنًا معينة، وإنما كان الأساس عنده الطاقة البدنية، والقدرة على إجادة القتال، وقد اعتاد في غزواته أن يستعرض الجند قبل الدخول في المعركة، فيجيز منهم من يرى لياقته للقتال، ويرد من يراه غير لائق له.

وبحسب عون، يُفهم من بعض النصوص أن الخامسة عشرة كانت السن التي تجيز لصاحبها اللحاق بالجند، فقد روى ابن خلدون في «تاريخ ابن خلدون» أن الرسول أجاز يوم أُحد سمرة بن جُندب ورافع بن خُديج في نفر غيرهم، وسن الجميع يومئذ أربعة عشر عامًا، ثم ذكر في موضع آخر برواية الشيخين عن ابن عمر، أنه قال: «ردني الرسول، صلى الله عليه وسلم، يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة».

ولكن هناك نصوصًا أخرى تفيد أن الرسول يوم أحد أجاز «رافعا» وردّ «سُمرة» لصغره، فحزن «سُمرة» وأفهم الرسول أنه يصرع «رافعًا»، فصارع الرسول بينهما فلما صرعه أجازه هو الآخر، بعد أن ظهرت له قدرته البدنية.

ويُفهم من ذلك أن إطاقة القتال كانت العامل الرئيسي في التجنيد، وأن اللياقة البدنية كانت ملحوظة، بخاصة أن البلوغ في الجزيرة العربية كان يأتي مبكرًا نظرًا لحرارة المنطقة المنشطة للغدد، وصحية الغذاء والهواء والنشأة، حتى إنهم حددوا له الخامسة عشرة تقريبًا.

التجنيد الإلزامي

ويذكر عون، أن التجنيد كان مبنيًا على الإلزام الأدبي لمستطيعه، فكان الرسول يلزم أصحابه بالجهاد إذا علم منهم عمق الإيمان وسعة ذات اليد، وكان تهاونه في تجنيد الأنصار قبل غزوة بدر، وفاء لهم بشروط بيعة العقبة، لأنها كانت تنص على حمايتهم إياه ما دام بالمدينة، لا في القتال خارجها.

وتغير الوضع قليلًا بعد فتح مكة، إذ أصبحت كلمة الإسلام هي العليا في الجزيرة، وعرف المرتابون ذلك، فدخلوا في الدين أفواجًا، ثم انتوى الرسول تأديب الغسانيين الذين قتلوا رسله إليهم، وهزموا المسلمين يوم «مؤتة» ليؤمّن حدود الجزيرة الشمالية، فقال في أصحابه قولته المشهورة «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية».

ولعل في مقابلة «الجهاد» بـ«الهجرة» ما يوحي بأنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، بخاصة بعد أن كثر عدد المسلمين بعد الفتح، ويُفهم هذا أيضًا من قوله تعالى «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»، وهذه الطائفة هي التي استكملت أسباب الجهاد وشروطه، وتوفرت فيهم القوة المعنوية الدافعة، ولذا كان أحدهم إذا تخلف عن الجهاد استأجر بدله أجيرًا للقتال مقابل شيء معين يدفعه له، وعلى هذا فالبدل الشخصي كان معمولًا به في الإسلام، كما كان معمولًا به في الجاهلية، ثم عُمل به أيضًا في الدولة الأموية، بحسب عون.

السلاح وإمدادات الطعام

في عهد الرسول كان المسلمون جميعًا هم الجند، فكل منهم كان يعد نفسه للجهاد، فيشتري جمله أو حصانه، ويشتري سلاحه، ويحمل معه إذا خرج للغزو زاده ومتاعه، وقد ينفق أحدهم جُل ماله في ذلك.

ويذكر عون، أن الغني منهم كان يساعد الفقير في جهازه، أو يسلمه كل ما أعده لنفسه إذا حبسه عن الخروج عذر مشروع، فإن لم يجد الفقير من يساعده، كان يعمد إلى بعض من يعرفه، فيستعير منه السلاح على أن يعطيه النصف مما يغنم، حتى إنهما ليقسما السهم بينهما، فيأخذ أحدهما النصل مع الريش، والآخر يأخذ القدح، وكثيرًا ما كان الرسول يجهز الفقراء من الصدقات، وخُمس المغنم الذي يقبضه، والفيء (ما يُنال دون قتال) الذي يخصه.

وفي الغزوات المهمة كان أثرياء الصحابة يجودون بكل ما لهم أو بعضه في شراء الخيل والجمال للمحاربين، وإمدادهم بالسلاح والطعام، وجميع الأمتعة، كما فعل طلحة بن عبيدالله الذي تكرر تبرعه في الغزوات المختلفة، حتى سماه الرسول «طلحة الجواد» أو «طلحة الخير». وكما فعل عثمان بن عفان وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف، وغيرهم عند التجهز لغزوة تبوك 9هـ، حتى لقد بعث النساء للرسول بكل ما يقدرن عليه من الحلي تطوعًا في سبيل الله ليباع في تجهيز الجند.

وبحسب عون، كان التمر أغلب زاد الجند في عهد الرسول، يضاف إليه السويق واللحوم مقددة أو طازجة، فكان المحارب يصحب معه طعامه في رحله، فإذا لم يستطع لفقره كفاه بذلك الأغنياء من إخوانه، فقد كان سعد بن عبادة خلال حصار بني النضير عام 4هـ يأتي المسلمين بالتمر من عنده، كما أمد المسلمين بلحوم الإبل في غزوة «حمراء الأسد» عام 3هـ، فكانوا ينحرون اثنين في يوم، وثلاثًا في يوم، وقد صنع مثله أغنياء الصحابة وجعلوا الإطعام مناوبة بينهم، فيوم ينحر سعد ويوم ينحر غيره، وفي بعض الأحيان استعار الرسول السلاح من غير المسلمين ليزود به المجاهدين إذا لم تقم بذلك أموال الصدقات والأخماس، ففي غزوة حنين لم يكن مع المسلمين سلاح كافٍ، فاستعار النبي من صفوان بن أمية أشهر تجار السلاح، ما يلزمه، وكان لا يزال وقتئذ على الشرك.

شعارات القتال

أولى الرسول اهتمامًا خاصًا بشعار جيش المسلمين عند القتال، وهي إشارة معينة تكون علامة للجيش أجمع، فيتعارف المقاتلون في ما بينهم أثناء القتال، ويعرف كل منهم رفيقه، فإن ضل أحد المقاتلين أصحابه نادى بشعارهم فيتعرف عليهم، وكذلك إذا لم يشاهد رايتهم رفع صوته بشعارهم المتداول ليرجع بذلك إليهم، وكان الشعار أيضًا علامة يتعارف بها عند الاختلاط بين جبهتين أثناء القتال، وكذلك يستخدم في ظلمة الليل الحالك.

ويذكر مهند عبدالرضا حمدان، وحسن خصاف عودة، في دراستهما «الإعلام العسكري عند الرسول محمد (ص)»، أن الرسول كان يضع شعارًا للمقاتلين المسلمين مخالفًا لشعار المشركين بطبيعة الحال، فيقاتل المسلمون كل من يخالف شعارهم.

وكان الشعار المستعمل مقاطع من القرآن الكريم، أو عبارات تشجيعية لما تحمله من دلالة تزرع التفاؤل بالنصر، فترتفع الروح المعنوية للمقاتل المسلم فيزداد إقدامًا وتضحية. فقد أمر الرسول في غزوة الأحزاب أن يُرفع شعار «حم لا يُنصرون»، وأوصى في سرية بعثها أن يكون شعارهم «حم لا يُنصرون»، وهو شعار المسلمين في غزوة حنين أيضًا.

ومن الواضح أن الآيات القرآنية التي أولها «حم» لها شأن، فكان ذكرها بالشعار لشرف منزلتها، مما يستظهر استنزال النصر من الله سبحانه وتعالى، وأما في قوله «لا يُنصرون»، فكانت تعني أي يفرون من القتال، لقوله تعالى «لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ».

وبحسب الباحثيّن، انتدب المسلمون في معركة بدر شعار «يا نصر الله اقترب اقترب»، وفي رواية شعار «يا منصور أمت»، الذي اتخذ في كثير من الغزوات، ومنها بدر وأحد وبني المصطلق، ومعنى «يا منصور أمت»، أنه قد ظفرت بالعدو فلك أن تقتل من شئت منهم، كما يحمل الشعار تفاؤلًا بهلاك العدو.

واستعمل الرسول عدة شعارات في معركة واحدة، ففي يوم بدر خصّ قبيلة الأوس بشعار «يا بني عبيدالله»، وقبيلة الخزرج بـ«يا بني عبدالله»، والمهاجرين بـ«يا بني عبدالرحمن»، وكل أولئك انضووا تحت شعار موحد يجمع جيش المسلمين وهو «يا منصور أمت».

ومن جملة الشعارات التي رددها المسلمون في معاركهم «يا نصر اقترب اقترب» في يوم بدر، و«يا روح القدس ارح» في يوم بني النضير، و«ألا لعنة الله على الظالمين» في يوم بني قريظة، و«يا أحمد يا محمد» في يوم اليرموك.