هذا الوطن الذي عاش فيه وحارب من أجله في السادس من أكتوبر/ تشرين الثاني 1973، على أرضه مات، وفي ترابه دُفن، وبالفعل حكم وسيحكم التاريخ ما له – إن وجد – وما عليه. مات مبارك، الذي خرج مئات الآلاف لخلعه في 2011. مات في مستشفى الجلاء العسكري، بين أقربائه، وفي رغدٍ من العيش.

وهل يطيب العيش بعد نزع الملك من بين يديك؟ وهل يطيب العيش وأنت ترى تلك الندوب على وجهك؟ التي خطها أحد بسكينه قبل أن يموت؟

وإن كانت آفة حارتنا النسيان، فلا ضير من بعض الذكرى وإن كانة مؤرقة، احتكامًا للتاريخ، معيارنا المادي الوحيد؛ مبارك، ما له وما عليه.

الفساد ولعنة الاقتصاد

أشار عبدالخالق فاروق في كتابه «اقتصاديات الفساد في مصر» إلى حقائق بالأرقام، كيف تمت عمليات إفساد حياة المصريين منذ عام 1982 وحتى 2010. أنفقت الدولة المصرية 500 مليار جنيه على البنية التحتية، أي ما يقارب 100 مليار دولار بسعر الصرف وقتها، استفاد منها 49 ألف مورّد ومقاول في قطاع التشييد والبناء.

بنظام الإسناد وفتح المظاريف قد يتحصل الموظف المختص والوزير المسئول على عمولة تتراوح بين 5 و10%[1]. هذا النظام تشكلت على إثره شبكات فساد سرية تدير تلك العمليات، بلغت تلك الرشوة حتى عام 2004 ما يقرب من 40 مليار جنيه، محصورة في فئة ضيقة جدًا تقدر بـ10 آلاف شخص من المستفيدين.

أشار عبدالخالق أيضًا إلى حجم الفساد في تخصيص أراضي الدولة لبعض المنتفعين، أمثال هشام طلعت مصطفى ومجدي راسخ والفطيم وأحمد عز وساويرس ومحمد فريد خميس وأبو العينين. بين عامي 1994 و2007، كلفت تلك العمليات الدولة خسارة 150 مليار جنيه، لم يدخل أي منها خزينة الدولة، بل ذهب جزء كبير منها إلى السماسرة والمنتفعين الذين يعملون في جهاز الدولة.

أما في قطاع الاستيراد والتصدير، فنمت شبكات الفساد، واضطلع فيها أبناء مبارك أنفسهم، ومن قبلهم بعض قادة الجيش ورجال المخابرات كحسين سالم والمشير أبوغزالة، الذَين عملا في تهريب البضائع للعراق ولليبيا بعد الحصار المفروض عليهم.

دخلت مصر واردات بـ80 مليار دولار بين عامي 1982 و2004، كان نصيب السماسرة والمسئولين منها ما يقرب من مليار دولار، اشترك فيها مسئولون بالدولة ومخلّصون بالجمارك، أما على مستوى الديون الخارجية كما يشير جلال أمين في «قصة الاقتصاد المصري» فارتفعت ديون مصر 44% في أول 5 سنوات من حكم حسني مبارك، حيث ارتفعت ديون القطاع الخاص خمسة أضعاف مطلع عام 1986[2].

ومع تراجع الاقتصاد المصري وانكماشه منذ مطلع 1986، حاولت الدولة تأمين مصادر دخل غير النفط وحوالات المصريين، فاتجهت إلى خصخصة القطاع العام، حيث بدأ حجم الاستثمارات الأجنبية يتضاعف منذ نهاية التسعينيات، حيث ارتهن الاقتصاد المصري والقرار السياسي ببعض الدول الخليجية.

تزامن ذلك مع السمسرة في ديون مصر، السمسرة التي تربح منها أبناء مبارك أنفسهم بما يقرب من 200 مليون دولار، أما على مستوى خصخة شركات القطاع العام، فإنه في عام 1991 تم تثمين أكثر من 380 شركة بأكثر من 300 مليار جنيه، وفي عام 2007 كان قد بيع 194 شركة، بقيمة 50 مليار جنيه، أي بأقل من الثمن المتوقع بـ100 مليار جنيه. ذهبت تلك السمسرات والرشاوى إلى فئة محدودة من رجال مبارك، بإهدار متعمد للمال العام.

قد كان متعمدًا قبل بيع تلك الشركات إدارة عمليات إفساد، لطرحها بأسعار أقل من قيمتها، كشركة الحديد والصلب على سبيل المثال، فخر ما ترك نظام جمال عبدالناصر، التي أُعلن إفلاسها بشكل رسمي العام الماضي 2019 وتصفيتها.

جرى ذلك بالتزامن مع فساد بين في نظام الائتمان البنكي، حيث حصل 194 شخصاً فقط على نصف القروض الممنوحة لعام 2006. جرى من خلال تلك القروض الميسرة الاستحواذ على شركات في القطاع العام بأسعار زهيدة، ثم أخذ قروض جديدة على تلك المؤسسات، فنمت طبقات من رجال الأعمال الطفيليين المقربين لرجال الدولة في حينها.

وفي عهده ارتبطت تجارة المخدرات بأجهزة الدولة، وأصبحت هناك فئة كبيرة من المنتفعين المتربحين من تجارة المخدرات. وأصبح قطاع المخدرات يشكل ما قيمته 15 مليار جنيه سنويًا. نمت تجارة المخدرات ونمت تلك الشبكة حتى بلغت 150 ألف شخص من التجار والمنتفعين، مع نمو العديد من الكارتلات التي جسدها فيلم أرض الخوف بين نظام قديم منذ عهد السادات وآخر في عهد مبارك.

وقد تربح مبارك نفسه والمقربون منه كحسين سالم وأشرف مروان من صفقات السلاح، التي عملوا فيها كوسطاء بين دول أفريقية وأخرى عربية مع المصنعين الأوروبيين والأمريكيين، ويمكن تشبيه النظام المصري وقتها بنظام السماسرة.

حفزت شبكات الفساد نمو قطاعات الفساد الفقيرة في مستوياتها الدنيا، ونمت أعمال كالرشاوى وظهور الدروس الخصوصية، والتهرب الضريبي، ونمت طبقة الهامش الذين يعملون في الجريمة المنظمة، كالبلطجية ونظام الإتاوات.

صمام أمان الصراع الأمني

جاء حسني مبارك بعد اغتيال السادات محملًا برغبة في تحييد مؤسسات الجيش، التي بنيت عقيدتها على الصراع مع إسرائيل، واغتالت سلفه من هذا المنطق،  فسعى للاعتماد بشكل أكبر على مؤسسات الداخلية[3]، يمثل عهده بزوغ نجم الشرطة الاقتصادي في البلاد، أما السياسي فقد كان في نهاية عصر عبد الناصر.

 في بادئ الأمر قام مبارك بترك ملف السياحة في سيناء للمخابرات، وقام بتحييدها في المنافسه السياسية بل همشها، وقام باستبعاد المخابرات الحربية من المعادلة وأعلى من شأن أمن الدولة وذلك لحفظ الأمن الداخلي، كما أن ذلك الوضع ساعد بشكل كبير في عمليات النيوليبرالية والاحتكارية الاقتصادية.

لكن حادثة انتفاضة الأمن المركزي 1986 ، عندما انتفض أكثر من 30 ألف عسكري من أصل 100 ألف عسكري بالقطاع، لأسبابٍ اجتماعية كثورة للمهمشين، اضطرته لاستدعاء الجيش لوأد هذه الثورة والتي قتل فيها الآلاف من جنود الأمن المركزي.

أجبرت هذه الحادثة مبارك على إعادة الجيش إلى الصورة ولكن عبر العلاقات الاقتصادية والسمسرة للأفراد الذين يشكلون طبقته العليا، وأعاد سياسة عبدالناصر في تعيين القيادات للمهام الإدارية كالمحافظين وخلافه، كنموذج للرعاية الاجتماعية بعد تقاعد هؤلاء الضباط.

يشير عزمي بشارة في كتابه «ثورة مصر»[4] إلى أن عصر عبدالناصر تميز برغبته مشاركة الجيش كوحدة كاملة في العملية السياسية، من دون أن تعتمل بالسياسة أو الاقتصاد وهو ما يفسر صراعية ناصر وعبدالحكيم عامر الذي كان يرى العكس، في حين تميز حسني مبارك بإشراك أفراد الجيش خصوصًا في العمل الاقتصادي والمحسوبية لمحاولة حفظ التوازن بين القوى الأمنية.

وبُعيد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا ارتفع نجم المخابرات العامة مرة أخرى بعد تغيبها لسنوات، وبُعيد اتفاقية غزة أريحا أصبح لها دور بالإضافة لأحداث إقليمية مهمة مثل اجتياح جنين واحتلال العراق والانسحاب من غزة، مما أعاد العمليات الصراعية بقوة بين تلك المؤسسات مما دفع جميع تلك المؤسسات للتحصل على أدوات القوة كالاقتصاد في ظل الخصخصة والانفتاح.

الحياة السياسية: مبارك ميكافيليا

لم يكن مبارك كسابقيه، يعتمد على كريزما طاغية، يجمع بين الدولانية والشعبوية[5]، وبالرغم من ذلك فإن دولة مبارك سعت إلى توسيع مصادرها الريعية، وفي نفس الوقت حافظت على الحد الأدنى من تقديم الخدمات «دولة الرفاه»، حتى تطبيقها للنيوليبرالية الاحتكارية لم يكن فجًا كما في الوقت الحالي.

أدارت ملف الاقتصاد بشكل برجماتي، يضمن لها حدًا من الشرعية، مع تراجع الإنفاق على الصحة والتعليم والتطوير العسكري في حين ارتفع الإنفاق على الأجهزة الأمنية، وعلى ذلك كانت دولة مبارك تدير التوازنات السياسية.

فهي قبلت الإخوان المسلمين تحت قبة البرلمان في 1984، وسمحت بتعدد حزبي، فعاد حزب الوفد الجديد الليبرالي، من ثم سمحت بنشأة بعض الأحزاب الاشتراكية في التسعينيات، وعلقت بعضها، في ظل ارتباط الدولة بحزب كبير مركزي، الحزب الوطني الذي اعتُبر بوابة الدولة السياسية لتوزيع ومحاصصة الريع.

كما وجدت الحركة الطلابية والمعارضة منفذًا للاحتجاج السياسي، عبر تبنيهم خطاباً عروبياً يتجاوز القومية المصرية، مع انتفاضة فلسطين الأولى 1986-1987م، وهي السمة الأساسية التي يمتاز بها عصر التسعينيات.

سمح مبارك بهامش للحركة السياسية، إلا أنه حال دون أي محاولة للتحول الديموقراطي عبر تبنيه مظهرًا ديموقراطيًا مؤسسيًا، في حين لم يتجاوز ذلك الأمر مظهره[6]، فسمح بوجود مؤسسات صحفية معارضة تدار تحت معية الأجهزة الأمنية، كجريدة الشروق والمصري اليوم، وصولًا لبرامج توك شو مثل برنامج واحد من الناس.

سمحت تلك القنوات والصحف بتوجيه اللوم إلى الحكومة، وتجنيب الرئيس أي اتهامات لشخصه، وكانت سقطته كلها في موقفه من حرب العراق ثم ملف التوريث، وصولًا إلى تزوير الانتخابات وحصار غزة، التي حولت أسباب النقمة إلى شخصه مباشرة.

إلا أن الواقع يشير إلى أن مبارك كان أكثر رؤساء دولة يوليو حصافة، سواء في خطابه أو حتى في تعامله مع أزماته الداخلية، انطلاقًا من ممارساته الأمنية التي كانت بين الشد والجذب، وسماحه بهامش ضيق من مساحات التعبير، وصولًا للاغتيال الشعبوي والمحافظة على خطاب دولاني ينتشر في جميع طبقات المجتمع المصري.

النظام السياسي المباركي كان قويًا في جذب الحياة السياسية إلى طرفه، والمحافظة على مركزية الدولة في الاقتصاد والمحاصصة وتوزيع الريع، مع انحسار وتآكل للدولة المصرية ذاتها[7]، أدى ذلك لتجمد الحياة السياسية، والحيلولة دون طرح ما هو جديد.

سنجد عهد مبارك تذبذب بين تخفيف وطأة المركزية حتى 1988[8]، ثم العودة مرة أخرى للحالة المركزية، مع فرض سياسات التقشف التي أدت إلى تفاقم أزمة الصعيد وسيناء، والاهتمام بالمركز في مواجهة الأطراف.

هدر الكرامة

عندما نزلت جموع الشعب المصري إلى الشارع كان محركها الأساسي كما أشار[9] عزمي بشارة بحثًا عن الكرامة في مواجهة جهاز الشرطة، كان لحادثة خالد سعيد دلالة على ذلك وانتشار المواد الفيلمية التي تتعلق بالتعذيب في أقسام الشرطة.

في هذه الأثناء كان ضباط الجيش يتم التجسس عليهم من خلال جهاز الشرطة المتضخم وتحديدًا من جهاز أمن الدولة، أدى ذلك للاحتقان في صفوف الجيش مع تراجع دورهم في حفظ الأمن والسياسة والاقتصاد لصالح  جهازي الشرطة والمخابرات العامة.

أصبح المصري رافضًا للدولة، التي تنفق الكثير من مقدراته على إهانته في الأقسام، ورفع أعداد الأمن المركزي إلى ما يقرب من 300 ألف لمواجهته عندما يحتج، ثم سيطرت على الجامعات، وزورت انتخابات اتحادات الطلبة، وسيطرت بإفراط على العديد من النقابات العمالية التي قد تسبب الصداع.

بالإضافة لنظام الاعتقال في مقرات أمن الدولة، وعدد المسجونين الذي تضخم في عهده سواء السياسيون أو الجنائيون، مع ممارسات تعذيب شرهة استفزت بشكل أو بآخر الشعب المصري للتحرك ضده.

أما على المستوى الخارجي فتحولت مصر وجيشها إلى مرتزقة، كما حدث في حرب الكويت 1991، حيث كانت مصر تعاني من أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخها الحديث، مما دفع بمبارك إلى رهن القرار المصري ومركزية مصر من جامعة الدولة العربية إلى القرار الخليجي، مقابل تعويض مصر بعمالة في الخليج، ومليارات الدولارات في البنك المركزي.

تكرر ذلك في حرب الصومال، حيث سهلت مصر الطلعات الجوية الأمريكية، وسمحت للقوات الأمريكية باستخدام قاعدة غربي القاهرة، وصولًا إلى توسعة قناة السويس لمرور المدمرات وحاملة الطائرات الأمريكية لغزو العراق 2003. أما في حرب يوليو/ تموز 2006 فكانت مصر رهن القرار السعودي، وأعطت مصر ظهرها للعرب كشعوب، ولأفريقيا، إلا في حالات سمسرة الأسلحة كما في حالة جنوب السودان وإريتريا.

فسد النهضة الذي يشتكي المصريون من ويلاته اليوم بدأت أزمته في عهد مبارك باتفاق عنتيبي 2010 الذي أنهى سيطرة مصر والسودان التاريخية على نهر النيل، وبصورة عامة تراجعت قوة مصر الإقليمية في السياسة الخارجية على المستوى العربي والإفريقي، باستثناء ملفات محدودة كغزة بحكم تماهيها مع السياسة الإسرائيلية، وتوازناتها مع حماس.

أخيرًا شهد عهد مبارك إهمالاً قد يصل الى حد الجرائم مثل غرق عبارة سالم اكسبرس 1991م، وعبارة السلام الثانية 2006 بينما كان يحتفل بتتويج منتخب مصر ببطولة أفريقيا لكرة القدم واحتراق قطار الصعيد في عيد الأضحى وهو يلعب الأسكواش.

ناهيك عن ممارساته للعنف ضد عساكر الأمن المركزي 1986، والاعتقال والاغتيال والتعذيب في عهده، وصولًا إلى تزوير الانتخابات وحصار غزة، وقضايا فساد في قطاع الصحة كأكياس الدم الفاسد، وارتفاع أمراض الكبد بسبب تهالك شبكات الصرف الصحي، وضعف الرعاية الصحية.

إن كان هناك بد من ذكر محاسنه، فهذا أمر مرهون لمن أحبه من أقربائه وخاصته، أما كونه شخصية عامة فلنا أن نذكّر الجميع أنه قد خلع بثورة طيف من شعبه في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011، لأسباب قد ذكرنا بعضًا منها في هذا النعي.

المراجع
  1. عبدالخالق فاروق، اقتصاديات الفساد، ص42.
  2. جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري، ص88.
  3. تشير بعض التقارير إلى أن عدد قوات الداخلية عشية ثورة 2011م بلغ 1.4 مليون منتسب، أكثر من 300 الف جندي أمن مركزي، و 365 الف أمناء شرطة وخدميين، وأكثر من 185 الف منتسبين درجة أولى.
  4. عزمي بشارة، ثورة مصر الجزء الأول، ص114.
  5. نزيه الأيوبي، الدولة المركزية في مصر، ص164.
  6. بسيوني وهلال، الجمهورية الثانية في مصر، ص30.
  7. راجع كتاب سامر سليمان النظام القوي والدولة الضعيفة.
  8. سامر سليمان، النظام القوي والدولة الضعيفة، ص111.
  9. ثورة مصر، المجلد الأول المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2016.