سادت الأوساط الأوروبية حالة من التفاؤل الحذر عقب التوصل إلى خطة عمل بين تركيا والاتحاد الأوروبي أواخر نوفمبر الماضي. تقضي الخطة بتشديد أنقرة الرقابة على سواحلها، وتعزيز نشاطها في مكافحة شبكات التهريب؛ بهدف تقليص تدفق اللاجئين إلى الجزر اليونانية. في المقابل تقدم بروكسل حزمة تحفيزية لأنقرة، تشمل مساعدات بقيمة 3 مليارات يورو، وفتح الفصل السابع عشر من فصول مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي، إضافة لتسهيلات في منح تأشيرة شنجن للمواطنين الأتراك بحلول أكتوبر 2016.شكّل تمرير خطة العمل الأوروبية-التركية، رغم ما حوتها من تنازلات ضخمة لأنقرة، فرصة ملائمة لأوروبا لاستعادة قدرتها على صياغة حل جماعي إزاء أزمة اللاجئين، وتجاوز أزماتها الداخلية ممثلة في الانقسام الحاد بين برلين ودول مجموعة «فيزجراد» بشأن مسألة إعادة توزيع اللاجئين، وتزايد دعوات الانغلاق القُطري، مُمثَلة في قيام المجر بسابقة أولى من نوعها، بإنشاء سور فاصل على حدودها المشتركة مع صربيا وكرواتيا للحد من تدفق اللاجئين، إضافة لحالة التوتر المجتمعي الآخذة في النمو داخل أكبر حاضنة أوروبية للاجئين؛ ألمانيا، وما صاحب ذلك من نمو واضح في شعبية أحزاب اليمين الشعبوي.

ثلاثة أشهر انقضت على سريان خطة العمل، لكن الأرقام الواردة من منظمة الهجرة الدولية تشير بحسم إلى إخفاق الخطة الأوروبية-التركية في تحقيق المرجو منها
ثلاثة أشهر انقضت على سريان خطة العمل، لكن الأرقام الواردة من منظمة الهجرة الدولية في تقريرها الصادر أواخر فبراير الماضي 2016، تشير بحسم إلى إخفاق خطة العمل الأوروبية-التركية في تحقيق المرجو منها؛ إذ بلغ تعداد اللاجئين الوافدين عبر السواحل التركية إلى الجزر اليونانية في شهري يناير وفبراير من العام الحالي 102,547 لاجئًا، في حين احتاج اليونان 6 أشهر كاملة من العام 2015 ليصل إلى نفس الرقم المسجل في الشهرين الأولين من عام 2016. إخفاق كان من شأنه مضاعفة الأزمات الأوروبية عما كانت عليه قبيل التوصل إلى خطة عمل بروكسل.


من بودابست إلى برلين: بروكسل تفقد المبادرة

مع ظهور البوادر الأولى لعجز أنقرة عن الوفاء بالتزاماتها، واستمرار تدفق اللاجئين على الجزر اليونانية بمعدل ألفي لاجئ يوميًا، لجأت عديد من الدول الأوروبية، في ظل انعدام توافق مؤسسي أوروبي، لصيغ فردية في التعاطي مع تدفق اللاجئين. تباينت الصيغ بشكل لافت من حيث طبيعة الفئات المستهدفة، ونسبة الوسائل الأمنية إلى التشريعية والدبلوماسية، ومقدار الأثر الذي ترتب عليها.ارتفعت حدة الانتقادات المجرية إلى برلين؛ بوصفها المتسبب الرئيس في أزمة اللاجئين؛ بفعل قيامها أواخر أغسطس الماضي 2015 بإعفاء السوريين من بصمة دبلن. أتبعت المجر انتقاداتها لنهج ميركل بتنسيق مع رئيس وزراء ولاية بايرن «هورست زيهوفر» للضغط من أجل إلغاء سياسة الحدود المفتوحة. خطاب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لم يجد قبولًا لدى المستشارة، فاندفع إلى تأكيد حاد على رفض خطة العمل القاضية بتوزيع 160 ألف لاجئ على دول الاتحاد، مع إعلان عزمه اللجوء للقضاء الأوروبي حال إصرار برلين. لم تكن تلك آخر مساعيه، إذ أعلن نية بلاده تشديد الحصار على ممرات العبور بإقامة سور فاصل ثالث على الحدود المشتركة لبلاده مع رومانيا.

بدأت عدد من الدول تشديد إجراءات اللجوء، فمن بناء أسوار على الحدود في المجر، لإصدار قوانين مصادرة متعلقات اللاجئين في الدانمارك، إلى توسيع الدول الآمنة في ألمانيا
مقاربة الدنمارك كانت أكثر تشددًا من المقاربة المجرية. بدأ مجلس النواب في أواخر ديسمبر 2015 مناقشة قانون يسمح بمصادرة ممتلكات اللاجئين الثمينة، وتقليص خدمات الرعاية الاجتماعية. التشريع الدنماركي جاء عقب فشل الرسائل التي توجهت بها الحكومة الدنماركية عبر الصحف اللبنانية الثلاث «المستقبل»، «السفير»، «النهار»، في ثني اللاجئين السوريين عن اختيار كوبنهاجن كوجهة نهائية، بفعل خطاب الترحيب المضاد الذي توجه بها مواطنون دنماركيون عبر ذات الصحف للاجئين السوريين وحمل عنوانًا من «الشعب إلى الشعب». رغم كل الانتقادات الأممية التي نالت التشريع الدنماركي عقب إقراره قبل شهر ونصف، مضت الحكومة الدنماركية في مخططها؛ مبررة إجراءاتها بعجز القارة عن إيقاف سيل اللاجئين.تحت وطأة الانقسامات الداخلية سعت برلين بدورها إلى ضبط محدود للغاية لسياسة الحدود المفتوحة، تتعلق إجراءاته تحديدًا بلاجئي الفقر الذين يشكلون قرابة ثلث تعداد الوافدين. امتدت الإجراءات على محاور ثلاث. الأول: توسيع رقعة الدول المُصنفة باعتبارها مناطق آمنة، لتشمل عقب دول البلقان البوسنة، ألبانيا، ومونتنجرو، دول المغرب العربي، وأفغانستان. الثاني: تمثل في إعادة هيكلة قوانين لم الشمل. أما الثالث فلم يتجاوز حد الخطاب الدعائي من المستشارة بحتمية إعادة اللاجئين السوريين مرة أخرى عقب انتهاء الحرب في سوريا، كما سبق وحدث مع لاجئي البوسنة بعد توقيع اتفاق دايتون للسلام، إذ شُكّلت لجنة مختصة في حينه برئاسة «هانز كوشنيك»، نجحت خلال الفترة بين عامي 1996-2000 في إعادة 250 ألف لاجئ من أصل 345 ألف لاجئ فروا لبرلين عقب اندلاع الحرب.


قمة غرب البلقان: تجذير الانقسام

طال إخفاق خطة عمل بروكسل، وما أعقبه من شيوع الاقترابات الفردية، ما بدا لفترة طويلة وكأنه الثابت الأوروبي المشترك الوحيد في مواجهة أزمة اللاجئين. المقصود هنا هو اعتماد نهج تأمين الحدود الأوروبية من الخارج، كسبيل وحيد لإيقاف التدفق، مع الإبقاء على حرية الحركة بين أعضاء الاتحاد. بخطوات متسارعة بدأت كتلة أوروبية، قلبها الصلب النمسا والمجر، صياغة معادلة للتعامل مع أزمة اللاجئين، مختلفة كلية عن تلك المدعومة ألمانيًا. أولى الخطوات تمثلت في تصدير النمسا الأزمة للدول الواقعة على مدى طريق البلقان، بإعلانها تحديد سقف للاجئين بـ 37,500 لاجئ سنويًا، ما أجبر سلوفينيا وكرواتيا على تحديد عدد اللاجئين بـ 580 لاجئ يوميًا.أعقب تلك الخطوة انعقاد مؤتمر «فيزجراد» في 15 فبراير الماضي 2016 في العاصمة التشيكية براج وسط تأييد قادة شرق أوروبا للمسعى النمساوي بخفض عدد اللاجئين، وتشديد الرقابة على طريق البلقان، قبل أن تدخل المعادلة الجديدة حيز التنفيذ في مؤتمر غرب البلقان بقيادة النمسا، باتفاق الدول العشر المشاركة على إجراءات محددة للتعامل مع أزمة اللاجئين، أفضت في الأخير إلى إغلاق مقدونيا حدودها المشتركة مع اليونان.«إيدومني»، حيث تتلاقى الحدود اليونانية-المقدونية كانت التجسيد الميداني الفوري لمخرجات قمة غرب البلقان. تكدّس قرابة 30 ألف لاجئ في اليونان دون أمل في انفراج الأزمة، ما دفع بمئات اللاجئين السوريين والعراقيين لاقتحام الحواجز الحدودية للعبور لمقدونيا، قبل أن ترد الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع وتنجح في قمع المحاولة.على هامش المواجهة الميدانية غير المسبوقة في أطراف أوروبا بين اللاجئين وقوات الشرطة، جرت مواجهة سياسية أظهرت بجلاء حجم ما تمر به القارة من انقسام. إذ دفعت النمسا بصحة موقف مقدونيا، في حين رفضته ألمانيا. يساند شرق أوروبا فيينا بدعم مالي وتقني لسكوبيا لتأمين حدودها، فتلجأ ميركل إلى لقاء الرئيس الفرنسي للتنسيق المشترك في مواجهة أزمة اللاجئين استنادًا لمخرجات بروكسل. وبينما احتدم الانقسام الأوروبي، وقف اللاجئون عُزلا من أي دعم إلا من فتات مساعدات، لم تفلح في مداراة معاناة ألوف المكدسين. الصورة الأكثر تعبيرًا عن مدى سوء الأوضاع الإنسانية أتت من ساحة فيكتوريا بلازا في قلب أثينا، حيث حاول لاجئان شنق نفسيهما، قبل أن يتدخل المارة لإنقاذهما، وتتكفل مستشفى حكومي بعلاجهما.

باتت أوروبا للمرة الأولى أمام معسكرين متضادين، برؤيتين منفصلتين للصيغة المثلى للأمن الأوروبي في مواجهة أزمة اللاجئين
باتت أوروبا إذن للمرة الأولى أمام معسكرين متضادين، برؤيتين منفصلتين للصيغة المثلى للأمن الأوروبي في مواجهة أزمة اللاجئين. معسكر ألمانيا الداعي للحفاظ على جوهر الاتحاد، حيث تتُخذ القرارات جماعيًا من مبنى المفوضية، وتنعدم الرقابة على الحدود الداخلية، وحيث تكون أنقرة، بحكم الجغرافيا، شرطي الاتحاد، تبدأ الأزمة منها، وبها يكون الحل. وفي المواجهة يبرز معسكر النمسا وشرق أوروبا الذي لم يعد بمقدوره المراهنة على الحل التركي بمفرده، حتى وإن أتى مصحوبًا بدعم أطلسي في بحر إيجه لمكافحة تدفق اللاجئين استباقيًا عبر تعقب شبكات التهريب. عجز الأتراك عن ضبط سواحلهم، دون توافر بدائل أوروبية أخرى، قد يدفع لتكرار سيناريو صيف العام الماضي 2015، وتشجيع حشود مليونية على التدفق مع استقرار الأحوال الجوية في فصل الصيف، خصوصًا مع إصرار ميركل على التمسك بخطاب الحدود المفتوحة، الذي شكل عامل جذب لمئات الألوف من طالبي اللجوء لأسباب اقتصادية.السعي الحثيث لتأمين إجراءات حمائية جديدة دفع المعسكر النمساوي-الشرق أوروبي إلى زحزحة خطوط التماس مع حشود اللاجئين من أنقرة إلى أثينا، وأوكل إلى اليونان جبرًا مهمة لعب دور شرطي الاتحاد، ومنع اللاجئين، وإعالة من وصل منهم في مخيمات على أراضيها، دون اعتبار لمشاكلها الاقتصادية، والحساسيات التي تربطها بأنقرة. الفاتورة الكاملة للاستقطاب تحملها اليونان إذن بمفردها، وبات على مشارف التحول إلى «مستودع للأرواح التائهة» فقط لما تمليه عليها اعتبارات الجغرافيا.


تداعيات الأزمة قُطريًا: صعود محتمل لليمين الشعبوي في ألمانيا

فبراير 2016، مئة من أنصار حزب بديل ألمانيا وأعضاء الحزب القومي النازي يحاصرون مركبة ضمت 50 لاجئًا. تعلو هتافات «غادروا أراضينا، نحن الشعب»، فزع يملأ المكان، أطفال يرفضون الاستجابة لطلب الشرطة بالنزول من الباص تمهيدًا لإيداعهم دار اللجوء، ضيق الأمن سرعان ما يتُرجم لعنف جسدي، يجذب أحد أفراد الشرطة طفلاً بعنف شديد من رقبته. يُختتم المشهد على وقع صفارات التحية من النازيين للشرطي؛ اعتقادًا بأن العنف المفرط بمثابة إشارة تضامن مع غضبهم.«كلاوسنتس»، لم تكن الأولى في أنشطة اليمين المتطرف ضد اللاجئين. مكتب مكافحة الجريمة سجل أكثر من ألف اعتداء على دور إقامة اللاجئين. عمدة كولن «هنريتيا ريكر» سبق أيضًا وتعرضت لمحاولة اغتيال بطعنها في رقبتها من متطرف نازي يُدعي «فرانك إس». لكن حداثة «كلاوسنتس» مثّلت التطور الأبرز على صعيد انتقال كوادر اليمين الشعبوي من حيز التنظير للعنف (دعوة رئيسة بديل ألمانيا «فراوكه بيتري» الشرطة لإطلاق النار على اللاجئين) إلى حيز الممارسة العلنية في حضور جهات إنفاذ القانون. ليس العنف اللفظي والبدني، رغم ذلك، أكثر ما يزعج السلطات الرسمية.في انتخابات البوندستاج لعام 2013 تمكن حزب بديل ألمانيا من تحقيق نتائج لافتة. حصد ممثلو الحزب 2,056 مليون صوت، مكّنتهم من الوصول لنسبة 4,7%. أقل فقط بثلاثة أعشار من المائة من النسبة القانونية المؤهلة للحصول على مقعد برلماني، والمقدرة بـ 5%، أو ما يُعرف قانونيًا بـ 5% Hürde. بدون قضية اللاجئين نجح الحزب قبل 3 سنوات في اكتساب ثقة قطاع ملحوظ من الناخبين بفضل توجهاته النظرية المناهضة للهجرة وتضاؤل نفوذ المؤسسات التشريعية الوطنية، أمام مؤسسات صنع القرار الأوروبي. إذن ما المدى الذي قد يبلغه الحزب بعد أن وجد في مليون لاجئ تطبيقًا عمليًا لمنتوجه النظري؟.وفقًا لتقديرات ورقة تقييم الأزمة الصادرة عن مؤسسة «هانز زيدل» لـ «جيرهارد هيرشر» بعنوان Die AFD rückt nach Rechts «حزب بديل ألمانيا يتجه نحو اليمين»، يحتل حزب بديل ألمانيا المرتبة الثالثة في قائمة الأحزاب الأكثر شعبية بعد شريكي الائتلاف الحكومي «المسيحي الديمقراطي» و«الديمقراطي الاجتماعي»، بفضل ثقة 15% من كتل الناخبين. أكثر ما يُخشي منه سياسيًا، أن يترجم الحزب الثقة النظرية الواردة من مؤشرات قياس الرأي العام، إلى مقاعد في البلديات والبرلمانات المحلية، قبل أن ينتقل منها إلى مقاعد

قبل أزمة اللاجئين حصل حزب اليمين المتطرف الألماني على أكثر من مليوني صوت انتخابي، ترى كم سيحقق بعد أن أثبتت الأزمة، من وجهة نظر قطاع من الناخبين، صحة وجهة نظره
البوندستاج بعد أقل من عام ونصف، مُستغلًا تخلي يمين الوسط – بفضل سياسة الحدود المفتوحة- عن مواقعه التقليدية التي كان يقف عندها من العام 1998، وحتى وقت قريب، مُعارضًا آنذاك سياسات الهجرة المُتبناة من ائتلاف الخضر والاشتراكيين، في استقطاب الكفاءات من الخارج، ورافعًا شعار Kinder statt Inder «الأطفال بدلًا من الهنود».ذهاب ألمانيا – الفاعل الأهم في أزمة اللاجئين – للقمة الأوروبية-التركية أتى إذن مدفوعًا، ليس فقط بتصاعد الانقسام الأوروبي، بل أيضًا بتخوفات جلية من تداعيات غياب حل حاسم لأزمة اللاجئين على البيئة السياسية الداخلية، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في ثلاث ولايات هي «بادن فورتمبرج»، «راينبفالتس»، إضافة إلى «زاكسن» المعقل الأصيل لحزب بديل ألمانيا في الثالث عشر من الشهر الحالي مارس 2016. وبالأخص بعد النتائج المُلفِتة التي حققها حزب بديل ألمانيا في الانتخابات البلدية بولاية هيسن. النتائج الأولية أشارت إلى نجاح الحزب في حصد المركز الثالث، بنسب تراوحت من 10-15% من أصوات الناخبين في كبريات المدن فرانكفورت وكاسل، 18,5% في فيسبادن، ونسبة بلغت 22% في باد كارلسهافن.


القمة الأوروبية-التركية: قلب الطاولة

خمسون عامًا مضت منذ أن بدأت تركيا رحلتها لنيل العضوية الأوروبية. بداية من بروتوكول أنقرة عام 1963 الذي نظم انضمام تركيا للتجمع الاقتصادي الأوروبي، مرورًا باتفاقية الاتحاد الجمركي عام 1995، وترشيح تركيا عضوًا محتملًا في العام 1999، وانتهاءً بإعلان بدء المفاوضات الرسمية حول العضوية الكاملة بين أنقرة وبروكسل في 2005. عقد كامل انتظرته تركيا دون وضع سقف زمني لنهاية المفاوضات، أو إشارات تطمينية من برلين وباريس. ألمانيا تحديدًا ظلت محكومة بتخوفات سادت بالأخص يمين الوسط، من تأثير انضمام تركيا على ميزان القوة داخل المؤسسات الأوروبية، وتدفق العمالة، والتركيبة الديموجرافية للاتحاد، ما دفعها لطرح صيغة بديلة تحت مسمى الشراكة المميزة عوضًا عن العضوية الكاملة.وفي حين استمرت المماطلة الأوروبية في مفاوضات العضوية التركية، فتحت بروكسل أبوابها لاستقبال كرواتيا في 2013، وهي التي بدأت مفاوضات العضوية في نفس العام مع تركيا. أكثر من ذلك منحت بروكسل إعفاء من فيزا الشنجن لمواطني 3 دول بلقانية هي صربيا والجبل الأسود ومقدونيا، في يوليو 2009، دون أن تبدأ تلك الدول من الأساس مفاوضات العضوية الأوروبية رسميًا، إذ بدأتها مقدونيا في 29 يونيو 2012، وصربيا في سبتمبر 2013، بينما مقدونيا توقفت فقط عند مرحلة نيل صفة المرشح للعضوية في 2005. مماطلة لم تكن لتنتهي لولا أزمة اللاجئين التي أسفرت عن تغيرات طالت الخطاب الأوروبي والإجراءات على حد سواء. بدأت بتراجع ميركل عن خطابها التقليدي بشراكة مميزة لصالح ترحيب مبدئي بعضوية محتملة لأنقرة، وانتهت في مخرجات القمة الأولى بتحديد سقف زمني لتحرير فيزا الشنجن، وفتح الفصل الـ 17 من فصول مفاوضات العضوية.دخلت تركيا القمة الأوروبية-التركية الثانية أمس وهي تدرك موقعها من الحل الأوروبي لأزمة اللاجئين الذي اكتسب أهمية إضافية بفعل

دخلت تركيا القمة وهي تدرك أن أزمة اللاجئين والخلافات البينية في الاتحاد والضغوط المحلية على ميركل هي أوراق ضغط إستراتيجية لن تتوافر لها مرة أخرى
تفاقم الأزمات الأوروبية، عما كانت عليه قبل القمة الأولى. دخلت وهي تعلم أيضًا أن الأجندة المثقلة للاتحاد بالخلافات البينية، والضغوط المحلية على المستشارة الألمانية وتراجع شعبيتها إلى أدنى مستوى بعد عقد كامل من التواجد في المستشارية، هي بمثابة أوراق ضغط إستراتيجية لن تتوافر لها مرة أخرى، وقد يدفع حسن استثمارها لجني مزيد من التنازلات.وبينما اعتقد المشاركون أن التداول في القمة سينحصر فقط في 4 ملفات هي إغلاق طريق البلقان، توسيع مراقبة المنطقة البحرية الفاصلة بين تركيا واليونان في بحر إيجه، إقامة نقاط ساخنة في اليونان، على أن يكون التواجد التركي مقتصرًا على تأكيد التزام أنقرة بمخرجات قمة بروكسل نوفمبر 2015، وبالأخص مسألة إعادة مهاجري الفقر القادمين من أفغانستان وباكستان، من الجزر اليونانية إلى أنقرة كشرط مسبق لتخفيف شروط فيزا الشنجن للمواطنين الأتراك، وهي الحدود القصوى التي رسمتها المفاوضات التشاورية للدور التركي في القمة. جاءت خطة النقاط التسع التي طرحها أوجلو قبل انتهاء المؤتمر لتغير خريطة المفاوضات، وترسم حدودًا جديدة لاتفاق مرتقب بين أنقرة وبروكسل.شملت المقترحات التركية الحصول على تمويل إضافي بـ 3 مليارات يورو، ليرتفع مبلغ المساعدات إلى 6 مليارات، حرية السفر للمواطنين الأتراك بنهاية يونيو القادم دون الحاجة للحصول على فيزا الشنجن، بدلًا من التزامات نوفمبر 2015 بتسهيلات مرتقبة بحلول أكتوبر القادم، بالإضافة إلى فتح خمسة فصول من مفاوضات العضوية. وفي المقابل تقوم تركيا بقبول استعادة لاجئي الفقر المرفوضين أوروبيًا. علاوة على استعادة اللاجئين السوريين الواصلين بصفة غير شرعية للجزر اليونانية، في مقابل أن يستقبل الاتحاد لاجئًا سوريًا شرعيًا، مقابل كل لاجئ غير شرعي تستعيده أنقرة.المقترحات التركية قُوبلت بترحيب أوروبي مبدئي، والشروط التركية في معظمها أيضًا. المستشارة الألمانية أبدت دعمها للمطلب التركي بشأن تحرير فيزا الشنجن، إذا ما التزمت أنقرة باستعادة المهاجرين غير الشرعيين. المفوضية الأوروبية بدورها على لسان «رونالد توسك» أبدت تفاؤلها بالمقترحات التركية، واستبقت نتائج المفاوضات بالتأكيد أن زمن الهجرة غير الشرعية قد انتهى. لكن ذلك لا ينفي مخاوف سائدة وصعوبات قد تطال المفاوضات التفصيلية المكثفة التي ستدور في الأيام العشر المقبلة قبل انعقاد القمة الأوروبية-التركية في 17-18 من الشهر الحالي مارس 2016:أولًا: استبدال لاجئي الحماية الإنسانية

صحيح أن نجاح المقترح من شأنه تقليص نشاط شبكات التهريب للحد الأدنى، عبر اتباع ممرات شرعية لتقديم اللجوء من أنقرة، إضافة إلى تخفيف العبء عن اليونان كمحطة استقبال أولى، وتخفيف الإجراءات الحمائية على ممر البلقان. لكنه يطرح أيضًا أسئلة أوروبية داخلية في الفترة المقبلة: كيف ستنظم أوروبا استقبال اللاجئين مباشرة من أنقرة؟، ما هي الآلية التي سيتم اتباعها بشأن تحديد حصص التوزيع؟، أوروبا لم تتفق طيلة 6 أشهر على آلية محددة لتوزيع 160 ألف لاجئ داخل حدود الشنجن، هل بمقدور قادتها التوصل في 10 أيام إلى صيغة تحدد التزامات أطرافها بشأن عملية التبادل؟، كيف ستتغلب ألمانيا على تحفظات شرق أوروبا باستقبال بلادهم حصصًا إضافية من اللاجئين؟.

ثانيًا: تحرير الفيزا

وفقًا لتقرير المكتب الاتحادي الألماني لشئون الهجرة واللاجئين لعام 2013، بلغ عدد الأتراك الذين غادروا ألمانيا للاستقرار في تركيا 33,600، مقابل 26,400 تركي غادروا أنقرة للإقامة في برلين. زيادة الهجرة العكسية من برلين إلى أنقرة، وإن حملت دلالات مطمئنة بشأن قدرة الأوضاع الاقتصادية التركية على جذب المواطنين للبقاء، إلا أنها لا تنفي تخوفات أخرى عبر عنها وزير الداخلية الألماني في 6 فبراير الماضي خلال حديثه لراديو RBB بأن ترتفع أعداد اللاجئين لأسباب سياسية بوتيرة متسارعة. يقصد هنا الأكراد الأتراك الذين قدموا في يوليو 2015 فقط قرابة 1600 طلب لجوء في ألمانيا. دي ميزير استشهد بالمثال الصربي للدلالة على ما قد يحدث حال التسرع في تحرير الفيزا مع تركيا، إذ أساء المواطنون الصرب استغلال الامتيازات الأوروبية بتقديم طلبات لجوء بشكل متزايد داخل ألمانيا، ما استلزم جهودًا دبلوماسية استمرت شهورًا لإصلاح الوضع مع بلجراد.

لولا حسن إدارة تركيا لأدوات الضغط، ثم استثمار المفاوضين لتداعيات أزمة اللاجئين على بروكسل، لتحولت أنقرة إلى بيروت أو عمان

في الأخير، سواء أسفرت القمة المقبلة عن تسوية نهائية بنفس الشروط التركية أم لا، ستبقى تركيا العصب الرئيس لأي اقتراب أوروبي شامل في معالجة أزمة اللاجئين. ستبقى أيضًا، مهما كانت بنود التسوية، أكثر دول الجوار السوري تربحًا من ورقة اللاجئين بفضل تصدير الأزمة لأوروبا. ولولا حسن إدارة أدوات الضغط التي وهبتها الجغرافيا لأنقرة، ثم استثمار المفاوضين لتداعيات أزمة اللاجئين على بروكسل، لتحولت أنقرة إلى بيروت أو عمان. ضغط مليوني على البنية التحتية، فزيارات لا تنقطع لمبنى المفوضية طلبًا لتحمل جزء من المسئولية الأخلاقية، فمؤتمرات أممية، وتعهدات بمساعدات مليارية، والحصاد لا شيء يذكر.

المراجع
  1. تركيا والاتحاد الأوروبي بين العضوية والشراكة، حسين طلال مقلد، مجلة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، مجلد 26، عدد 2010