بين قمتين: كيف استغلت تركيا أزمات الاتحاد الأوروبي؟
سادت الأوساط الأوروبية حالة من التفاؤل الحذر عقب التوصل إلى خطة عمل بين تركيا والاتحاد الأوروبي أواخر نوفمبر الماضي. تقضي الخطة بتشديد أنقرة الرقابة على سواحلها، وتعزيز نشاطها في مكافحة شبكات التهريب؛ بهدف تقليص تدفق اللاجئين إلى الجزر اليونانية. في المقابل تقدم بروكسل حزمة تحفيزية لأنقرة، تشمل مساعدات بقيمة 3 مليارات يورو، وفتح الفصل السابع عشر من فصول مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي، إضافة لتسهيلات في منح تأشيرة شنجن للمواطنين الأتراك بحلول أكتوبر 2016.شكّل تمرير خطة العمل الأوروبية-التركية، رغم ما حوتها من تنازلات ضخمة لأنقرة، فرصة ملائمة لأوروبا لاستعادة قدرتها على صياغة حل جماعي إزاء أزمة اللاجئين، وتجاوز أزماتها الداخلية ممثلة في الانقسام الحاد بين برلين ودول مجموعة «فيزجراد» بشأن مسألة إعادة توزيع اللاجئين، وتزايد دعوات الانغلاق القُطري، مُمثَلة في قيام المجر بسابقة أولى من نوعها، بإنشاء سور فاصل على حدودها المشتركة مع صربيا وكرواتيا للحد من تدفق اللاجئين، إضافة لحالة التوتر المجتمعي الآخذة في النمو داخل أكبر حاضنة أوروبية للاجئين؛ ألمانيا، وما صاحب ذلك من نمو واضح في شعبية أحزاب اليمين الشعبوي.
ثلاثة أشهر انقضت على سريان خطة العمل، لكن الأرقام الواردة من منظمة الهجرة الدولية تشير بحسم إلى إخفاق الخطة الأوروبية-التركية في تحقيق المرجو منها
من بودابست إلى برلين: بروكسل تفقد المبادرة
مع ظهور البوادر الأولى لعجز أنقرة عن الوفاء بالتزاماتها، واستمرار تدفق اللاجئين على الجزر اليونانية بمعدل ألفي لاجئ يوميًا، لجأت عديد من الدول الأوروبية، في ظل انعدام توافق مؤسسي أوروبي، لصيغ فردية في التعاطي مع تدفق اللاجئين. تباينت الصيغ بشكل لافت من حيث طبيعة الفئات المستهدفة، ونسبة الوسائل الأمنية إلى التشريعية والدبلوماسية، ومقدار الأثر الذي ترتب عليها.ارتفعت حدة الانتقادات المجرية إلى برلين؛ بوصفها المتسبب الرئيس في أزمة اللاجئين؛ بفعل قيامها أواخر أغسطس الماضي 2015 بإعفاء السوريين من بصمة دبلن. أتبعت المجر انتقاداتها لنهج ميركل بتنسيق مع رئيس وزراء ولاية بايرن «هورست زيهوفر» للضغط من أجل إلغاء سياسة الحدود المفتوحة. خطاب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لم يجد قبولًا لدى المستشارة، فاندفع إلى تأكيد حاد على رفض خطة العمل القاضية بتوزيع 160 ألف لاجئ على دول الاتحاد، مع إعلان عزمه اللجوء للقضاء الأوروبي حال إصرار برلين. لم تكن تلك آخر مساعيه، إذ أعلن نية بلاده تشديد الحصار على ممرات العبور بإقامة سور فاصل ثالث على الحدود المشتركة لبلاده مع رومانيا.
بدأت عدد من الدول تشديد إجراءات اللجوء، فمن بناء أسوار على الحدود في المجر، لإصدار قوانين مصادرة متعلقات اللاجئين في الدانمارك، إلى توسيع الدول الآمنة في ألمانيا
قمة غرب البلقان: تجذير الانقسام
طال إخفاق خطة عمل بروكسل، وما أعقبه من شيوع الاقترابات الفردية، ما بدا لفترة طويلة وكأنه الثابت الأوروبي المشترك الوحيد في مواجهة أزمة اللاجئين. المقصود هنا هو اعتماد نهج تأمين الحدود الأوروبية من الخارج، كسبيل وحيد لإيقاف التدفق، مع الإبقاء على حرية الحركة بين أعضاء الاتحاد. بخطوات متسارعة بدأت كتلة أوروبية، قلبها الصلب النمسا والمجر، صياغة معادلة للتعامل مع أزمة اللاجئين، مختلفة كلية عن تلك المدعومة ألمانيًا. أولى الخطوات تمثلت في تصدير النمسا الأزمة للدول الواقعة على مدى طريق البلقان، بإعلانها تحديد سقف للاجئين بـ 37,500 لاجئ سنويًا، ما أجبر سلوفينيا وكرواتيا على تحديد عدد اللاجئين بـ 580 لاجئ يوميًا.أعقب تلك الخطوة انعقاد مؤتمر «فيزجراد» في 15 فبراير الماضي 2016 في العاصمة التشيكية براج وسط تأييد قادة شرق أوروبا للمسعى النمساوي بخفض عدد اللاجئين، وتشديد الرقابة على طريق البلقان، قبل أن تدخل المعادلة الجديدة حيز التنفيذ في مؤتمر غرب البلقان بقيادة النمسا، باتفاق الدول العشر المشاركة على إجراءات محددة للتعامل مع أزمة اللاجئين، أفضت في الأخير إلى إغلاق مقدونيا حدودها المشتركة مع اليونان.«إيدومني»، حيث تتلاقى الحدود اليونانية-المقدونية كانت التجسيد الميداني الفوري لمخرجات قمة غرب البلقان. تكدّس قرابة 30 ألف لاجئ في اليونان دون أمل في انفراج الأزمة، ما دفع بمئات اللاجئين السوريين والعراقيين لاقتحام الحواجز الحدودية للعبور لمقدونيا، قبل أن ترد الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع وتنجح في قمع المحاولة.على هامش المواجهة الميدانية غير المسبوقة في أطراف أوروبا بين اللاجئين وقوات الشرطة، جرت مواجهة سياسية أظهرت بجلاء حجم ما تمر به القارة من انقسام. إذ دفعت النمسا بصحة موقف مقدونيا، في حين رفضته ألمانيا. يساند شرق أوروبا فيينا بدعم مالي وتقني لسكوبيا لتأمين حدودها، فتلجأ ميركل إلى لقاء الرئيس الفرنسي للتنسيق المشترك في مواجهة أزمة اللاجئين استنادًا لمخرجات بروكسل. وبينما احتدم الانقسام الأوروبي، وقف اللاجئون عُزلا من أي دعم إلا من فتات مساعدات، لم تفلح في مداراة معاناة ألوف المكدسين. الصورة الأكثر تعبيرًا عن مدى سوء الأوضاع الإنسانية أتت من ساحة فيكتوريا بلازا في قلب أثينا، حيث حاول لاجئان شنق نفسيهما، قبل أن يتدخل المارة لإنقاذهما، وتتكفل مستشفى حكومي بعلاجهما.
باتت أوروبا للمرة الأولى أمام معسكرين متضادين، برؤيتين منفصلتين للصيغة المثلى للأمن الأوروبي في مواجهة أزمة اللاجئين
تداعيات الأزمة قُطريًا: صعود محتمل لليمين الشعبوي في ألمانيا
فبراير 2016، مئة من أنصار حزب بديل ألمانيا وأعضاء الحزب القومي النازي يحاصرون مركبة ضمت 50 لاجئًا. تعلو هتافات «غادروا أراضينا، نحن الشعب»، فزع يملأ المكان، أطفال يرفضون الاستجابة لطلب الشرطة بالنزول من الباص تمهيدًا لإيداعهم دار اللجوء، ضيق الأمن سرعان ما يتُرجم لعنف جسدي، يجذب أحد أفراد الشرطة طفلاً بعنف شديد من رقبته. يُختتم المشهد على وقع صفارات التحية من النازيين للشرطي؛ اعتقادًا بأن العنف المفرط بمثابة إشارة تضامن مع غضبهم.«كلاوسنتس»، لم تكن الأولى في أنشطة اليمين المتطرف ضد اللاجئين. مكتب مكافحة الجريمة سجل أكثر من ألف اعتداء على دور إقامة اللاجئين. عمدة كولن «هنريتيا ريكر» سبق أيضًا وتعرضت لمحاولة اغتيال بطعنها في رقبتها من متطرف نازي يُدعي «فرانك إس». لكن حداثة «كلاوسنتس» مثّلت التطور الأبرز على صعيد انتقال كوادر اليمين الشعبوي من حيز التنظير للعنف (دعوة رئيسة بديل ألمانيا «فراوكه بيتري» الشرطة لإطلاق النار على اللاجئين) إلى حيز الممارسة العلنية في حضور جهات إنفاذ القانون. ليس العنف اللفظي والبدني، رغم ذلك، أكثر ما يزعج السلطات الرسمية.في انتخابات البوندستاج لعام 2013 تمكن حزب بديل ألمانيا من تحقيق نتائج لافتة. حصد ممثلو الحزب 2,056 مليون صوت، مكّنتهم من الوصول لنسبة 4,7%. أقل فقط بثلاثة أعشار من المائة من النسبة القانونية المؤهلة للحصول على مقعد برلماني، والمقدرة بـ 5%، أو ما يُعرف قانونيًا بـ 5% Hürde. بدون قضية اللاجئين نجح الحزب قبل 3 سنوات في اكتساب ثقة قطاع ملحوظ من الناخبين بفضل توجهاته النظرية المناهضة للهجرة وتضاؤل نفوذ المؤسسات التشريعية الوطنية، أمام مؤسسات صنع القرار الأوروبي. إذن ما المدى الذي قد يبلغه الحزب بعد أن وجد في مليون لاجئ تطبيقًا عمليًا لمنتوجه النظري؟.وفقًا لتقديرات ورقة تقييم الأزمة الصادرة عن مؤسسة «هانز زيدل» لـ «جيرهارد هيرشر» بعنوان Die AFD rückt nach Rechts «حزب بديل ألمانيا يتجه نحو اليمين»، يحتل حزب بديل ألمانيا المرتبة الثالثة في قائمة الأحزاب الأكثر شعبية بعد شريكي الائتلاف الحكومي «المسيحي الديمقراطي» و«الديمقراطي الاجتماعي»، بفضل ثقة 15% من كتل الناخبين. أكثر ما يُخشي منه سياسيًا، أن يترجم الحزب الثقة النظرية الواردة من مؤشرات قياس الرأي العام، إلى مقاعد في البلديات والبرلمانات المحلية، قبل أن ينتقل منها إلى مقاعد
قبل أزمة اللاجئين حصل حزب اليمين المتطرف الألماني على أكثر من مليوني صوت انتخابي، ترى كم سيحقق بعد أن أثبتت الأزمة، من وجهة نظر قطاع من الناخبين، صحة وجهة نظره
القمة الأوروبية-التركية: قلب الطاولة
خمسون عامًا مضت منذ أن بدأت تركيا رحلتها لنيل العضوية الأوروبية. بداية من بروتوكول أنقرة عام 1963 الذي نظم انضمام تركيا للتجمع الاقتصادي الأوروبي، مرورًا باتفاقية الاتحاد الجمركي عام 1995، وترشيح تركيا عضوًا محتملًا في العام 1999، وانتهاءً بإعلان بدء المفاوضات الرسمية حول العضوية الكاملة بين أنقرة وبروكسل في 2005. عقد كامل انتظرته تركيا دون وضع سقف زمني لنهاية المفاوضات، أو إشارات تطمينية من برلين وباريس. ألمانيا تحديدًا ظلت محكومة بتخوفات سادت بالأخص يمين الوسط، من تأثير انضمام تركيا على ميزان القوة داخل المؤسسات الأوروبية، وتدفق العمالة، والتركيبة الديموجرافية للاتحاد، ما دفعها لطرح صيغة بديلة تحت مسمى الشراكة المميزة عوضًا عن العضوية الكاملة.وفي حين استمرت المماطلة الأوروبية في مفاوضات العضوية التركية، فتحت بروكسل أبوابها لاستقبال كرواتيا في 2013، وهي التي بدأت مفاوضات العضوية في نفس العام مع تركيا. أكثر من ذلك منحت بروكسل إعفاء من فيزا الشنجن لمواطني 3 دول بلقانية هي صربيا والجبل الأسود ومقدونيا، في يوليو 2009، دون أن تبدأ تلك الدول من الأساس مفاوضات العضوية الأوروبية رسميًا، إذ بدأتها مقدونيا في 29 يونيو 2012، وصربيا في سبتمبر 2013، بينما مقدونيا توقفت فقط عند مرحلة نيل صفة المرشح للعضوية في 2005. مماطلة لم تكن لتنتهي لولا أزمة اللاجئين التي أسفرت عن تغيرات طالت الخطاب الأوروبي والإجراءات على حد سواء. بدأت بتراجع ميركل عن خطابها التقليدي بشراكة مميزة لصالح ترحيب مبدئي بعضوية محتملة لأنقرة، وانتهت في مخرجات القمة الأولى بتحديد سقف زمني لتحرير فيزا الشنجن، وفتح الفصل الـ 17 من فصول مفاوضات العضوية.دخلت تركيا القمة الأوروبية-التركية الثانية أمس وهي تدرك موقعها من الحل الأوروبي لأزمة اللاجئين الذي اكتسب أهمية إضافية بفعل
دخلت تركيا القمة وهي تدرك أن أزمة اللاجئين والخلافات البينية في الاتحاد والضغوط المحلية على ميركل هي أوراق ضغط إستراتيجية لن تتوافر لها مرة أخرى
صحيح أن نجاح المقترح من شأنه تقليص نشاط شبكات التهريب للحد الأدنى، عبر اتباع ممرات شرعية لتقديم اللجوء من أنقرة، إضافة إلى تخفيف العبء عن اليونان كمحطة استقبال أولى، وتخفيف الإجراءات الحمائية على ممر البلقان. لكنه يطرح أيضًا أسئلة أوروبية داخلية في الفترة المقبلة: كيف ستنظم أوروبا استقبال اللاجئين مباشرة من أنقرة؟، ما هي الآلية التي سيتم اتباعها بشأن تحديد حصص التوزيع؟، أوروبا لم تتفق طيلة 6 أشهر على آلية محددة لتوزيع 160 ألف لاجئ داخل حدود الشنجن، هل بمقدور قادتها التوصل في 10 أيام إلى صيغة تحدد التزامات أطرافها بشأن عملية التبادل؟، كيف ستتغلب ألمانيا على تحفظات شرق أوروبا باستقبال بلادهم حصصًا إضافية من اللاجئين؟.
ثانيًا: تحرير الفيزا
وفقًا لتقرير المكتب الاتحادي الألماني لشئون الهجرة واللاجئين لعام 2013، بلغ عدد الأتراك الذين غادروا ألمانيا للاستقرار في تركيا 33,600، مقابل 26,400 تركي غادروا أنقرة للإقامة في برلين. زيادة الهجرة العكسية من برلين إلى أنقرة، وإن حملت دلالات مطمئنة بشأن قدرة الأوضاع الاقتصادية التركية على جذب المواطنين للبقاء، إلا أنها لا تنفي تخوفات أخرى عبر عنها وزير الداخلية الألماني في 6 فبراير الماضي خلال حديثه لراديو RBB بأن ترتفع أعداد اللاجئين لأسباب سياسية بوتيرة متسارعة. يقصد هنا الأكراد الأتراك الذين قدموا في يوليو 2015 فقط قرابة 1600 طلب لجوء في ألمانيا. دي ميزير استشهد بالمثال الصربي للدلالة على ما قد يحدث حال التسرع في تحرير الفيزا مع تركيا، إذ أساء المواطنون الصرب استغلال الامتيازات الأوروبية بتقديم طلبات لجوء بشكل متزايد داخل ألمانيا، ما استلزم جهودًا دبلوماسية استمرت شهورًا لإصلاح الوضع مع بلجراد.
لولا حسن إدارة تركيا لأدوات الضغط، ثم استثمار المفاوضين لتداعيات أزمة اللاجئين على بروكسل، لتحولت أنقرة إلى بيروت أو عمان
في الأخير، سواء أسفرت القمة المقبلة عن تسوية نهائية بنفس الشروط التركية أم لا، ستبقى تركيا العصب الرئيس لأي اقتراب أوروبي شامل في معالجة أزمة اللاجئين. ستبقى أيضًا، مهما كانت بنود التسوية، أكثر دول الجوار السوري تربحًا من ورقة اللاجئين بفضل تصدير الأزمة لأوروبا. ولولا حسن إدارة أدوات الضغط التي وهبتها الجغرافيا لأنقرة، ثم استثمار المفاوضين لتداعيات أزمة اللاجئين على بروكسل، لتحولت أنقرة إلى بيروت أو عمان. ضغط مليوني على البنية التحتية، فزيارات لا تنقطع لمبنى المفوضية طلبًا لتحمل جزء من المسئولية الأخلاقية، فمؤتمرات أممية، وتعهدات بمساعدات مليارية، والحصاد لا شيء يذكر.
- تركيا والاتحاد الأوروبي بين العضوية والشراكة، حسين طلال مقلد، مجلة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، مجلد 26، عدد 2010