طارق

أشرقت الشمس على أعمدة هرقل لترى عجبًا، فلقد بدا البحر مختلفًا عما اعتادت عليه لقرون. وعلى إحدى السفن الكثيرة العابرة للبحر، كان شاب ضخم الجسد، أشقر الشعر، أمازيغي اللسان، هو القائد لكل تلك الجموع العابرة: كان طارق بن زياد[1].

طارق الشاب، والي طنجة الذي خرج من المغرب بخمسة آلاف إلى الشاطئ الآخر، يبغي ضمه لأملاك الخلافة الشاسعة. لربما أحب التذكر بأن آخر قائد عبر هذا البحر قبله كان هانبيال العظيم طامحًا في غزو روما وتدميرها عن بكرة أبيها، فيقطع للروم الجذع والساق، ولكن كانت نتيجة غزوته تلك أن احترقت قرطاجة واحتلت أفريقيا من يومها حتى جاء العرب من بادية الجزيرة يحملون الإسلام ويطردون أبناء بيزنطة.

كان طارق يعلم خطر ما هو مقدم عليه مع جيشه، ويعلم أن قائده موسى بن نصير والي المغرب وأفريقيا خاض المصاعب وساق الحجج والأدلة والتحالفات ليسمح له الخليفة الوليد بذلك العبور، وما كان أمر دمشق بالموافقة إلا بعد أن اختبر موسى الأرض المرة بعد المرة، وبعدما تأكد من صدق حليفهم الكونت يوليان ونقله إياهم على سفنه{2].

إن جيش طارق على قلة أعداده، إلا أنه أول جيش من غير العرب يخرج للفتح في تلك الأصقاع من غرب الأرض، واليوم وبعد ما يربو على الستين عامًا من رفض دين الفاتحين، قد أقبل عليه أهل البلاد من البربر الأمازيغ أحرارًا مختارين وتفانوا في خدمته، فهم اليوم حاملو لواء الإسلام بأنفسهم إلى ما وراء البحر.. إلى الأندلس.

دولة ممزقة

وهناك على الأندلس، كان البركان المنفجر الذي أوشك أن يطيح بحكم القوط وإلى الأبد.

لم يعد القوط كما كانوا حينما غزوا روما مع ملكهم ألاريك[3]، ثم حكموا الأندلس وأبادوا الوندال وأقاموا لهم ملكًا عظيمًا بالنار والدم، ولكن كما هي أحوال الدول، تعاقب عليهم الترف وفساد الملوك حتى قتل الملك الحالي من سبقه واستبد بالأمر دون أبنائه. وما كان لذريق ليختلف كثيرًا في الطغيان عن سابقيه، إلا أنه أضاف إليه التآمر وفساد الذمة، وما فعله مع ابنة الكونت يوليان وهي ضيفته فانتهك شرفها ما هو إلا بعضًا من بطشه على الجميع.

واليوم يعبر إليه يوليان جالبًا العدو إلى عقر داره بعدما اجتاحت سراياهم في جنوب البلاد المرة تلو الأخرى، والآن قد وصلت له الأخبار بنزول قائدهم طارق إلى الصخرة والجبل بعدما عبر أعمدة هرقل بسبعة آلاف يترقب رده. ولكن هل اندلعت الثورة في الشمال صدفة مع وصولهم إلى الجزيرة؟ أيًّا كان الأمر فسير يوليان وحليفه إذن غضبة القوط وصولتهم التي أخضعت روما نفسها يومًا.

واحتشدت الجيوش

لذريق سيقدم عليه في مائة ألف من القوط!

مائة ألف لسبعة آلاف، كيف؟ وما العمل؟ لابد أن يكتب إلى موسى في المغرب ليمده، فقد أتاه لذريق بما لا طاقة له به أبدًا، والهلاك للمسلمين إن لم يصل المدد قبل فوات الأوان.

وهناك على الجانب الآخر من البحر وقف موسى يترقب العواقب، لقد ساقه الطموح والرغبة في نشر الإسلام حتى دفع جنوده في غياهب الأندلس الشاسعة، وبالتالي ما كان ليتأخر عن قائده طارق، فهو قبل أن يدافع عن رجاله ويحفظهم مسئول أمام الخليفة الذي حذره من أن يلقي المسلمين في أرض الهلاك ما وراء البحر، وبهذا فليبعثن إلى طارق بخمسة آلاف رجل، وليأمرنه بوقف تقدمه عند قرطبة حتى يوافيه موسى بغيرهم ويعبر إليه بنفسه.

الزحف إلى المواجهة

على الشاطئ الآخر تكامل جمع طارق في اثني عشر ألف مقاتل هم كل ما لديه أمام القوط وملكهم، وبلغته الأخبار بخروج لذريق في جموعه زاحفًا إليه من طليطلة. وحسن التدبير أن يبادر طارق إليه فلا يترك الرعب ليستبد برجاله من كثرة عدوهم وعدده، خصوصًا بعدما استطاع أن يهزم الطليعة التي كان على رأسها القائد إديكو[4]. وأعانه يوليان ودله على الطرق والمسالك وعورات البلاد، وعند النهر ووادي لكة عسكر طارق وانتظر مقدم جموع القوط الزاحفة.

وأتى القوط بالخيل والحديد والعتاد، كثيرون حتى بدوا للناظر كأنهم فاقوا نجوم السماء عددًا، يمتدون على مد البصر كبحر من الرمال تتربص الدوائر بمن يفكر في خوضها [5]. وعلى رأسهم في عباءات الذهب والجواهر كان لذريق في موكب عظيم وخيول مطهمة واثقًا من النصر فكأنه يخرج للنزهة لا للحرب.

ولما تراءى الجمعان، وأيقنوا أن اللحظة قد اقتربت وعلى هذه الأرض سيتقرر المصير واستعد كل منهم للحرب، هناك أمام النهر سيكتب التاريخ نهاية دولة وبداية أمة أخرى.

وادي لكة

صباح 28 رمضان 92 هـ الموافق 17 يوليو/ تموز 711م

قد توسطت الشمس كبد السماء وأرسلت نيرانها على الفريقين واشتد حرها، فكان رمضان اسمًا على مسمى، وعلى مدار ثلاثة أيام متوالية كانت المناوشات بين الطرفين كأن كلاً منهما قد خاف من الآخر فاكتفى بأن يترقب خطوات خصمه ويرد عليه.

ولكن في صباح اليوم الرابع التحمت الجيوش وتصارعت الخيل وعلت الأشلاء وأنهار الدماء، وإن اشتد القتال فما كان الفريقان سواء قط، فجيش القوط أهلكته الكراهية والسخط من عامة الجند من الأقنان والفلاحين والعبيد على سادتهم وأمرائهم، ومن الأمراء على مَلكهم، ومن الملك على رجاله، ورغم الغضب فقد تماسك القوط وصمدوا للقتال في الالتحام واستمر الاشتباك لليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، حتى أشرقت شمس ثامن أيام القتال على الفريقين وهنا بدأت الخطة تؤتي ثمارها.

إن لذريق لم يتولّ إلا بالانقلاب على ملكه وقتله، وما رضي به أمراؤه إلا عن غضب وحقد في النفوس [6]، والآن بعد ثمانية أيام من القتال ظهر خوار عزمه وقلة حيلته مع جيش يبلغ عُشر أعداده، جيش من البربر الذين احتلهم الرومان والوندال وبيزنطة وما استطاعوا لهم دفعًا، ولكنهم اليوم يستبسلون كأنهم عشرات الألوف، فإلى متى الوقوف مع المغتصب للعرش؟

وفجأة تغير مسار الحرب كلها، فقد اختلت الميمنة والميسرة لجيش القوط، وصدر أمر مفاجئ من القائدين إيفا وسيزبوث على الميمنة والميسرة بالانسحاب، فاختل النظام كله واندفعت جموع طارق لتستغل الفرصة فصنعت ثغرتها وهربت جموع القوط لا تلوي على شيء، وكذلك مَلكهم الذي اختفى من مجرى الزمن فلم يعثر له أحد على أثر قط!

الفتح

وفي اليوم الثامن من وادي لكة، سطر التاريخ صفحته الجديدة، فقد انكسرت شوكة القوط إلى الأبد، وقسم طارق جيوشه إلى كل مكان في البلاد، فكانت المدن تسقط تباعًا كحبات اللؤلؤ المنثور، فهذا مغيث يدخل قرطبة الحصينة بثمانمائة فقط، ولما فتحت طليطلة أبوابها بالصلح للشاب الأشقر القادم من أفريقيا بدا أن الأندلس قد أنهت عهدًا قديمًا من الاحتلال كانت فيه دولة، وبدأت بعهد آخر ترسم خطواته وقواعده حتى تصير فيه أمة عظيمة وحضارة لا يشق لها غبار.

المراجع
  1. الإمامة والسياسة – الدينوري
  2. فتوح مصر وأخبارها – ابن عبد الحكم
  3. الكامل في التاريخ – ابن الأثير
  4. دولة الإسلام في الأندلس – محمد عبد الله عنان
  5. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب – المقري التلمساني
  6. الأندلس: بحثًا عن الهوية الغائبة – خوليو رييس روبيو المجريطي

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.