لم يترك الحراك الفكري، الذي شهدته الدولة الإسلامية عبر كثير من فتراتها، أثره على المسلمين فقط، وإنما امتد إلى غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى، ومنهم اليهود، وهذا ما ظهر في أكثر من منحى، منه تفسير التوراة بمناهج إسلامية، ونقل بعض طقوس العبادة من الإسلام، وكذلك بعض مظاهر الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث.

ويذكر الدكتور عبدالرازق أحمد قنديل، في كتابه «الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي»، أن هناك من يرى أن اليهودية أثّرت في الإسلام، استنادًا إلى نظرية يعتقدها البعض بتأثير السابق في اللاحق بصفة مطردة، لكن ذلك الأمر يدحضه الواقع الفعلي ويقرره علم الاجتماع، فمتى التقت حضارتان لأمة غالبة وأخرى مغلوبة، يكون التقليد من الأمة المغلوبة لأن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب.

الاحتكاك الفكري بين المسلمين واليهود

من هذا المنطلق ومع الفتح العربي الإسلامي لبلاد كثيرة كان يقيم فيها اليهود، يمكن معرفة كيفية تأثير الإسلام والثقافة الإسلامية في اليهود، من خلال استخدامهم للمناهج العربية والإسلامية في كثير من المناحي، سواء كان ذلك في الفكر والأدب أو في العبادات أو اللغة العبرية.

وبحسب قنديل، بدأ أول احتكاك بين اليهود والمسلمين فكريًا وثقافيًا منذ فتح المسلمين العراق في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبعد أن قام المسلمون بتأمين هؤلاء اليهود في معاقلهم الممثلة في مدينتي سورا وبومباديثا في ذلك الوقت، حيث أقيمت هناك أعلى المدارس الدينية اليهودية التي تكاد تشرف على جميع ما يتعلق بشؤونهم الدينية، وكان يرأسها حبر على درجة كبيرة من الثقافة الدينية يسمى «جاؤونا».

وفتح المسلمون هذه البلاد، واستمروا فيها، ونشروا هناك سماحة الإسلام في جميع المجالات، خاصة مع اليهود، حتى أنه سُمح لهم بارتياد المساجد، وحضور الكتاتيب الإسلامية.

وكان لابد لهذه المعاملة الكريمة التي عومل بها اليهود أن تؤتي ثمارها، فبدأ اليهود يندمجون مع المسلمين ويتعايشون معهم في أمن واحترام، وتُركت لهم حرية العقيدة، وبرز منهم علماء في مجال الفكرين الديني واللغوي، وكان أبرزهم خلال العصر العباسي سعديا الفيومي (882-942م)، والذي كان لترجمته التوراة من العبرية إلى العربية وشرحه أسفارها من الأمور التي نهضت به ورفعته، خاصة أنه قام بشرح الغريب من الألفاظ، وكان ذلك من الأمور المستحدثة في اليهودية وقتها، خاصة أنه اعتمد في ذلك على المناهج الإسلامية.

المناهج الإسلامية في تفسير التوراة

في تفسيره لأسفار موسى الخمسة، أو غيرها من الأسفار، سنّ سعديا الفيومي سُنة جديدة على الفكر الديني اليهودي، وفي مجال التفسير بصفة خاصة، وهي كتابة مقدمات مطولة لتفاسيره للأسفار التي ترجمها وشرحها، معتمدًا في ذلك على النقل من السلف بما لا يتعارض مع العقل، أو على حد تعبيره «الاعتماد على العقل والنقل». حسب ما ذكر قنديل.

وشرح سعديا في هذه المقدمات موضوع السفر الذي يترجمه وفكرته الأساسية، ومعناه وغرضه من الشرح، ثم يستمر إلى أن يصل إلى الهدف الذي يريد أن يضمنه تفسيره، كما في فكرة العدل الإلهي في تفسيره لسفر أيوب، أو مقارنته بين طلب الحكمة وطلب المتع والثروات الزائلة، كما في تفسيره للأمثال، الذي أطلق عليه اسمًا آخر هو «كتاب طلب الحكمة»، وتلك كانت عادته في إطلاق أسماء عربية على الأسفار مستمدة من فهمه لمضمون كل سفر.

ويذكر قنديل، أن طريقة النقل والعقل التي اتبعها سعديا في شرحه وتفسيره تقابل عند المسلمين ما يسمى بـ«التفسير بالمأثور»، وهو منهج كان يمثله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (838-923م)، والذي يعد شيخ المفسرين بالمأثور في الإسلام.

ولم يقتصر تأثر سعديا الفيومي بالطبري على ذلك، فقد كان مثله في ما يتعلق بمعارضة فكرة التجسيم والتشبيه، ولكن في التوراة، فقد كانت ترجمته العربية خالية من الصفات والتشبيهات، حيث تخلص فيها من التجسيم والتشبيه وخلع الصفات البشرية على الله، ومن ذلك قوله في تكوين 1: 26: «وقال الله نصنع إنسانًا بصورتنا يشبهنا مسلطًا…»، وقصد سعديا من شرحه هنا أن الله سبحانه سيخلق إنسانًا على هيئته في الحكم والقيادة.

كما تأثر سعديا بمنهج المفسرين المسلمين، خاصة عبدالله بن عباس، الذي كان يقضي بتتبع أصول الغريب من ألفاظ القرآن بوسائلهم المختلفة، فأنشأ منهجًا بنفس الأسلوب الذي سبقه إليه المسلمون، ففي خلال شرحه لنص العهد القديم وجد ألفاظُا لم يتكرر ورودها، ولا يُعرف لها أصل معين، فجمعها وأحصاها في كتابه المسمى «تفسير السبعين لفظة المفردة»، وأخذ في شرحها عن طريق تتبع أصولها بالمقارنة بينها وبين اللغتين الآرامية والعربية.

وكما اعتبر المسلمون ابن عباس أول من نبه إلى الدراسات اللغوية المقارنة في الإسلام بشرحه غريبه ومُشكله، كذلك اعتبر اليهود سعديا الفيومي في كتابه «تفسير السبعين لفظة مفردة» مؤسس علم فقه اللغة المقارن، ذكر قنديل.

تأثير الفرق الكلامية الإسلامية

أيضًا تأثر سعديا الفيومي بالحركة العلمية والثقافية للمسلمين في العصر العباسي، حيث اطلع على ما كان فيها من مختلف الاتجاهات الدينية، ورأى ما كان يحدث بين الفرق الإسلامية من مجالات ومحاورات حول المسائل الدينية والفقهية، وبصفة خاصة تلك المجادلات المستمرة بين أهل السنة والمعتزلة.

وكل ذلك جعله يتأثر بهذا الحوار، وظهر ذلك في أعماله فقد «طبّق معطيات العقل على النص، وعلى الأخص إذا ما كان المعني الحرفي يتعارض مع العقل، فكان سعديا يأتي بالمعنى الباطن للكلمة أو الفقرة»، وهذا ما ظهر في كتابه «الأمانات والاعتقادات». بحسب قنديل.

واستخدم سعديا هذه الآراء بصورة جعلت الباحثين اليهود في العصر الحديث يقولون عنه «نحن مدينون لسعديا في التمييز بين أوامر التوراة تلك التي يحكمها العقل، وتلك التي جاءت عن طريق الوحي.. على أن مبعثه المتكلمون، وهم طائفة من علماء المسلمين»، ذكر قنديل.

أركان اليهودية على نسق إسلامي

وامتد التأثير الإسلامي إلى موسى بن الميمون (1138-1204)، منظم اليهودية وواضع أركانها، وظهر ذلك في كل أعماله، خاصة في كتابه الأساسي «دلالة الحائرين»، الذي وصفه الشيخ مصطفى عبدالرازق بأنه عمل في الفلسفة الإسلامية، حيث وصلت درجة التأثير الإسلامي على ابن الميمون في هذا العمل درجة تجعل القارئ لا يشعر بأن كاتب هذا العمل يهودي، بحسب الدكتور محمد خليفة حسن، في تقديمه لكتاب ترجمه أحمد محمود هويدي، للمستشرق اليهودي موشيه مردخاي تسوكر بعنوان «التأثير الإسلامي في التفاسير اليهودية الوسيطة».

ويعود إلى موسى بن ميمون تنظيم أركان الدين اليهودي في شكلها الأخير، من خلال ما يُعرف بالمبادئ الثلاثة عشر، والتي صاغها على طراز أركان الإيمان في الإسلام.

وامتد هذا التأثير أيضًا إلى شخصية دينية مهمة أخرى من طائفة الربانيين، وهو الرابي صموئيل بن حفني، وهو أحد كبار المفسرين اليهود الذين تأثروا بفكر المعتزلة في فهمهم لليهودية وفي تفسيرهم لأسفارهم.

تأثير الإسلام على طقوس العبادة اليهودية

اعترف كثير من المستشرقين اليهود بتأثير الإسلام في مسار ديانتهم، ومنهم نفتالي فيدر في كتابه «التأثيرات الإسلامية في العبادة اليهودية»، وترجمه للعربية الدكتور محمد سالم الجرح.

وذكر فيدر، أن الديانة اليهودية تأثرت تأثرًا عظيمًا بالبيئة الإسلامية، فقد أدت التيارات الروحية التي غمرت هذه البيئة طوال مئات من السنين إلى ثورة في الحياة الروحية لليهود المقيمين في الأصقاع العربية، إذ إن المسائل الدينية التي قتلتها المدارس الإسلامية بحثًا عرفت طريقها إلى مدارس أحياء اليهود.

وعظم هذا التأثير أولًا وقبل كل شيء في ميدان الفكر الديني والنظر الفلسفي، حيث شعرت المراكز الثقافية اليهودية بالحاجة إلى حل المشكلات الدينية الفلسفية التي صارت موضع نقاش وبحث، وبسبب ما وقع فيها من تضارب في الآراء بين الفرق الإسلامية المختلفة.

ومن الناحية الشكلية، اتخذ اليهود لأنفسهم مناهج العرب العلمية في فروع الدين والأخلاقيات والنحو وتفسير الكتاب المقدس، بحسب فيدر.

وفي ميدان الشريعة، فإن كتاب «تثنية التوراة» الذي وضعه موسى بن ميمون «الذي يبهرنا ببنائه وترتيبه ليس سوى ترتيب لمواد الشريعة الضخمة، وفقًا للنظام الذي وضعه علماء الفقه المسلمون»، ذكر فيدر.

وتغلغل هذا التأثير أيضًا إلى قلب العمل الديني والعبادة الدينية، كما ظهر في شعائر الصلاة في الكنيس، وهذه الظاهرة تنطوي على تجديد زائد، ويشرح فيدر ذلك بقوله، إن اليهودية منذ القدم أشادت حول حدود العمل الديني سورًا عاليًا كي تمنع تسلل التيارات والمؤثرات الخارجية، باعتبار أن العقيدة الكامنة في وصايا التوراة هي «لا تقلدوا عادات الأمم»، لكن ذلك لم يمنع من تسلل مؤثرات من قبل المسلمين.

وظهرت هذه المؤثرات من خلال محورين، الأول استيعاب عادات تخص العبادة لا أساس لها في التقاليد اليهودية، منها عادة غسل القدمين قبل الصلاة، حيث أكد فيدر أن هذه العادة ليس لها أساس في الشريعة التلمودية، كما أنها لم تكن موجودة بين يهود الأقطار الشرقية، بل مأخوذة من العبادة الإسلامية.

ويذهب فيدر إلى أبعد من ذلك، ويذكر «مما يدل على عمق هذا التأثير أن تطهير الرجلين لم يكن وحده هو الذي صادف هوى وقبولًا بين اليهود، بل اقتبسوا سائر أركان الوضوء، نحو غسل الذراعين، وما وراء الأذنين، ومسح الرأس، والاستنشاق».

وأخذها اليهود عن المسلمين أيضًا عادة اغتسال المجانب، أي التطهر، وليس لها ما يثبتها في التعاليم التلمودية، وإنما يدقق عليها الإسلام، ويقول فيدر «كل هذا يشير إلى مدى تغلغل هذا التأثير الأجنبي – يقصد التأثير الإسلامي طبعًا – وبدافع من هذا التأثير لم يأخذ اليهود على عاتقهم أن يغتسلوا في حالة ما وجد الماء فحسب، بل أصبح الاغتسال بعد ذلك شرطًا تبطل الصلاة بدونه».

أما المحور الثاني، فيتمثل بإحياء عادات قديمة اندثرت عند اليهود، بعدما هجرها بدافع العزلة والابتعاد عن النصرانية، ثم ارتدت ثانية إلى اليهودية من خلال إصلاحات أدخلها الربانيون بتأثير من البيئة الإسلامية، ومن أهمها الأنظمة التي أسسها الحبر إبراهيم الميموني، وهي السجود والجلوس على هيئة البارك، واستقبال القبلة وقت الجلوس، ووقوف المصلين في صفوف، وبسط اليدين. ويذكر فيدر، أن الحبر إبراهيم الميموني لم ير نفسه مصلحًا بل باعثًا لعادات قديمة.

قضايا الأحوال الشخصية

ولعل أبرز مجالات التأثير الإسلامي كان على الطائفة القرائية في ما يتعلق برؤيتها للأحوال الشخصية، وما تتضمنه من قضايا الزواج والطلاق والتعدد والميراث، حسب ما ذكر الدكتور محمد جلاء إدريس في كتابه «التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي».

وينظر القراؤون للزواج نظرة خاصة، فهو في رأي علمائهم فرض أو واجب ما دام مقدورًا عليه، وتركه معصية ومفسدة، ثم وجه القراؤون جُل اهتمامهم لهذه القضية وقننوها.

وحدد الربانيون ارتباط الرجل بالمرأة بثلاثة أشياء، هي المال والوثيقة والجماع، بينما يرى القراؤون أن الارتباط يتم بالمهر والوثيقة والقبول، وإن أضاف بعض فقهائهم شروطًا أخرى، ومن هذه الشروط مثلًا الإشهاد على الزواج، وهو شرط أقره فقهاء المسلمين أيضًا لصحة الزواج، وإن اختلفوا حول اعتبار الإشهاد شرطًا أم ركنًا.

والجديد في موقف القرائين هو اشتراط فقهائهم «القبول»، وهو الأمر الذي لم يذكر في الفقه الرباني الخاص بالزواج، ويعني القراؤون بالقبول قبول الرجل والمرأة للزواج.

وبحسب إدريس، فإن القبول في الفقه الإسلامي ركن من أركان الزواج، وقد اشترطه الشافعية والحنابلة، ثم يمكن القول إن هذا الشرط الذي حدده القراؤون لإتمام الزواج انتقل إليهم من الفقه الإسلامي حيث لا يوجد أصل يهودي له.

ويقود ذلك إلى مسألة أخرى هي «الولي» بالنسبة للمرأة، والتي انتقلت من الإسلام إلى اليهودية، فالولي في النكاح هو الذي تتوقف عليه صحة العقد، ولا يصح بدونه، وهو في الإسلام الأب، أو وصيه، والقريب العاصب، والمُعتق، والسلطان، والمالك، بينما لم يشر القراؤون إلى الأب فقط، وفي حال عدم وجوده يُنتظر حتى تبلغ الصغيرة، مع اعترافهم بأن الوضع الراهن يخالف ذلك ويجعل من الأقارب والأم يقومون مقام الولي.

وأمر الصغيرة عند القرائين بيد أبيها – الولي –، وهي كذلك عند فقهاء المسلمين، والمالكية خاصة، وعقد البالغة بلا رضا أبيها باطل كما يراه القراؤون، وهذا ما ورد في الحديث الشريف وكرره النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حيث قال: «فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل».

وإذا القراؤون يرون أن البالغة بدون أب مالكة أمر نفسها، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف، يريان أن المرأة العاقلة البالغة لها الحق في مباشرة العقد بنفسها بكرًا كانت أم ثيبًا، ويُستحب لها أن تكل عقد زواجها لوليها.

أما الربانيون فيرون أن الفتاة غير ملزمة باتباع رأي أبيها، وإن شهد التاريخ اليهودي سيطرة الأب المطلقة في تزويج ابنته، خاصة في عصور السيطرة الأجنبية، وذلك خشية إرغام الأجانب للأب على الزواج من بناته.

شروط تعدد الزوجات

ولعل من أبرز القضايا التي خالف فيها القراؤون إخوانهم الربانيين بتأثير إسلامي واضح، مع عدم وجود ما يناقضه في التوراة، قضية التعددية، ويشرح إدريس، أن التعدد موجود في التوراة ونصوصه، ومارسه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء، واستمر تعدد الزوجات ساري المفعول خلال التاريخ اليهودي، إلى أن أبطله الربانيون وفقًا لأهوائهم في فترات لاحقة.

إذًا ، فالربانيون أبطلوا مفعول التعددية وفقًا لأهوائهم، لكن القرائين عادوا إليه واشترطوا ما اشترطه الإسلام من العدل بين الزوجات.

ويبدو أن تاثيرًا إسلاميًا كبيرًا تسرب إلى الفكر القرائي فيما يتعلق بأمور الطلاق، مما جعل التباين شديدًا بين الفقه الرباني والفقه القرائي، وهذا ما ظهر في أكثر من نقطة، منها إعطاء القرائين الحق في طلب الطلاق للمرأة، وهذا معروف في الفقه الإسلامي باسم «الخُلع»، وهو أمر ليس له أصل توراتي، وقد أرجعته المصادر اليهودية إلى التغييرات التي طرأت على هذه الطائفة بتأثير الإسلام، ذكر إدريس.

ويرى القراؤون عدم التعجيل في الطلاق بغية الوفاق، وهذا ما دعا إليه القرآن بوضوح عن طريق الحكمين، لقوله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾.

أما اشتراط القرائين حين الطلاق أن يكون الزوجان بعقلهما وصحوهما وحرية إرادتهما، فقد اتفق علماء المسلمين على وقوع الطلاق من الزوج العاقل البالغ المختار، فمن فقد شرطًا من هذه الشروط لم يقع طلاقه، وقد استفاض العلماء في شرح نماذج ممن لا يقع طلاقهم كالمجنون أو الغضبان أو السكران أو المغلوب على أمره.

ضوابط الميراث والهبة

كما أخذ القراؤون من الشرع الإسلامي قوانين وأسسًا تتعلق بالميراث، وبحسب إدريس، فإن الشريعة التوراتية تقضي بحجب الميراث عن البنت وتخصيصه كله للولد، لكن القرائين لم يرق لهم ذلك على ما يبدو، ورأوا أن من العدل والإنصاف أن يُخصص لها الثلث، أي أن الولد يأخذ سهمين وهي واحد، وهي أمور جاء بها الشرع الإسلامي، وليس هناك دليل واحد على وجود ما يشابهها في الشرائع اليهودية.

وفي أحوال الهبة والوقف، قال القراؤون – دون دليل توراتي – إنه ليس للموروث أن يتصرف في الكل منعًا من حرمانه، وقدّر العلماء حد التصرف بالثلث، وقالوا أيضًا إن «الهبة أو الوقف في حال الصحة نافذ في الثُلث، أما في حال مرض الموت، فالتصرف ممنوع ما لم يكن نظير منفعة من الموهوب له أو قيامًا بنذؤ قبل المرض، أو تكفيرًا لسيئة».

ويذكر إدريس، أن الهبة في الفقه الإسلامي لها أركان، وهي الواهب والموهوب له والهبة، وقد اتفق العلماء على أن يكون الواهب وقت الهبة في حال الصحة وحال إطلاق اليد، وذهب الجمهور إلى عدم نفاذ الهبة في حالة الأمراض المخوفة، أي التي يخاف أن تكون سببًا في الموت، كما قالوا بأن تكون الهبة أو الوصية في إطار ثُلث ما يمكله الواهب، ما يشير إلى أن القرائين أخذوا عن الفقه الإسلامي ما اشترطه من نفاذ الهبة في الثُلث فقط، وعدم نفاذها في حالة المرض المخوف.