في الخامس من يونيو استيقظ الشعب المصري على كابوسٍ مروّع؛ الطائرات الإسرائيلية تقصف المطارات الحربية وتُحطِّم الطائرات المُقاتلة.. وتُنهي معها كل الأحلام التي وعد بها عبدالناصر الأمة العربية بأسرها.

بدأت حُمى المعارك بتصريحات رنّانة تتوعد إسرائيل بالإلقاء في البحر، وانتهت بضياع سيناء ودمار تام في صفوف الجيش حتى بات عاجزًا عن الدفاع عن القاهرة.

على الرغم من هذه الهزيمة الساحقة فإن الجيش المصري كان قادرًا على خوض معركة ضارية بعد 6 سنواتٍ فقط في أكتوبر 1973م لولاها لما تمكنت مصر من استعادة سيناء. فكيف جرى ذلك؟

أو بمعنى آخر: كيف تمكّن الجيش المصري من استعادة توازنه وإعادة بناء نفسه خلال تلك المدة حتى بات قادرًا على الصمود أمام أكبر جيشٍ عرفته المنطقة؟

الإجابة المُثلى على ذلك لن نجدها إلا عند الفريق محمد فوزي أول قائد للجيش عقب الإطاحة بعبدالحكيم عامر وزُمرته.

وطيلة 3 سنوات -هي مُدة قيادته للجيش- بذل فوزي جهودًا مُضنية أشرف فيها على كل صغيرة وكبيرة في عملية إعادة البناء وتغيير ثقافة العسكرية المصرية حتى وصلت إلى مستوى لائق تجلى خلال معارك أكتوبر.

شاهد على النكسة

في مذكراته، يكشف فوزي عن مفاجأة كبرى، وهي أن المشير عامر تراجع عن قراره المرتجل للقوات المصرية بالانسحاب الكامل من سيناء، وفي يوم 8 يونيو قرر الاكتفاء بانسحاب جزئي والتمسك بمنطقة المضايق.

كلّف المشير فوزي بالسفر إلى الإسماعيلية، حيث قابل قادة منطقة القناة وأخبرهم بتعليمات المشير الجديدة.

رفض كافة القادة تنفيذ أوامر المشير بدعوى أنه طالما لا يوجد طيران للتغطية فلا مفر من ترك سيناء كلها.

يحكي فوزي: في طريق عودتي إلى القاهرة، شاهدت جنوب البحيرات حادثًا نطق وحده بالحقيقة المُرة التي وُضعت فيها قواتنا وهي «عدم الرغبة في القتال»، شاهدت خمس دبابات جديدة «ت55» على الجانب الشرقي للقناة، متروكة من دون أطقم، بعدما تخلّى عنها الجنود وعبروا القناة سباحة.

لم ينتهِ هذا اليوم المشئوم إلا بسقوط سيناء والضفة الغربية في أيدي إسرائيل. وعقب عودته من سيناء قابل فوزي شمس بدران، وكان أول مَن أنبأه باستقالة قادة جميع الأسلحة، وأن فوزي سيتولّى قيادة الجيش بدلاً من المشير.

قائد الجيش الجديد

يحكي فوزي، أنه طوال يومي 9 و10 يونيو شعر بالضياع النفسي طوال وجوده داخل مقر قيادة القوات المسلحة.

يقول: كانت مصر بلا قيادة، فالقيادة السياسية غير قائمة بإعلان جمال عبدالناصر عن قراره التنحي، والقيادة العسكرية العليا أيضًا غير موجودة باعتزال المشير عبدالحكيم عامر وشمس بدران في منزليهما.

ورغم هذه الأجواء حالكة السواد وضع فوزي لنفسه أجندة مهام عاجلة تحرّك سريعًا لتنفيذها؛ ملأ كافة القيادات العسكرية الفارغة بضباط يثق في كفاءتهم ليضمن سيطرته السريعة على كافة وحدات القوات المسلحة، كما أمر بترميم ممرات المطارات التي تعرضت للقصف الإسرائيلي، حتى تكون جاهزة لاستقبال حمولات الأسلحة الضخمة التي أبدى الاتحاد السوفيتي استعداده لإرسالها إلى مصر.

وفي هذه الأثناء، نظم الشعب المصري مظاهرات حاشدة أجبرت عبدالناصر على العودة إلى الحكم، وكان أول قرار اتخذه هو تعيين فوزي قائدًا للقوات المسلحة.

لم يقبل أنصار المشير عامر بهذا القرار، فنظمت مجموعات من الضباط والجنود مظاهرات داخل مقر قيادة الجيش تُطالب بعودة المشير مُجددًا إلى الحُكم.

وعندما هدد الفريق فوزي بإحالتهم إلى محكمة عسكرية، رحلوا إلى منزل المشير حيث رابطوا هناك بأسلحتهم وذخائرهم.

في نفس اليوم التقى عبدالناصر بفوزي، واتفق الاثنان على ضرورة التخلص من كافة رجال عامر في الجيش، كما طلب عبدالناصر تعيين عبدالمنعم رياض رئيسًا لأركان الجيش وألا تزيد فترة إعادة بناء القوات المسلحة على 3 سنوات.

القضاء على عامر

حوّل الضباط منزل المشير المهزوم إلى ثكنة عسكرية، وبدأ أنصاره في توزيع بيانات ضد عبدالناصر داخل صفوف الجيش، بل هدّد شمس بدران عبدالناصر بأنه يستطيع تدبير انقلابٍ عسكري ضده، وأن البلد في صف عامر لا ناصر.

هنا، أوعز ناصر لفوزي بضرروة إنهاء بؤرة التمرّد تلك، وهي المهمة الأولى التي نجح فيها بشدة؛ إذ اقتحم بيت عامر وقبض على كلِّ من فيه وأودعهم السجن الحربي. وبحسب شهادته، فلقد تقرّر سجن عامر داخل استراحة خاصة في المريوطية، لكنه استطاع مباغتة الحرّاس والانتحار بمادة سامّة.

يقول فوزي: بوفاة المشير محمد عبدالحكيم عامر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومحاكمة أعوانه المقربين إليه ممن اشتركوا في مؤامرة الاستيلاء على السلطة في مصر زالت أكبر مراكز قوى منذ قيام الثورة، كما انتهت البيروقراطية في القوات المسلحة المصرية، ولكن بعد أن فقدت كيانها وهيبتها في معركة عسكرية خاسرة.

مساعدات الأصدقاء

كانت الجزائر هي أسرع دولة تحركت لدعم مصر، فأرسلت إلى القاهرة 40 مقاتلة «ميج 17» على دفعات متتالية بدأت من يوم 7 يونيو.

فيما لم يقف الاتحاد السوفياتي متفرجًا، وقدّم لمصر دعمًا سخيًا وسريعًا كشف الفريق فوزي جزءًا منه في مذكراته، فحكى عن أفواج الطائرات «تي 22» العملاقة التي قامت بـ544 رحلة جوية زودت مصر بآلاف الأطنان من الأسلحة والمعدات العسكرية تعويضًا عن خسائرها في الحرب، ولم تطلب موسكو ثمنًا لها.

كما استضافت الأساطيل السوفياتية في البحر المتوسط تدريبات مُشتركة مع الوحدات البحرية المصرية، ولعبت الخبرة الحربية السوفياتية دورًا كبيرًا في تأمين العُمق المصري، بعدما ساعد وفد عسكري روسي مصر على سُرعة الانتهاء من إنشاء أول خط دفاعي غرب قناة السويس في نوفمبر 1967م.

وبهذا الخط زال التهديد الجسيم الذي عاشته القيادات المصرية منذ نكسة يونيو من عدم قُدرتها على التصدي لأي محاولة إسرائيلية لعبور قناة السويس واحتلال القاهرة.

وكان هذا الوفد السوفياتي نواة لـ1200 مستشار عسكري سوفياتي استعانت بهم القوات المسلحة في عملية إعادة البناء.

عملية إعادة البناء

بعد تعيين الفريق عبدالمنعم رياض رئيسًا لهيئة أركان القوات المسلحة جرى سريعًا تنصيب قادة جُدد لكافة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، الذين كُلفوا جميعًا بإعادة تنظيم شاملة للجيش المصري من الداخل.

ولأول مرة في تاريخ العسكرية المصرية، تم توحيد قيادة القوات متمثلة في إدارة واحدة يقودها القائد العام ورئيس الأركان معًا.

حوّل الفريق فوزي جلسته الأولى مع الرئيس عبدالناصر إلى خطوط عامة إلى رؤية شاملة لتطوير القوات المسلحة. لم تتوقف هذه الخطة على تجنيد أكبر قدرٍ من الأفراد وحيازة أطنان من الأسلحة، وإنما تبنّى فوزي فلسفة تقوم على رفع كفاءة الجندي المصري إلى أكبر درجة ممكنة.

ولهذا أجرى فوزي تغييرًا جوهريًا في فلسفة التجنيد المصرية، فبعدما كانت لا تهتم بضمِّ حملة المؤهلات العليا بادر إلى التوسع في تجنيدهم ليرفع نسبتهم في الجيش من 7% قبل نكسة يونيو إلى 93% بعدها، كما اهتم بإنشاء المعاهد التي اهتمت برفع كفاءة الجنود وتسريع عملية إتقانهم لاستخدام أسلحتهم.

علاوة على إقامة 4 معاهد لتدريب الطيارين رفعت قُدرة الجيش المصري على إنتاج 300- 400 طيار سنويًا بدلاً من 50 طيارًا قبل النكسة.

يقول فوزي: كانت قُدرة القوات المسلحة على استيعاب استخدام الأسلحة الحديثة في وقتٍ قصير دعوة حقيقية للاتحاد السوفياتي للاستجابة إلى المزيد من طلبات التسليح الضخمة التي كانت القيادة المصرية تُسارع في طلبها.

وكخطوة لتلافي أخطاء المشير عامر القاتلة في عدم الاهتمام بتدريب القوات المسلحة أخطر فوزي قادة الوحدات العسكرية أن تدريب جنودهم هو واجبهم الأول في وحداتهم، واجب يجب تقديمه على أي مهمة أخرى ولو كانت دعوة للقاء قائد الجيش.

خطة التحرير

وُضعت الخطة 200، التي بدأت التشكيلات المصرية في التدرب عليها في أماكن تقع غرب القاهرة، وتُشبه في تضاريسها منطقة قناة السويس وسيناء.

ومن أجل ضمان استيعاب كافة الوحدات لعناصر الخطة جرى تكثيف المشاريع القتالية المشتركة بين مختلف الأسلحة، فأصبحت تُجرى 400 مرة سنويًا لكل فرقة بعدما كانت تُقام 80 مرة فقط على مستوى الكتيبة قبل 1967.

وبلغ إتقان الوحدات المصرية لخطة العبور درجة أن الجنود كانوا يجرون تدريباتهم معصوبي الأعين.

ولاحقًا قرّرت القيادة المصرية إكساب أفرادها خبرة واقعية عن قواعد الاشتباك مع العدو، فأصدرت تعليماتها بتصعيد هجماتها الميدانية وروّجت بينهم شعار «اقتل الإسرائيلي أينما وُجِد»، ورُصدت مكافأة لكل جندي مصري يقتل جنديًّا إسرائيليًّا.

سريعًا بدأت الاشتباكات مع العدو، ففي أكتوبر 1967 نجحت 3 لنشات مصرية في إغراق المدمرة إيلات، أكبر قطعة بحرية في الأسطول الإسرائيلي، فردّت إسرائيل بمحاولة لتدمير السد العالي وقناطر نجع حمادي، وهو ما نبّه القيادة المصرية إلى ضرورة بناء شبكة إنذار جوي كاملة على كافة حدود مصر.

كما تم إنشاء ما عُرف بـ«منظمات الدفاع الشعبي»، وهي مجموعات من المدنيين تم تزويدهم بالأسلحة والذخيرة لردع أي محاولة اختراق إسرائيلية للعُمق المصري.

وكانت سنة 1969م، هي سنة السعد على العسكرية المصرية بعدما نجحت فرقة عسكرية في أسر لضابط «دان أفيدان»، وكان أول ضابط تأسره مصر منذ عام 1948م.

ولم ينتهِ هذا العام إلا بتحقيق قوة عسكرية انتصارًا رمزيًا مهمًا بعدما احتلّت موقعًا أمنيًا إسرائيليًا ورفعت فوقه العلم المصري، كانت مؤشرًا على أن عملية إعادة البناء تسير في الطريق الصحيح.

كان أول موقع عسكري في شرق القناة يرفع العلم المصري منذ عام 1967م.

توقف مفاجئ للمسيرة

كان فوزي من ضمن مراكز القوى الذين خططوا للإطاحة بالسادات في مايو 1971م. جرى على فوزي ما جرى لغيره فاعتُقل وحُكم عليه بالأشغال المؤبدة بتهمة التآمر على الحُكم، وبعدها بـ3 سنواتٍ صدر قرارٌ بالإفراج عنه. ليعيش بعدها فوزي في الظل حتى لحظة وفاته في عهد الرئيس مبارك عام 2000م.

بعدها عيّن السادات محمد صادق وزيرًا للحربية بدلاً من فوزي. لم يطل بقاء صادق في منصبه بسبب خلافاته المتنامية مع السادات، فسرعان ما استبدله به أحمد إسماعيل علي وهو وزير الحربية الذي خاضت مصر الحرب تحت إمرته.