انتهى أخيرًا سباق الوطنية، أو كأس الأمم الأفريقية، في نسختها لعام 2019 بتتويج مستحق للمنتخب الجزائري على حساب نظيره السنغالي. لينهي محاربو الصحراء انتظارًا دام لـ 29 عامًا، ويحرزوا لقبهم الثاني، تاركين السنغال برصيد صفر من الألقاب. وبعد تجاوز التهنئة والأجواء الاحتفالية، فذلك النهائي كان واحدًا من أسوأ ما قدمته بطولات أفريقيا فيما مضى وفيما سيأتى.

بات من الواضح أن النهائيات الرديئة أصبحت موضة العصر الكروي الجديد. لا غنى عنها في البطولات القارية، ولا مانع أيضًا من مرورها على دوري أبطال أوروبا، كما حدث في نهائي ليفربول وتوتنهام.

لكن تلك النسخة من كأس أمم أفريقيا حاولت كسر موضة الملل تلك بالخروج عن المألوف، وتقديم الكثير من المشاهد العادية على أنها دراما من اختراع القارة السمراء. فانتهى بنا الأمر ونحن نحاول رفع الأدرينالين بتلك المشاهد عوضًا عن الأمور الفنية والتكتيكية التي افتقدناها.


لا حاجة للتحضير

لم تقدم كأس أمم أفريقيا 2019 شيئًا يذكر على الصعيد الفني، فهي النسخة الأولى التي تقام في فصل الصيف بعد زيادة عدد المنتخبات إلى 24 منتخبًا. ورغم تجهيز الأعذار سلفًا، إلا أن الجميع انتظر وضعًا مغايرًا في المباراة النهائية. على الورق، طرفا النهائي، الجزائر والسنغال، هما الأفضل بشكل عام. بالإضافة إلى تواجههما من قبل في دور المجموعات، مما يعني وجود مزيد من التحضيرات التي من شأنها رفع مستوى اللقاء.

كان اللقاء الأول لاستعراض العضلات. حضرت الندية وغاب الحذر. وجد مدرب الجزائر «جمال بلماضي» صعوبة في التعامل مع «ساديو ماني» على الجانب الأيسر. إلى جانب التفوق الكاسح للمنتخب السنغالي في الصراعات الهوائية، حيث فازت الجزائر ب 32% فقط من الصراعات الهوائية في هذا اللقاء، مما ضايق فريقه على المستويين الدفاعي والهجومي، لأن بلماضي يعتمد كثيرًا على نقل اللعب مباشرة إلى ثلث ملعب الخصم بواسطة الكرات الطولية باتجاه قاطرة السد القطري «بغداد بو نجاح».

أما على الجانب الآخر، فكان مدرب السنغال «أليو سيسيه» يعاني من غياب مدافعه «خاليدو كوليبالي» بعد حصوله على إنذار ثانٍ أمام تونس في مباراة نصف النهائي. المشكلة هنا أن مدافع نابولي لا يكتفِ بدوره الدفاعي المميز، لكنه يلعب دورًا كبيرًا في بناء اللعب والخروج بالكرة، وإرسال الكرات الطولية بدقة لا يضاهيه فيها أحد من زملائه مما أثَّر على شكل المنتخب السنغالي في الموقعة الأولى.

كل هذه الأسئلة كانت تتطلب تحضيرًا مختلفًا، فانتظر الجميع رؤية كيف ستحاول السنغال الخروج بالكرة؟ وكيف سيتعامل بلماضي مع ماني؟ هل سيحرك فيغولي للجهة اليمنى، ويدخل محرز في المركز 10؟ لكن في النهاية، وضع «بو نجاح» هدفه الغريب في الدقيقة الثانية ليأخذ اللقاء طابعًا عشوائيًا.

فقررت الجزائر الاكتفاء بهذه التسديدة والتفرغ لارتكاب المخالفات 32 مخالفة، كان رصيد قلبي الدفاع جمال بلعمري وعيسى ماندي منها صفرًا! فالحماس طغى على لاعبي محاربو الصحراء ككل. بقيت الكرة للسنغال ولكنها بدت قليلة الحيلة. فالصراع التكتيكي تحول بين كلا المدربين إلى مسابقة في شحذ الهمم.


إصدار جديد من المدربين

هذا هو الخلاف الدائر في عالم المنتخبات. فالكثير يعتقد أن تدريب المنتخب هو حق أصيل للمدرب الوطني؛ لأنه يتحدث نفس اللغة، وأقدر على فهم لاعبيه وبث الحماس فيهم. أما الجانب التكتيكي الذي يتفوق فيه المدرب الأجنبي، فلا تظهر الحاجة إليه كثيرًا. ومع ذلك فإن منتخبات القارة السمراء مازالت تتجه للتعاقد مع المدربين الأجانب، وفي نسخة 2019 تحديدًا،14 منتخبًا من أصل 24 اعتمدوا عليهم.

لكن المصادفة وضعت في النهائي مدربين وطنيين للمرة السادسة في تاريخ البطولة، والأولى منذ نهائي عام 1998. هذه المرة، «جمال بلماضي» و«أليو سيسيه» قدما المدرب الوطني في أفريقيا بحلة مختلفة، إصدار جديد يمكن أن نطلق عليه اسم «مدرب وطني برتبة أجنبي».

لعل الصدفة كانت سببًا في إكسابهما رتبة «أجنبي»، كما كانت تجمع بينهما في المولد والنشأة. ففارق العمر بينهما هو يوم واحد فقط لصالح سيسيه، الذي ولد في 24 مارس/آذار 1976. ثم تحولا إلى جيران دون أن يقابل أحدهما الآخر؛ عندما ترعرعا في حي «لابويه لابي» بمقاطعة «شامبيني» جنوب العاصمة الفرنسية باريس. ثم قضيا مسيرة احترافية طويلة بعيدًا عن بلادهما. فمر «بلماضي» على أندية أبرزها باريس سان جيرمان ومارسيليا، أما «سيسيه» فمر على باريس سان جيرمان وبورتسموث.

وبسبب تلك الخبرة الأوروبية الطويلة، رأى الكاتب الرياضي الشهير «جوناثان ويلسون» أنهما يمثلان المستقبل لمدربي القارة السمراء، لأنهما يستطيعان تطويع تلك الخبرة لتحسين منتخباتهما تكتيكيًا بالتوازي مع الجانب النفسي. وبالطبع فإن “جوناثان” لا يدرك أبعاد ذلك التوقع، لأن نجاح بلماضي وسيسيه سيتحول إلى حجة للكثير من الدول – على رأسها مصر – من أجل إعادة تدوير فكرة المدرب الوطني، لأننا قد رأينا البطولة بعيون مختلفة.


سباق الولاء والانتماء

وفقًا لرؤية محلل قنوات «beIN Sports»محمدي العلوي، فإن بلماضي وسيسيه يختلفان كثيرًا في طريقة إدارتهما للاعبين. فالأول يعتنق منهج الصرامة لا الإقناع، عليه أن يضع الإطار وعلى الجميع الالتزام. وعندما تعود بالذاكرة لحال المنتخب الجزائري بعد 2014، فستجد أن حالة الفوضى التي عاشها المنتخب بعد رحيل المدرب «خاليلوفيتش» كانت بسبب ازدياد سطوة اللاعبين. لذا فصرامة بلماضي كانت واجبة.

أما سيسيه، فهو رجل هادئ، يعطي لاعبيه المزيد من المساحة. وقد تكون تلك الحرية هنا أكثر ملاءمة للاعبي السنغال. وكان واضحًا الفارق بين كلا المنتخبين، فاعتمد الأول على الجماعية أما الثاني فكان يغلب عليه الاعتماد على الحلول الفردية والقدرات الفنية الكبيرة للاعبيه. لكن الذي يجمع الرؤيتين هو تعامل كل منهما بالشكل المناسب مع لاعبيه.

لكن من الزاوية الضيقة الأخرى، فإن نجاح كليهما بغض النظر عن التفاصيل سيرفع أسهم المدرب الوطني، خاصة هنا في مصر. لأن البطولة تم اختزالها في عدة صور، لو كنا في زمان آخر، لما ركز عليها أحد. أبرز هذه الصور كان بكاء يوسف عطال وبغداد بو نجاح أثناء ركلات الترجيح بين منتخبي الجزائر وكوت ديفوار. ومنها إلى لقطات سجود المنتخب الجزائري، واحتفالات اللاعبين والمدرب مع جماهيرهم. وبالطبع لا تنسَ تفاعل «أليو سيسيه» مع لاعبيه عقب الخسارة.

حتى ساديو ماني لم يسلم من هذه الموجة. فبعد أن واجه سيلًا من مشاعر الكراهية غير المبررة، انهالت عليه كلمات الحب والإعجاب لأنه ربط حذاء أحد الأطفال المرافقين. وكانت هذه اللقطة كفيلة لغض الطرف عن مستواه العادي في البطولة.

بإمكانك مقارنة ما سبق مع تصرفات لاعبي المنتخب المصري بقيادة محمد صلاح وأحمد المحمدي. وتهديدات لاعبي نيجيريا و الكاميرون بالانسحاب في حالة تأخر مستحقاتهم. فتحولت بطولة في كرة القدم إلى سباقًا للوطنية، ومقياسًا لصفات التواضع والتضحية. وعليه فإن كل التفاصيل الفنية ومحاولات تحليل تكتيك كل مدرب ستتحول إلى قشور، كي نلجأ من جديد للمدرب الوطني باعث الروح والحماس، لأن الفوز كما تعلم عبارة عن 99% إيمان، 1% تكتيك.