إن «إنسان ما بعد الحداثة» هو إنسان يُهوِّل ويُبالِغ بشدة في كل ما يتعلق بأموره ورفاهيته الشخصية، بجسده ورغباته وشهواته، سواء كانت الشهوات نفسية أم جسدية. يحيا لنفسه، وهو متمركز بشدة حول ذاته، وصارت هذه الأمور هي جُل ما يهتم به، مع اهتمامات عارضة عابرة بما يحدث حوله، وإن اهتم به يكون مُعظم اهتمامه عبارة عن سخرية وتندر. لم يُعد يأخذ شيئًا مما يحدث حوله -مهما كان أمرًا جللًا- على محمل الجد الحقيقي، بل كل ما يتعلق بشهواته وبذاته وسلامته المادية والنفسية وشئونه الخاصة هو فقط هو ما يُؤخَذ على محمل الجد.

مجموعتي «Kersh Keepers» و«Health Keepers»

في خلال العام الماضي (2019)، تم تكوين مجموعة في حب الأكل والتغزل به، مهتمة بما لذَّ وطاب من الأطعمة الدسمة على فيسبوك وهي مجموعة (Kersh Keepers)، اكتسبت شعبية كبيرة وانضم إليها عشرات الآلاف من البشر، ثم بسرعة تم إنشاء مجموعة (Health Keepers) للاهتمام بالصحة الجسدية للرد عليها، وقد اكتسبت بدورها شعبية كبيرة هي الأخرى لينضم إليها أيضًا عشرات الآلاف.

ومن المؤكد أن الاهتمام بالصحة شيء محمود ومطلوب، والطعام الطيب ذو المذاق الجيد أيضًا مما يرفع معنويات المرء، ولكن ما حدث على المجموعتين أمر غير ذلك تمامًا.

جميل أن تهتم بجسدك وبصحتك بالطبع، ولكن ليس أن يتحول ذلك إلى (هَوَس) شديد، مثل ما نراه على مجموعة (Health Keepers) على سبيل المثال، يصور الشخص جسده (قبل وبعد) التخسيس، أو صورته وهو في صالة الألعاب الرياضية، المهم أنه يرفع صورة لجسده/جسدها ويعرضه على الملأ العريض المكون من آلاف البشر ليتلقى الكلمات التشجيعية والمادحة ويُرضي غروره الشخصي ويغذي أناه، وجميل أيضًا أن تحب الطعام الطيب، يقول الله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم)، على ألا يتحول ذلك أيضًا إلى هوس شديد بالطعام وبأصنافه التي لا تُحصى، مثل ما نراه على مجموعة (Kersh Keepers) كلما يعد أحدهم طعامًا جيدًا كان أم عاديًا، نراه يقوم بتصويره قبل أن يأكله ويرفعه على المجموعة ليتلقى عبارات التشجيع والمدح فيما صنعه، ويغذي أناه أيضًا بشكل آخر.

في الجانبين هناك إنسان يحب أن يُرضي غروره الشخصي، يحب الحصول على الاهتمام الزائف، يحيط نفسه وما يفعله بهالة عملاقة زائفة، يحب أن يكون محطَّ أنظار الآخرين بجسده أو بما صنعت يداه من الطعام، يحب التضخيم من ذاته وأفعاله بشدة.

نعم، الإنسان قيمة كبيرة، ولكن يجب ألا تتضخم هذه القيمة حتى تلتهم كل شيء آخر.

السعرات والسُعار

في كل مكان نذهب إليه نرى أنفسنا محاطين بإعلانات شديدة الكثافة عن مختلف الأطعمة والمشروبات، والمطاعم والكافيهات، التي تقدم أشكالًا وألوانًا من الطعام والشراب، إعلانات سمعية ومرئية ولوحات طرق، ونرى أيضًا على جميع صفحات تقديم المطاعم التي انتشرت بشدة في الخمسة أعوام الأخيرة مراجعات مُطولة عن المطاعم، حتى صارت المطاعم وأصناف الطعام يُقال فيها أشعار وقطع نثرية ومقالات.

وعلى الجانب الآخر إعلانات شديدة الكثافة أيضًا عن مشروبات التخسيس ومراكز شفط الدهون وشد الترهلات وتكميم المعدة وصالات الألعاب الرياضية، والأطعمة المسماة بالأطعمة الصحية المتمثلة في الشوفان والأطعمة الخالية من الجلوتين وبدائل السكر والملح وما شابههم.

كيف يتحكم الإنسان في نفسه وفي جسده لهذه الدرجة غير المسبوقة؟ كيف يصل إلى درجة التحكم التي تجعله يَستَهلِك ويُستَهلَك في الجانبين على السواء؟

في هذا الزمان أنت مُطالَب بالحفاظ على الـ «فورمة» المناسبة لجسدك والتكوين المثالي له حتى يكون شكلك جذابًا وحتى تزيد قيمتك، وفي نفس الوقت أنت مُطالب بأن تستهلك وتأكل كل ما لذ وطاب حسب الإعلانات التي غرقنا فيها في كل مكان.

هناك صراع محتدم على جسد الإنسان، بين من يريدون أن يُطلَق له العنان وأن يزيد وزنه بلا تحفظ ولا رقابة، وبين من يؤكدون أن هناك وزنًا مثاليًا نصل إليه بمعادلة يدخل فيها طول الجسد مع وزنه.

الأمور أبسط من ذلك، يقول الله تعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، فلا يجب أن نعطي هذا الأمر أكبر من حجمه بالشكل الرهيب الذي نراه الآن، وألا ينصب كل اهتمامنا عليه.

لا نذكر أن هذا الأمر كان هَوسًا جنونيًا بهذا الشكل قبل عشرين عامًا، فخلال تلك الفترة زادت كمية المنتجات وعدد المطاعم وأصناف الطعام بشكل رهيب غير مسبوق، وزاد أيضًا الحديث عن السعرات الحرارية والهوس به وحسابها بشكل دقيق للغاية، وحساب الدهون وكل جرام تزيده في وزنك، حتى صار الأمر أقرب لـ «السعار» على الجانبين.

الإنسان والقيمة

هل الإنسان موجود في هذا العالم لكي يحيا لملذاته؟ هل هو خُلق ليتمركز حول ذاته فقط، وليحيا لجسده سواء بالاهتمام بشكله أو بتغذيته؟

الإنسان في العصر الحالي يعتقد ذلك، نعم، فلأستهلك… وأستهلك… وأدور حول نفسي ونفسي فقط… لن أهتم إلا بما ينفعني أنا ودائرتي الشخصية… وليس حتى ما ينفعني بشكل عام، بل ما ينفعني نفعًا ماديًا مباشرًا فقط.

هل يجب عليه أن يكون جل اهتمامه فيما يفعله هو رأي الناس فيه وكيف سيمدحون أو يذمون ما فعله؟ هل من الطبيعي الهَوَس بتفاعل الآخرين وردود أفعالهم على كل ما يصنعه أو كل تحركاته إلى هذا الحد غير المعقول؟

بالتأكيد لم يُخلق الإنسان لذلك… لم يُخلق ليحيا فقط لذاته أو لملذاته… هناك أمور جلل من المفترض أن يهتم بها، ولا يجب أن يكون مهووسًا بأمور أقل ويعطيها أكبر من حجمها بكثير… كثير جدًا!

ينبغي على الإنسان أن ينشغل بما يعنيه بحق… ليس ما يعني شهواته ونزواته ورغباته فقط.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.