يتساءل الفلاسفة اليوم – في ذروة التطور التكنولوجي وهيمنة الآلة وعصر الصورة ونمط الاستهلاك والدعاية – أسئلة عن الوجود الإنساني في ظل هذا العصر فائق السرعة في الإنتاج الصناعي والتقني. ومنطلق هذه الأسئلة هو مضمون الوجود ومغزى الحياة في واقع هيمنة التقنية على الحياة، والاستلاب من جراء علاقة تبعية وتطويع العقول، وتحويل الذات نحو عالم اقتناء للأشياء، وخلق الإنسان ذي البعد الواحد والمجتمع كذلك.

في تحليل الفيلسوف الألماني «هربرت ماركوز»، في نقده للمجتمعات الصناعية المتقدمة، هذا الإنسان الذي يقيم وسط عالم الأشياء محكوم بثقافة أقل ما يُقال عنها تنميطية للوجود الإنساني، وذلك في ظل هواجس ومخاوف الفلاسفة من أن تصبح التقنية مستقلة عن الإنسان، ويتحول هذا الكائن من فاعل وصانع للأدوات ومتحكم إلى أداة في خدمتها عندما تسيطر بقوة وترغمه في الفعل وتغير من أنماط وجوده، ويتحول الفعل من الاعتقاد بالقدرة في توجيه التقنية للأغراض السليمة والنفعية إلى أداة في خدمة المشروع السياسي والاجتماعي، وتكريس الهيمنة على الجنس البشري، وانزلاق الإنسان للهاوية بفعل مخاطر سوء استعمال التكنولوجيا.

إن التحالف بين التقنية والعالم بدون ضوابط أخلاقية وإنسانية يؤدي لا محالة إلى الهاوية، نتيجة الانجرار والاندفاع نحو حروب ضارية تبيد الجنس البشري أو تعيد برمجة الإنسان، وفق مرامٍ سياسية واجتماعية في تكريس عالم استبدادي أحادي المنطق، يخدم بالدرجة الأولى هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي.

فكيف يمكن الرقي بالوجود الإنساني بعيدًا عن الاستلاب والاستعباد؟ وهل يمكن للفلسفة أن تعيد النظر في الإنسان كفرد حتى ينعم بالحرية الحقيقة؟ ولماذا الزيادة في الهواجس من سيادة التقنية كآلية مفيدة في رفاهية المجتمعات الحالية؟

ماركوز: الإنسان ذو البعد الواحد

كتب الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز كتاب بعنوان «الإنسان ذو البعد الواحد» عام 1964، ومن ثمرة هذا الجهد الفكري تحليل مستفيض للنتائج التي انتهت إليها المنظومة الرأسمالية والنظام الشيوعي معًا في تحقيق الحرية المزعومة والمساواة بين الطبقات الاجتماعية، وتحويل الأفكار من السياق النظري إلى العملي، وإنتاج كم من الصور الرائجة عن الرخاء المزعوم والحرية الكاملة، بل نتج عن ذلك انتصار النزعة الاستهلاكية والمزيد من السيطرة والهيمنة على الإنسان والطبيعة، والزيادة في العمل لتلبية الحاجات الأساسية. تولّد عن هذا فقدان الفرد لقيمته وإنسانيته عندما أصبح مجرد آلة أو شيء لإنتاج السلع الأساسية وتزويد السوق بالمنتجات المختلفة. فالاستيلاب الملاحظ هنا يتجلى في وحدة الناس من خلال ما يفرض عليهم من نظام وترتيب في الإنتاج.

إن عجلة الاقتصاد الرأسمالي قائمة على الزيادة في الإنتاج والاستهلاك، وخلق الإنسان ذي البعد الواحد، الذي ترك الحرية وعانق وهم الحرية، فهذا التقدم الكيفي في مجال الحريات وتوسيع هامشها لم يكن بالحقيقة التي يعتقدها الإنسان في المجتمعات الصناعية، والبروليتاريا التي تكلم عنها ماركس ليست واقعًا فعليًا في المجتمعات الغربية الحالية. هناك تمويه للصراع من خلال تجديد النظام الرأسمالي لآليات العمل، والاستمرارية بفعل الدعاية القوية للعامل ورب العمل في الإعلام والإشهار ومستوى الرفاهية في الاستهلاك والإنتاج، وبفعل توظيف التكنولوجيا في انتشار التفكير النمطي والمجتمع ذي البعد الواحد.

ورغم ما ينجلي في الظاهر من سيادة الديمقراطية والحرية السياسية، هناك استيلاب وتبعية عمياء من قبل القوى الفاعلة في الإنتاج للأدوات والتقنيات المستعملة في بقاء هذا النمط، حتى في عمق الثقافة الغربية. فالمجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يُغيّر المبادئ الأساسية للسيطرة.(1)

إن نمط الإنتاج هو المتحكم وليس العامل الاقتصادي المادي وتناسب الأدوات والنظم المسيطرة، وصارت التقنية اليوم باعتبارها الشكل العالمي للإنتاج مُحدِدة للسياسة والثقافة، ومسئولة عن تنميط العقول وقلب القيم، وفقدان الوجود الإنساني للمعنى والقيمة، ويعود هذا كله إلى العقلانية الصناعية والتقدم التقني الصناعي والرقابة الآلية على السلوك الإنساني في مدى التناسب مع نمط الإنتاج السائد، فالمجتمع الصناعي المعاصر يميل بحكم طريقة تنظيمية لقاعدته التكنولوجية إلى النزعة الكلية الاستبدادية.(2)

إن التقدم التقني في العالم الرأسمالي يخفي في عمقه أزمة الإنسان في التعبير والتحرر من نير الاستبداد الكامن في تحويل الناس إلى نسخ متطابقة في التفكير، وكائنات بدون محتوى ومجتمع قمعي اضطهادي، يُوهم الناس بالسعادة والرخاء في الاستهلاك، وإزالة الحرمان والنقص عند شراء المنتجات وتلبية الرغبات، ويوقظ في الناس الوعي المناهض للطرح الماركسي في الصراع الطبقي والأيديولوجيا المنغلقة، ويُكرِّس في الخطاب آلية القيم العقلانية الديمقراطية والمجتمع المُنتِج للأشياء والأدوات المفيدة للوجود الإنساني.

وإذا كانت روافد قراءة الفيلسوف هربرت ماركوز متنوعة، من هيجل إلى ماركس ومدرسة فرانكفورت النقدية، فإن آلية النقد تنطوي على خلق مجتمعات بحرية أوسع، في وحدة بين التقدم الكمي والكيفي، وتحويل الثقافة من الاحتكار والرقابة والتحريض السلبي إلى دافع في الفهم والعيش بانسجام والمطالبة بالحقوق والحريات دون استلاب.

هابرماس: التقنية أيديولوجية العصر

يمثل الفيلسوف الألماني «يورغان هابرماس» الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت النقدية في فلسفة تروم للنقد أولاً، وطرح البدائل في واقع اجتماعي ينم عن تعقيد ومشاكل الثورة الصناعية للبحث عن آليات أخرى للفهم واستيعاب نتائج العقلانية وتجليات العقل التقني، لذلك قدم هابرماس فكرته، ومضمونها الدعوة لتأسيس فضاء عمومي وفعل تواصلي، أو بالأحرى تجاوز العقلانية الأداتية في جوانبها المدمرة للطبيعة والإنسان، ومن ثَمَّ طرح البديل في عقلانية تواصلية تستند على مبادئ قيمية وأخلاقية.

تدخل أطروحة هابرماس في جدال مستمر مع الآراء الأخرى بخصوص انزلاق الحداثة نحو عقلانية مدمرة، ونقد أسسها من منظور سوسيولوجيا ماكس فيبر في التصنيف لأنماط السلطة والفعل الاجتماعي والبيروقراطية، وجدارة النظام الرأسمالي الغربي في التنظيم والعقلنة، وارتباط ذلك بالتقدم العلمي والتقني، ومن منطلق الادعاء باكتمال الحداثة وبداية الانتقال إلى عصر ما بعد الحداثة في تيارات فلسفية وأدبية، لأن هابرماس يعتبر أن الحداثة لم تكتمل بعد حتى نتكلم عما بعد الحداثة. وجدل هابرماس يعني تأملات في مضمون أفكار هربرت ماركوز خصوصًا في كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد».

إن أخطار التقنية والعلم بوصفهما أيديولوجيا، حيث السيطرة المنهجية العلمية المهيمنة على الثقافة والحياة الاجتماعية، ورغم مخاطر التقنية والعقل التقني وهيمنة العقلانية، فإنها تنطوي على محاسن في تحسين الإنتاج والرفع من المردودية وسد الحاجات، ونقد هابرماس للنزعة العلمية السائدة في التيارات التي قدست العلم ورفعت من مبادئه للأعلى، وبالتالي فالنزعة العلمية لها أبعاد لا تتمثل فقط في جعل المؤسسات العلمية أكثر إنتاجية، وانما أيضًا في إضفاء الشرعية على النظام السياسي والاجتماعي المؤسس على العقلانية التقنية.(3)

فالقوة المحركة للتكنولوجيا تُحوِّل الأشياء إلى أدوات، والوحدة بين العلم والتقنية انعكست على مجال السياسة والاقتصاد والثقافة، فأصبح الوجود الإنساني أكثر تنميطًا وفق رؤية العلم والتقنية، الأمر الذي حذا بهابرماس إلى نقد العقل التقني وإعادة النظر في الحداثة وإقحام الفلسفة في عملية نقدية واسعة لأجل صياغة نظرية فلسفية للحداثة والعقلانية من منطلق قيمي وأخلاقي تواصلي. حتى اعتبر السياسي الألماني «يوشكا فيشر» أن هابرماس هو فيلسوف الجمهورية الجديدة في ألمانيا، لما يقدمه من مواقف مفيدة في تجديد عمل المؤسسات.

هايدغر: التقنية والإنسان والحقيقة

يبحث هايدغر في الفكر الذي يؤسس للوجود والموجود معًا، ويعود خطوة للوراء في تفنيد خطاب الفلسفة بوصفها فكرًا ميتافيزيقيًا أرسى دعائم الفكر الأحادي، وذلك في نسيان صريح للموجود وانزلاق الإنسان نحو الهاوية والسقوط في براثن الوجود المزيف، من ثرثرة وتطفل وحب الاستطلاع والتلهية وعدم الانتباه للأشياء، ومن نتائج ذلك فقدان الإنسان في معترك الوجود الأصيل والانغماس في مشاكل الآخر دون الانتباه للذات، وتكريس الوجود خارج الذات، وتغدو مهمة الفلسفة بذلك معرفة النفس عن طريق معاشرة الأشياء الخارجية.(4)

إن تجديد مهمة التفكير الفلسفي والإعلان عن نهاية الفلسفة مرده بالأساس مشكلة الوجود الإنساني المرفق بالوعي، الذي يحمل الخوف والقلق، والتحليل الأنطولوجي للوجود ينصب على أحوال الإنسان في هيمنة التقنية وسيادتها، وحدود الإنسان في الزمان والمكان من خلال المصير والعدم الذي يحيل على السلب والإيجاب، كما يخشى هيدغر من التقنية الاستقلالية، ويصبح الإنسان أداة، وتتحول التقنية لأسلوب حياة بعدما ظلت انكشافًا وتحريضًا في تطويع الطبيعة واستخراج طاقتها.

ومهمة الفيلسوف بوصفه طبيب حضارة كما قال نيتشه الحفاظ على مصير الإنسانية وصيانة الوجود الإنساني من الابتذال والسقوط في الهاوية والوجود المزيف، لا بد من إزالة الغموض عن الوجود الذي ينكشف ويتحجب، يظهر ويختفي، لابد من البحث عن الحرية المفقودة في تجربة القلق والانهمام نوعًا ما بالذات، والعودة بالتفكير في قدرته على التأمل والتأسيس للكائن في بعده الوجودي والمعرفي، لأن الوجود الخارجي عملت التقنية بالفعل على تغييره، فأصبحت الحقيقة تٌقاس بالواقع والمشاهدة، والمجتمع الصناعي لا يبالي إلا بالفعالية وتسخير التكنولوجيا لسد الحاجات والرفع من المردودية حتى في ظل الاغتراب والاستلاب.

مهمة الفيلسوف هي وصف أحوال وصفات الوجود والموجود، في عملية تفاعل مع الآخر ما دمنا نشترك معه العالم والمعيش والذوق والمصير، وأحوال الذات في فقدان المعنى والقيمة من هيمنة الفكر التقني وعصر التخصص. فالعالم في عصر التخصص لا يستطيع أن يوظف جهده العقلي للتفكير في الأوضاع الإنسانية والقيم الاخلاقية ككل، بل ستغلب عليه النظرة المباشرة والضيقة، وطبعًا هذا أمر طبيعي.(5)

في عالم يزداد تعقيدًا وفي غياب السؤال عن ماهية التقنية والحقيقة، يبقى الجواب الجاهز من سمات التفكير المتمركز على الحاجات وهيمنة وسائل التواصل في الحياة، والجديد في عالم البيولوجيا والتهديد النووي. فالتقنية ليست أدوات وآلات وتطبيقات عملية فقط، بل موقف وميتافيزيقا وصورة العصر، ونتاج الحداثة الغربية والأزمنة الحديثة في تحالف وثيق مع العلم، أو تطابق وانسجام بين العقل الأداتي والعقل التقني وميلاد العقلانية الغربية، ولعل المخاوف الأكثر تتلاشى في حالة المراقبة والضبط لهذا التحالف، وإلا سيؤدي ذلك إلى كارثة إنسانية تقضي على الوجود الإنساني. تلك حقيقة راسخة في تأويلات هايدغر لأحوال الوجود وهموم الإنسان في هذا العصر التقني.

المراجع
  1. هربرت ماركوز، “الإنسان ذو البعد الواحد”، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1988، ص 181.
  2. المرجع السابق، ص 39.
  3. محمد نور الدين أفايه، “الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس”، أفريقيا الشرق، الطبعة الثانية، 1998، ص 62.
  4. إبراهيم أحمد، “إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هيدجر”، الدار العربية للعلوم-ناشرون، الطبعة الأولى، 2006، ص 77.
  5. المرجع السابق، ص 131.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.