أمام مشاهد العنف التي تشهدها قنوات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي يقف الإنسان أمام هوة المثالية والواقع، المثالية التي تصنع القيم للمجتمعات حتى تستمر، بينما الواقع انعكاس لتأثيرات عدة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية قد تعمل على إسقاط تلك القيم؛ لتبقى المجتمعات ممتلئة بالناس لكنها خالية من الإنسانية.

كل هذه الحروب تأتي لتذكرنا بالوجه الخفي للحضارة الإنسانية التي نعيشها حاليًا، الوجه المخيف الذي يفضح مدى توحش بعض الناس في حال تمكنوا من خصومهم

الإنسان الذي وصل إلى القمر رافق تطور رحلة إنجازاته على الأرض جانب أسود لا يقل دهشة عن واقع إنجازاته، فهو لم يكتفِ بتطوير الآلات والوسائل التي تحمي الإنسان من المرض، أو توفر له مصادر متنوعة للغذاء، بل شابت مسيرته ثغرات تكاد تقضي على الإنسانية منها المفاعلات النووية ومنها وسائل التعذيب التي لم تتوقف ولا للحظة عن التطور وكأنها جزء لا يتجزأ من حضارة الإنسان!

الإنسان الغربي الذي أباد مئات الآلاف من الهنود الحمر، الحربين العالمية الأولى والثانية، القنبلة النووية، حرب أفغانستان والعراق وحاليًا سوريا والاقتتال الذي فيها، كل هذه الحروب تأتي لتذكرنا بالوجه الخفي للحضارة الإنسانية التي نعيشها حاليًا، الوجه المخيف الذي يفضح مدى توحش بعض الناس في حال تمكنوا من خصومهم.

وجه مخيف يخبرنا أن لا حدود للتوحش الذي يسكن النفس البشرية، التوحش الذي يكاد يفوق توحش الحيوانات بمراحل، فالحيونات المفترسة ذات الأنياب الحادة لا تفتك بفريستها إلا في أوقات محددة، ولهدف محدد كالجوع مثلاً، بينما لا يكتفي الإنسان بالقتل من أجل لا شيء، بل يبالغ في تطوير وسائل الموت وآلات التعذيب ليصل إلى ذروة لذة العنف التي لا توجد إلا في الجنس البشري.


نظرة عامة

في كتاب «حيونة الإنسان» يبحر بنا الكاتب السوري ممدوح عدوان في أتون هذه النفس البشرية، يحللها ويقلبها، ويستجلي أطوارها ليجيب عن سؤال لطالما أرّقه وأرقنا وهو: ما السبب في توحش الإنسان؟

وحتى يجيب على هذا التساؤل ينطلق باحثًا عن أهداف المجرم والضحية ليستجلي الإجابة، فالمجرم الذي يتوحش بطريقة لا تفهم له أهدافه الخاصة، كذلك الضحية التي تستسلم تمامًا للعنف لها موقفها، يحاول الكتاب أن يستجلي هذين الموقفين، يعري الأهداف الخفية التي تحول الإنسان الذي بنى حضارة إلى مجرد وحش، وتلك الأهداف التي تسلخ من الإنسان هويته لتجعله أشبه بفرد في قطيع لا يملك إلا أن يطأطئ عنقه لقدم الجلاد.

يحتوي الكتاب على ثمانية عشر موضوعًا، يحاول الكاتب من خلالها أن يناقش مختلف القضايا التي تتعلق بهذه القضية، فهو لا يكتفي بسرد وجهة نظر الجلاد وتجبره، بل يطرح كل المقاربات الممكنة التي تبرر أو توضح موقف الضحية. يتميز الكتاب بتنوع المصادر التي اعتمد عليها الكاتب وعلى رأسها أدب السجون، تليه الروايات التي عالجت هذه القضية.

كما أنه استخدم أبحاثًا نفسية تعلل السلوك المرضي لدى الجلاد والضحية، ومن خلال تنوع أساليب الطرح والاقتباسات البناءة نستطيع أن نشعر بالإنسان المسحوق بإرادته أو بغير إرادته، كما أننا نستطيع أن نرى الجانب المظلم والمشوه من شخصية الجلاد والذي قد يكون مجرد حارس زنزانة أو حاكم ديكتاتوري أو متسلط ينتمي لفئة أقوى من الفئة التي يضطهدها.


واقع القامع والمقموع

في واقعنا العربي نكاد نرى كل النماذج المتوحشة متمثلة في واقع حي. ولئن كان التوحش الإنساني يأخذ أشكالًا غير مباشرة في المجتمعات الغربية كونها أنظمة تحترم شعوبها فقط دون الشعوب الأخرى، إلا أن ذلك التوحش يأخذ شكله المخيف في الدول التي أصبح فيها الدكتاتور هو رمز الديمقراطية وحاميها!.

يميل الإنسان إلى العنف، وحتى يبرر عنفه يلجأ إلى استخدام وسائل عدة منها التبريرات الدينية كالدفاع عن حق الإله

يرى المؤلف أن تلك السلطة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمارس بطشها منفردة، بل تعتمد بشكل أساسي على فئة من المجتمع (العسكر) مثلاً، ومن خلال تلك الفئة تضطهد بقية فئات المجتمع.

تعمد تلك السلطة إلى تقسيم الشعور بالمسؤولية بحيث لا يشعر السجان أو الجلاد بالمسؤولية تجاه الانتهاكات التي يمارسها بل قد يصل إلى حدود لا معقولة من العنف؛ لأن دور الفرد بالنسبة له ملغي.

ويأتي شعور السلطة، السلطة التي هي فوق القانون وفوق المساءلة، كما تميل بعض السلطات إلى إعادة تعريف الإنسان المضطهد بحيث يتم إلغاء الصفة الإنسانية منه، أو على الأقل اعتباره صنفًا آخر من المجتمع، وهذا ما يبرر المجازر الوحشية التي ارتكبها البرتغاليون ضد الهنود الحمر، أو تلك المجازر التي نفذها البريطانيون والفرنسيون تجاه المجتمعات التي استعمرت في القرن السابق.

يميل الإنسان إلى العنف، وحتى يبرر عنفه يلجأ إلى استخدام وسائل عدة منها التبريرات الدينية كالدفاع عن حق الإله، وكما تشير بعض الدراسات النفسية إلى أن الإنسان يسعى إلى إشباع غرائزه التي تميل إلى العنف، وترى تلك الدراسات أن الوحشية صفة لصيقة بالإنسان لا الحيوان، فالحيوانات المتوحشة لا تعذب أبناء جنسها.

ويرى الدكتور ملغرام صاحب كتاب (طاعة السلطة نظرية تجريبية) إلى أن الطاعة العمياء هي المسؤولة عن الإجرام الذي يرتكبه الإنسان، ويؤكد ما توصلت إليه الأبحاث السابقة في أن التخلص من الشعور بالمسؤولية هو ما يغذي السلوك الإجرامي لدى الناس.

بالنسبة للضحية واستسلامها فيرى الكاتب أن السبب الرئيسي الذي يدفع الضحية للاستسلام تمامًا هو الشعور باليأس، بينما ما يدفع الجلاد للانتقام بتلك الطريقة المتوحشة وما يدفع الديكتاتور للتعامل بتلك الطريقة اللاإنسانية مع شعبه هو الانتقام من الماضي.

الماضي المرتبط بالمجتمعات المقهورة التي جاؤوا منها، والتي صنعت منهم أناسًا ممتلئين بالخوف، بمرور الوقت يسعون لأن يستنسخوا تلك المجتمعات المقهورة في واقعهم ويعملون على تغذية الخوف في الشعوب حتى يسيطروا عليهم، ولا يمكن أن تنشأ مجتمعات مقهورة إلا بعد أن تستشري فيهم الأخلاق المقموعة التي تتغذى على الخوف والقهر وتصنع من الفرد شخصًا ذليلًا مستسلمًا للمواعظ الدينية التي تبرر سحقه، ومنصاعًا للاستبداد الذي يتعامل معه بمستوى دون الحيوان.

يبحث الكتاب أيضًا في أصل العنف الذي يصنع التوحش بأنواعه لدى الإنسان، ويرى «جون غالتنغ» أن العنف مرتبط بالتغيرات الحضارية التي مرت بها البشرية منذ عصرها البدائي وحتى عصورها التقليدية ثم الحديثة وما بعد الحديثة، ويصنف غالتنغ العنف إلى عدة أصناف:

1. عنف وإرهاب ضد الطبيعة.

2.عنف وإرهاب ضد الذات كالانتحار.

3. عنف وإرهاب ضد الأسرة مثل الإساءة للمرأة وللطفل.

4. عنف وإرهاب ضد الأفراد مثل السلب والنهب والقتل والتعذيب.

5. عنف وإرهاب ضد المؤسسات مثل النهب والفساد.

6. عنف وإرهاب ضد المجتمع مثل العنف الطائفي والحروب الأهلية.

7. عنف وإرهاب خارجي حرب الدول بينها البين.

8. عنف ضد الكواكب، وكل أنواع العنف هذه صاحبت التطور الصناعي الذي ابتكره الإنسان واهتم به لكنه لم يهتم بالبعد الإنساني الذي يجفف منابع ذلك العنف.

يتحدث الكتاب أيضًا عن الدولة القمعية التي تستخدم القانون لتبرر قمعها، بل تكاد تستخدم كل الوسائل المتاحة لتسيطر على الناس، إذ أنها تركن إلى الاغتصاب الفكري والقمع الممنهج لتوهم الناس بأنهم يحبونها، كما أنها تعهد بشكل كبير بتلك المهمة إلى المؤسسات الدينية التي تعمل على تخدير الجماهير المظلومة فتخلق لهم تعويضات غيبية في الآخرة، وتصرفهم تمامًا عن التفكير بمقاومة الحاكم الظالم باعتباره قدرًا يجب الصبر عليه.


التنمية السياسية في ظل ثقافة الخوف

لا يمكن تحت ظلال ثقافة الخوف أن يتقدم أي مجتمع ولو قيد أنملة؛ ذلك أن الخوف يسلخ الناس من هوياتهم، ويسمح لهم بأن يتحملوا الضغوطات التي تسرق منهم كرامتهم وإنسانيتهم، ليجدوا أنفسهم في لحظة من اللحظات غير قادرين على أن ينظروا لأنفسهم إلا وفق المساحة التي يقبل بها الحاكم الديكتاتور والعسكر.

النظرة التي تجعلهم في مرتبة الحيوان، فيقبلون على أنفسهم الظلم والجور دون أن يقاوموا. ومن أكبر الوسائل التي استخدمت في خلق الخوف والاستسلام لدى الجماهير هو سلاح التجويع. التجويع الذي يجعل من الإنسان شيئًا لا يفكر إلا بقوته وحسب.

وحتى يتم حل الإشكاليات المتعلقة بثقافة الخوف وغياب الهوية الإنسانية في مجتمعاتنا المقموعة، يتوجب أن نسعى لحل كل تلك الإشكاليات بتجفيف منابعها، ولا يكون ذلك إلا بمحاربة الاستبداد كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد.

وأفضل وسيلة لحل تلك الإشكاليات واستبدالها بحلول ناجحة تعمل على خلق أسباب الاستقرار والتقدم والنمو في المجتمع هو تطبيق مبادئ التنمية السياسية، والتي تقوم في مجملها على احترام الفرد كإنسان، وعلى قيمة الحرية المكفولة للبشر جميعًا، وعلى قيم التنمية التي تصنع أسس الحضارات التي تنطلق منها المجتمعات.


المستقبل بين الإنسان والوحش

الخوف يسلخ الناس من هوياتهم ويسمح لهم بأن يتحملوا الضغوطات التي تسرق منهم كرامتهم وإنسانيتهم

في عصر التقدم الذي نعايشه تواجهنا مجموعة من الأسئلة حول مصير الإنسان ومستقبله في القرون القادمة، فالتوحش الذي يصبغ الحضارة الحالية ينبئ عن احتمالية فناء جنس البشر، ليس بسبب الانتهاكات التي تطال بني البشر بسبب الحروب الدولية، ولكن أيضًا بسبب الانتهاكات التي تطال الطبيعة نفسها جراء الهوس الصناعي والتقدم الاستهلاكي الذي يتحرك وفق المصلحة الفردية بعيدًا عن مصلحة المجتمعات الأخرى ومصلحة الكوكب.

وهذا كله ما هو إلا انعكاس للتوحش الذي يشكل الهوية الإنسانية منذ حقب التاريخ الأول؛ وعليه فإن صورة المستقبل ليست واضحة حتى الآن، لكن لا يزال بإمكاننا أن نوقف مد العنف والتوحش باستعادة الإنسان الذي فينا، الإنسان الذي يجب أن يستخلص حريته من براثن الحضارة المتوحشة التي نعيشها حاليًا، بعد أن يستخلص حريته سيكون قادرًا على تجفيف منابع العنف والتوحش الذي يهدد مستقبله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.