في العام 1917، وبعد انتصار الثورة الروسية، تحرك عمال وجنود مدينة بيتروجراد واحتلوا محلات الخمور والحانات متذكرين مقولة لينين أن الثورات هي «مهرجانات المقهورين والمستنزفين». ظل الجميع في المدينة يشربون كميات كبيرة من النبيذ حتى خرجت كل الأمور عن السيطرة، فأرسلت القيادة البلشفية إحدى فرقها العسكرية للسيطرة على الموقف، إلا أنهم لم يستطيعوا مقاومة إغراء نبيذ مجاني، وذهب قيادات من الثورة للسيطرة على الوضع، إلا أنهم وقعوا أيضًا غواية النبيذ. واستمر الوضع حتى قامت فرقة فلندية يقودها نقابيون أناركيون بتفجير خزانات النبيذ، حتى بدأت نوبة السكر في الانحسار وانتهاء الحفلات المخمورة ومعها ينتهي مشهد سريالي.

يعلق الكاتب طارق علي في كتابه «بروتوكولات حكماء سدوم» على هذه القصة بأنها تثبت خطأ الاعتقاد القائل إن الطبقة البرجوازية هي فقط من يملك ذوقًا رفيعًا؛ فالبروليتاريا قادرة أيضًا على صنع مجال من الذوق ولكن بطريقة أخرى.

لو أننا حركنا الأحداث إلى فترة خمسينات وستينات القرن العشرين، حيث الكاتب والشاعر الفرنسي جي ديبور الأب الروحي لـ «الوضعيين – العالميين» التي تعد آخر حركة طليعية سياسية – ثقافية في القرن العشرين، لكان جي ديبور بلا شك أول المشاركين في احتفال مدينة بيتروجراد إلا أن جي استحضر حالة بيتروجراد السريالية في حياته.

ولد ديبور في العام 1931 في باريس، وتوفي والده وهو في الثالثة من عمره، وعهدت تربيته إلى جدته، وانتقل في العام 1942 إلى مدينة بو حيث التحق بالمدرسة الثانوية. وهناك – أي في المدرسة – عرف الشعر، وخصوصًا الشاعر المفضل لدى السرياليين، إيزدور دوكاس (كان دوكاس يدرس في نفس المدرسة الثانوية لكن في القرن التاسع عشر) حيث تأثر بسيرته، وعمد جي ديبور إلى تطوير فنه وأخذ نهجًا مناهضًا ومعاديًا للسلطة إلى أن انتحر في العام 1994.


الخمر والطليعة

كان الطليعيون يشتهرون بحبهم الخمر، فقد كانوا يلتقطون لبعضهم صورًا فوتوغرافية وهم يشربون كميات هائلة من الخمور، وقد كان لجي ديبور مبرره الأدبي مستندًا لمقولة ثيربانتيس: «تحت أي رداء فقير بالٍ، هناك غالبًا سكير جيد». كما قام جي ديبور بتقديم نموذج مبكر للخروج عن السياق، أو بمعنى أدق: إعادة خلق سياق خاص من الحرية، عن طريق حادثة تشويه لملصق حكومي كتب عليه: «الكحوليات تقتل ببطء»، قائلًا: «لا يهم هذا الهراء، ما زال لدينا متسع من الوقت».

كان جماعة الوضعيين يخرجون إلى ضفاف نهر السين وهم مخمورون ليروا المدينة كما لم يروها من قبل على حد تعبيرهم، وأطلقوا على هذا الفعل: جولات نفسية وجغرافية تحتاج النبيذ كوقود لها. ولم يكونوا وحدهم، الطليعيين، عاشقي النبيذ؛ فقد سبقهم ماركس وأنجلز اللذان كانا يذهبان إلى حانة في طريقهم إلى مكتبة المتحف البريطاني.


شجاعة الثمالة

عاش جي ديبور حياته حد الثمالة، إلا أنه شكّل جيلاً من المثقفين الثوريين الذين يزدرون كل الأشكال النظامية حتى ولو كانت ثقافية. فقد كان جي ديبور يمقت سارتر وكامو، حيث كانت فلسفته نسخة أشد راديكالية من وجودية سارتر من حيث شدة الاحتفاء بالنزعة الفردية، وأكثر ميلًا ناحية اليسار.

لم يكن عشق جي ديبور للخمور إلا فلسفة أصيلة مناهضة لكل أشكال الهيمنة المجتمعية والمجتمعات الحديثة والاستعمار التي تتخفى في تقاليد الطبقات البرجوازية التي عايشها، فلم يكتفِ بموقف أندريه بريتو في العام 1960 المناهض للحرب في الجزائر، وأراد فعلًا أكثر من بيانات الرفض، وانضم جي إلى الشاعر إيزيدور إيسو مكوّنين حركة «الأدبيين» على وزن كلمة «اليساريين» حيث يمارسون ضربًا من سريالية ثورية ليبعثوا الشباب الفرنسي من سباته للوقوف ضد هذه الحرب الاستعمارية.

وناهض جي ديبور الفنان شارلي شابلن، ووزّع منشورًا مناهضًا لشابلن واصفًا إياه بالحشرة الفاشية، وعصاته الشهيرة بأنها هراوة شرطي، وأفلامه ما هي إلا ابتزاز عاطفي لإثناء الطبقة العاملة عن نضالها من أجل حريتها.

في العام 1967، شرع جي في تأليف كتابه الأشهر «مجتمع المشاهد الصاخبة» لكي ينقد حزمة العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية في ظل الرأسمالية، حيث آمن جي بفكرة نظام سياسي قائم على مجالس العمال، وعارض فكرة الحزب الطليعي في الفكر اللينيني – التروتسكي، وانتشرت كلمات جي منذ العام 1968 على جدران باريس وعلى ألسنة الفرق الثورية المناهضة للرأسمالية مثل: «السلع أفيون الشعوب، ما المجتمع إلا وردة بلاستيكية».

كان جي مؤمنًا بكل أفكاره ومدافعًا عن الجماهير وحريصًا على مبدئه في عدم استغلال الجماهير والأيديولوجيا الاستهلاكية، وقام جي بحل جماعة «الوضعيين – العالميين» في العام 1972.


المحطة الأخيرة: استعراض ديبور

يعبر كتاب «مجتمع المشاهد الصاخبة» أو «مجتمع الاستعراض» عن جوهر فكرة جي ديبور الرامية إلى التخلي عن كل سياق، حيث كتب قائلًا:

كان هذا منذ وقت بعيد، لماذا أنا أفكر أو أكتب وفقًا لما تنتظره أنت؟، ولماذا أتصرف مع صديقتي وفقًا لما أظنه نموذجيًا في عقلها؟، ولماذا أدخل في مراتبيتكم الأخلاقية فأحترم الكبير بالضرورة؟، بالقطع إنني أقوم باستعراض دور ما في مجتمعكم، أتوق للنموذج المتفق عليه عندكم، مع مرور الوقت قد أتلاشى تمامًا ولا يبقى مني سوى ما تريدون أنتم، بل وأكثر من هذا فسوف أنتظر منكم بدوري ما أتوقعه منكم. والمجتمع الرأسمالي الحديث نضج إلى الحد الذي أصبحت النماذج فيه مستقرة (نموذجية) مثل الثوري، الفاشل عاطفيًا، الحكيم، المفكر. إننا نستعرض لأننا نعلم أن هناك متفرجين، حقًا لا ننتظر تصفيقهم، لكننا لا نتصرف خارج توقعهم.

هذه واحدة من ألمع النظريات المعاصرة حول مبدأ الفرجة والاستعراض، على حد تعبير صبحي حديدي.

وتنبأ جي في كتابه بما سيحدثه تكثيف الإعلام لتحويل الواقع إلى صور، فيتحول الواقع الى مزيف، حيث رأى أن «في عالم مقلوب رأسًا على عقب، يكون ما هو حقيقي لحظة من لحظات الزائف». وتطرق جي أيضًا لفكرة تغييب الرأي العام عن طريق تلاعب الإعلام بالذاكرة الجمعية للجماهير إلى أن يؤدي إلى اختفاء الرأي العام الذي يجد نفسه، في البداية، غير قادر على إجبار نفسه على الاستماع، ومن ثم سرعان ما يصير غير قادر على أن يصاغ، بعد أن يفقد المقدرة على التحليل النقدي، ويخرج من نظام الحوار».

ويعلق الكاتب بلال فضل على هذه الفقرة بأن أي سلطة بالطبع تفرح بإخراج الرأي العام النقدي والفاعل من ساحة المواجهة معها؛ لأن الحكومات تحب أكثر الرأي العام الذي يلعب دور الجمهور المصفق والمصدق لمختلف التفاهات والخرافات التي تلقي بها إليه. ويقول خوان جويتسيلو عن كتاب «مجتمع الاستعراض»: «هو أفضل الكتب تعريفًا لزمننا، أكثر حتى من ماركس».