لروح أمي التي احترقت كي أنير..

لروح أخي الذي آمن بي دومًا..

لروح أبي الذي علمني حب الفن..

لروح عائلتي العزيزة…

هل فقدت عزيزًا يومًا؟ أقصد هل فقدت أعز الأشخاص على قلبك فجأة دون سابق تمهيد، هل شعرت في لحظة ما أن حياتك انقلبت رأسًا على عقب وأنت لا تفهم ماذا حدث بالتحديد؟ على كل الأحوال أنا فعلت، فأنا- شيماء العيسوي- خسرت عائلتي كلها، المكونة من أب وأم وأخ، في لمح البصر. وأثناء مروري في مراحل الحزن الشهيرة في علم النفس، بالأخص في مرحلة الغضب، تساءلت بقلب يملؤه المرارة «لماذا يهبني الله، الذي أحبه أكثر من أي شيء، كل هذا الألم؟»..

كيف هي صورة الإله في أذهان المؤمنين؟

اتجه الإنسان منذ الأزل، وبسبب رغبته في التفسير، لإيجاد ما يطلق عليه الفلاسفة «إله الفجوات». كيان كامل كلي القدرة بيده أسباب الظواهر التي عجز عن إيجادها بعينه المجردة. فكرة الآلة فكرة اتفق عليها الإنسان القديم كمبدأ واختلف عليها كشكل، حيث اتخذت كل حضارة شكلًا مختلفًا للإله بناء على البيئة المحيطة بها، نجد مثلًا في الحضارة المصرية القديمة يتجسد تارة في تمساح النيل، النيل الذي يمثل للمصريين رمز الخصوبة والحماية ليكون الإله سوبكي هو إله الخصوبة، والبراعة العسكرية، وطاردًا للشر وأخيرًا، واقيًا ضد الأخطار. كذلك في الحضارة اليونانية والرومانية المهوسون بالحروب والغزوات والفلسفة والقوة الذكورية نجد زيوس/ جوبيتر كبير الألهة، شكلًا وموضوعًا، هو تجسيد حي لتلك الصفات، حتى في هوسه بالنساء هو معبر عن حضارة وفكر دولته.

 أما عن الأديان السماوية، كونها حرمت على أتباعها تقيد الله الخالق في صورة وجسد بعينه، لكونه خارج كل التجسيدات وأكبر منها وخالقها أجمع، أصبحت مهمة المؤمنين الشخصية للغاية غير المعلنة هي تصور شكل الله. في هدوء، ومن دون مناقشة الأمر مع أحد، يبدأ كل طفل في تخيل صورة الله. والصورة هنا غير مقصود بها الصفات، فأول ما يعرفه الطفل عن الله هو صفاته؛ كريم، رحيم، قوي، قادر ومحب، لكن الصورة التي يرسمها الطفل هي الصورة الجسدية.

يصعب على الطفل استيعاب فكرة دون تجسيدها، لذلك يرسم صورة طفولية للغاية للإله، صورة قد تكون نمطية للغاية في مجتمعات معينة مثل المجتمع المسيحي الغربي. يرسم فيها الطفل- بدعم من الحكايات والقصص الدينية- صورة للإله يكون فيها شيخًا كبيرًا ذا لحية طويلة، حكيمًا، بشوشًا لا تفارق البسمة وجهه، تستمر تلك الصورة بشكل أو بآخر في الأذهان، حتى لو لم تظهر شعوريًا، إلا أنها مطبوعة في اللاشعور. لكن هل تلك الصورة الطيبة حقًا تخدم «الإله»؟

عبث فرويد بما لا يمكن العبث به

انتحر فرويد! انتحر عراب التحليل النفسي الذي أسس ودافع عن غريزة الحياة إيروس، وغريزة الموت ثاناتوس، انتحر فرويد عن طريق جرعة كبيرة من المورفين طلبًا في الحصول على الراحة بعد ألم مستمر عانى منه بسبب تفشي السرطان في جسده.

الحقيقة أن مشاكل فرويد كانت مع الجميع، من جانب لديه مشاكل مع مجتمع الأطباء النفسيين الذي صدمه بآرائه الجريئة في الحياة النفس/ جنسية لدى الطفل، ومن جانب آخر اضطهاده في وطنه الأم من النازيين لكونه يهوديًا، أما الجانب المضطهد من فرويد المهم هنا هو اضطهاده من الطائفة الأرثوذكسية المسيحية، إضافة للطائفة اليهودية، بسبب كتابه موسى والتوحيد.

على الرغم من جرأة فرويد في ما يتعلق بهدم الثوابت النفسية المتعارف عليها فإنه كان متخوفًا من نشر كتابه السابق ذكره ونشره قبل انتحاره بعام فقط. فنفس الرجل الذي لم يخجل أن يعترف أنه- والجميع- يحمل مشاعر جنسية تجاه والدته، تخوف من إصدار كتاب يشكك به بعبرانية موسى. بل والأكثر فجاجة، أنه يرجع فكرة التوحيد التي نادى بها موسى -إخناتون في رواية فرويد- إلى العقدة الجنسية الأولى، أو ما يعرف بالجريمة الأولى التي يقتل بها الأبناء والدهم طمعًا في أرضه ونسائه.

فكرة صادمة بالتأكيد، فكرة اتهم فرويد بسببها من أبناء طائفته اليهودية بمعاداة السامية. نحن أمام رجل أخذ فكرة «أنسنة الإله» لمستوى جديد ومتطرف، مستوى يضع الإله/ الله الواحد رب الأديان السماوية في موضع الأب أو كبير العائلة الذي يحمل أفراد عائلته، خصوصًا الذكور، بثنائية وجدانية تجاه، من جانب يحبونه ويحترمونه ويقدسون قدراته وحكمته، ومن الجانب الآخر عند مقارنة أنفسهم به يحقدون على قوته وكونه المتحكم في مسار الأمور ومتخذ القرارات المهمة.

هذا بجانب نظرية فرويد التي تفسر الإلحاد على أنه في الأساس مشكلات تجاه الأب لم تحل في المرحلة الأوديبية يعبر عنها اللاشعور عن طريق رفض أي سلطة، بالأخص سلطة الإله الذي من الواضح أن فرويد يصر على وضعه في نفس خانة الأب. كل تلك الأفكار يمكن أن تؤدي بنا إلى أن فرويد انتزع، وبشكل صريح من الله عباءة الألوهية ووضع مكانها عباءة أرضية إنسانية. عباءة بالتأكيد لا تناسب خالق الكون.

انتحر فرويد متخليًا عن غريزة الحياة التي كانت المحرك الأساسي له منذ شبابه، الغريزة التي خلقت منه واحدًا من أنجح أطباء النفس البشرية على مدار التاريخ. انتحر فرويد لأنه لم يستطع تحمل الألم أكثر من ذلك، انتحر فرويد لأنه لم يجد الخلاص بأي طريقة، لأنه لم يستطع أن يصبّر نفسه بأن هذا الألم بالتأكيد ابتلاء من كيان أعلى ورحيم وعليه أن يتحمله، حتى لو لم يستطع معرفة السبب وراء كل تلك المعاناة. ولم يكن فرويد المفكر الوحيد الذي عانى من هذه المعضلة، فالكاتب «سي إس لويس» مر بنفس الأفكار في رحلة تعافيه من فقدان زوجته الحبيبة.

أنسنة الإله لا تفيد التقبل بالتأكيد

في رحلة تعافي الكاتب لويس من الفقدان المليئة بالألم التي سطرها في كتاب قصة فقدان، يستطرد في التعبير عن أفكاره حول صورة الإله وهل أفادته تعازي المحيطين أن أبانا الذي في السماوات يعلم، أن أبانا الذي في السماوات أسهم أقداره تصيب من يثق بقدراتهم على التحمل، أنه يختبر من يحب. وكانت إجابة لويس هي لا قاطعة، لا لكل الأسئلة.

سبب تلك اللاءات هي رفضه فكرة أن الله هو «أب» خبير حكيم يختار لأطفاله ما هو مفيد لهم حتى لو لم يحبوا هذا الاختيار. ويعرض السيد سي في كتابه أن مقدار الغضب تجاه الله في نفسه كان في ازدياد كلما فكر أن الله/ الأب اختار له أن يفقد محبوبته لأن هذا أفضل له، كلما تخيل أن الله وهو الشيخ الحكيم بهيئته البشرية وضعه في هذا الاختبار المؤلم شعر أن الأمر شخصي بينهما، وأن عليه تخليص حقه عن طريق التذمر والصراخ بسؤال «لماذا؟» المتكرر.

وبعد تجاوز مرحلة الغضب المكون الأساسي لأي مرحلة تعافي، أدرك لويس أن مجرد وضع الله في صورة بشرية، ومهما كانت حكيمة وبشوشه وطيبة، يجعل منها ندا، يجعل التعامل يتحول من حدود العلاقة الربانية والعبودية المسلمة تمامًا لله وقدره وحكمته، لعلاقة بشرية- بشرية يتساءل فيها عن السبب وقد يرفض إجابة السؤال.

العلاقة الأخيرة تلك تُفقد تجربة الإيمان أهم جزء منها، وهو تقبل الأقدار كما هي من دون مراجعة أو مناقشة أي أن الفكرة تؤدي لعكس المطلوب منها بالضبط، تجعلك ترفض لا تتقبل، تغضب وتثور لا تهدأ، تتساءل بعنف «لماذا فعلت معي هذا يا الله» بدلًا من ترديد «الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله».