رأينا في مقالنا السابق كيف كانت الحضارة العباسية في القرن الرابع الهجري من القوة والمهابة والسطوة وبراعة التمثيل حتى إن سفير الإمبراطور البيزنطي ذُهل من عظمة الاستقبال في بغداد في شهور سنة 304هـ/917م على ما ذكره مؤرخو تلك الحقبة كالصابي والبغدادي وغيرهم، قُبيل انطلاقة ابن فضلان بخمس سنوات فقط.

وعلمنا أن ابن فضلان كان رجلاً فقيهًا كُلّف من قِبل الخليفة العباسي المقتدر بالله أن يكون مسئول الفقه والفتوى في هذه الرحلة وليكون فقيهًا لأولئك البلغار الذين استنجدوا بالخليفة العباسي كي يبني لهم حصنًا يقيهم غارات الخزر القاطنين بالقرب منهم، وقد كانوا قريبي عهد بالإسلام.

لقد كان البلغار شعبًا أسس في بداية العصور الوسطى دولتين، أقدمهما تلك التي زارها ابن فضلان في حوض الفولجا الأوسط أو نهر إتل كما تسميه المصادر العربية، وتطلق كلمة بلغار على الشعب وعلى البلاد وعلى عاصمتها التي كانت تقع شرقي نهر الفولجا، والتي لا يزال بعض أطلالها قائمًا على مقربة من مدينة قازان الحالية وعلى نحو ستة كيلو مترات من شاطئ الفولجا الأيسر [1].

وإننا لا نعرف على وجه التحقيق متى اعتنق البلغار الإسلام؛ فالجغرافي أحمد بن عمر بن رُستة [2] الذي ألّف كتابه «الأعلاق النفيسة» حوالي سنة 291هـ/903م ذكر فيه أن «أكثرهم ينتحلون دين الإسلام، وفي محالّهم مساجد ومكاتب [3] ولهم مؤذّنون وأئمة … وملابسهم شبيهة بملابس المسلمين، ولهم مقابر مثل مقابر المسلمين»[4].

ويبدو من تاريخ الخزر –وهم قوم أقرب للبلغار في الهيئة والعرق– أن استنجاد البلغار الصقالبة للعبّاسيين كان في محلّة؛ ذلك لأن الخزر قومٌ كانوا يدينون باليهودية ويقطنون في المناطق المحيطة ببحر قزوين في شماله وغربه، وكان يُطلق عليه آنذاك بحر الخزر، ويبدو من حديث الرحّالة والجغرافيين السابقين لابن فضلان مثل ابن خردذابّة واليعقوبي، واللاحقين له مثل ابن الفقيه عن شعب الخزر أنهم قوم شديدو البأس على جيرانهم في الجنوب في أرمينية وإيران والشمال كالبلغار والصقالبة والروس، بل اصطدم ببأسهم الفرس والفاتحون المسلمون الأوائل من قبل ذلك أيضًا [5].


موفدو الخليفة ومسار الرحلة

إزاء هذا العرض المغري حيث التعاون العسكري والثقافي، والاعتراف بالسيادة العبّاسية في الأقطار الأوربية الشمالية، أمر الخليفة العبّاسي المقتدر بالله وكان في السابعة والعشرين من عمره آنذاك مع عدد من المتنفّذين في السلطة العبّاسية كالوزير حامد بن العبّاس [6] أن يوفد من قِبلهم وفد على رأسه أربعة أشخاص تم انتقاؤهم بعناية، وهم: سوسن الرُّسي، وتكين التركي، وبارس الصقلابي، وأحمد بن فضلان الفقيه، ومعهم دليل هو رسول البلغار الصقالبة وكان للغرابة رجلاً من أصول خزرية لكنه كان مسلمًا ويُدعى عبد الله بن باشتو الخزري.

ويبدو أن اثنين من أعضاء الوفد البغدادي كانا يعرفان الروسية؛ فالأول سوسن يبدو في نسبته أنه من بلاد الروس قد استُجلب كرقيق ثم تعلّم العربية وحسُن إسلامه وتقدّمت به مراتبه، والثاني بارس الصقلابي واسمه ونسبته دليلان على أصله، وأما الثالث فهو تكين التركي وقد اختير كما يبدو لأنه تركي الأصل يُجيد لغات الأتراك في آسيا الوسطى حيث يمرّ الوفد في تلكم الأراضي في رحلة الذهاب والإياب إلى نهر الفولجا «إتل»[7].

أما ابن فضلان فقد كانت مهمته كما أسلفنا القيادة الدينية للوفد، وإن كان يُشير إلى كونه زعيم الوفد بالكلية إذ قال: «فنُدبتُ أنا لقراءة الكتاب عليه، وتسليم الهدايا، والإشراف على الفقهاء والمعلّمين»[8].

وفي يوم الخميس 11 صفر سنة 309هـ = 21 يونيه 921 م انطلق الوفد من بغداد باتجاه الشرق فمر ببلاد همذان والري (بالقرب من طهران الآن) وساوه ونيسابور وخراسان ومرو وصحراء آمُل وبخارى وخوارزم وبلاد ما وراء النهر ثم إلى الشمال الغربي باتجاه بلاد «الكفار» –كما يسمهم ابن فضلان– وهي بلاد الأتراك الغز والقفجاق ثم وصل الوفد إلى أرض الصقالبة عند نهر الفولجا في يوم الأحد 12 محرم 310هـ = 11 مايو 922م، بعد رحلة شاقة كادوا أن يهلكوا فيها مرارًا استمرت أحد عشر شهرًا كاملاً!

واتجاه الوفد هذه المسافة المرهقة الطويلة للغاية على ظهر الدواب، في جو متقلّب ما بين شدة الحر إلى العاصف شديد البرودة والزمهرير حيث تمتد اليوم من العراق إلى إيران إلى أفغانستان إلى تركمانستان إلى أوزباكستان إلى كازاخستان ثم إلى وسط روسيا على نهر الفولجا كان اضطراريًا، فقد كان البيزنطيون والخزر في شمال الخلافة العباسية حاجزًا صعبًا وأشد خطورة أمام هذا الوفد الكبير الذي كان مكونا من ثلاثة آلاف دابة وخمسة آلاف رجل!


ابن فضلان وعجائب التُرك وبلادهم!

أما ما شاهده ابن فضلان في هذه الرحلة المرهقة فدليل على براعة الرجل، وصدق حديثه، ونبل أخلاقه، وجزالة لغته.

لقد سار ابن فضلان في ديار الإسلام من بغداد في العراق إلى مدينة الجُرجانية[9] شمال مدينة خوارزم على نهر جيحون [10] على الحدود مع بلاد الأتراك مسيرة أربعة أشهر كاملة، في ظل الخلافة العباسية والدولة السامانية في أقصى شرقيها والتي كانت تدين بالولاء والتبعية لبغداد، وزاد عليها ثلاثة أشهر أخرى اضطر فيها البقاء مع الوفد في مدينة الجرجانية تلك بسبب قسوة الشتاء، فهو يقول عنها: «فرأينا بلدًا ما ظنّنا إلا أنّ باباً من الزَّمهرير قد فُتحَ علينا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة، وإذا أتحفَ الرجلُ من أهله صاحبَه وأراد بِرَّه قال له: “تعال إليَّ حتّى نتحدثَ فإنَّ عندي ناراً طيبة»[11].

وحينما بدأ الجو في التحسّن بعض الشيء في شهر شوال من نفس العام/ منتصف فبراير 922م بدأوا الاستعداد والرحيل، لكن الوفد كان قد طُلب منه أن يأخذ مالاً قدره أربعة آلاف دينار من أموال ضيعة مصادرة لوزير عباسي سابق هو ابن الفرات، وقد فشل الوفد في استيفاء هذا المال بسبب خيانة وكيل ابن الفرات في تلك البلاد وهو رجل نصراني يُدعى الفضل بن موسى النصراني، فاضطر ابن فضلان ومن معه إلى استكمال الرحلة دون الإيفاء باستلام المال الذي من المفترض أن يُسلّم إلى ملك الصقالبة ابن يلطوار.

ونتيجة للبرد القارص، وإشاعات أهالي تلك الأقاليم الحدودية والمخيفة عن بلاد الأتراك، اضطر قسمٌ من الوفد إلى البقاء في الجُرجانية؛ «فزعًا من الدخول إلى ذلك البلد»[12]، وقد صدقت أحاديث أهالي الحدود من المسلمين عن بلاد الترك؛ فابن فضلان يُقرّ بذلك قائلاً: «فسِرنا فيها عشرة أيام، ولقد لقينا من الضر والجهد والبرد الشديد، وتواصُل الثلوج الذي كان برد خوارزم عنده مثل أيام الصيف، ونسينا كلَّ ما مرَّ بنا، وأشرفنا على تَلَف الأنفُس»[13]!

ذلك الجهد الذي لاقاه ابن فضلان كان فقط مجرد بداية في مسيرة مرهقة استمرت سبعين يومًا كاملة، سرعان ما دخل الركبُ بعدها بلاد «الغزّية» أو الغُز، والغز قوم من الترك يرحلون وبيوتهم من خيام الشعر والجلود؛ فكأنهم بدو الترك، وترجع أصول السلاجقة الذين ظهروا طوال القرن الرابع والخامس والسادس والسابع وحتى أوائل القرن الثامن الهجري إلى أولئك الأقوام الوثنيين [14] الذين «لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئًا، بل يُسمّون كبراءهم أربابًا. فإذا استشار أحدُهم رئيسه في شيءٍ قال له: ياربِّ إيش أعمل في كذا وكذا؟»[15].

وقد وصف ابن فضلان بعض عادات وغرائب الغز التي كانت متعارفة فيما بينهم آنذاك؛ فمنها أن الرجل إذا مرض منهم «وكان لهم جَوار وعبيد خدموه ولم يقربه أحد من أهل بيته، ويضربون له خيمة، ناحية من البيوت، فلا يزال فيها إلى أن يموت أو يبرأ، وإن كان عبدًا أو فقيرًا رَمَوْا به في الصحراء وارتحلوا عنه»[16].

وبينما كان ابن فضلان والقافلة المرافقة له يتأملون في تلك العادات، فوجئوا بأن الغُزَّ يتشاورون فيما بينهم على قتلهم والاستيلاء على هذه القافلة الكبيرة، مما سبّب لهم رعبًا شديدًا، ولكن في نهاية الأمر سمحوا لهم بالعبور، فاتجهوا غربًا حتى تمكنوا من الدخول إلى مناطق البجناك أو القفجاق «وهم سُمرٌ شديدو السُّمرة، وإذا هم مُحلِّقو اللّحى فقراء، خلاف الغزّيّة»[17].

وتوغّل الوفد شمالاً فإذا هم يُفاجئون بطائفة أخرى من الأتراك تُسمى «الباشغرد» وقد خافوا منهم للغاية لما سمعوه عنهم؛ «وذلك أنهم شرّ الأتراك وأقذرهم، وأشدّهم إقدامًا على القتل»[18]، وقد اندهش ابن فضلان من معبودات هذه الطائفة من الترك؛ حيث تنوعت بصورة لافتة؛ فمنهم «من يزعمُ أن له اثني عشر ربّاً: للشتاء ربٌّ، وللصيف ربٌّ، وللمطر ربٌّ، وللريح ربٌّ … ورأينا طائفة منهم تعبدُ الحيَّات، وطائفة تعبدُ السمك، وطائفة تعبدُ الكراكيَّ»[19].

ولم يفت ابن فضلان أن يُفصّل أهم الأماكن والأنهار التي مرّ الوفد بها في بلاد الترك، والتي يبدو في الرسالة أنها تبدأ من بلدة الجُرجانية وهي آخر بلاد المسلمين التابعة لإقليم خوارزم في بلاد ما وراء النهر – التابع آنذاك للدولة السامانية الخاضعة للعباسيين – وتنتهي عند نهر جاوشيز، وهو نهر رجّح المستشرق الألماني فراي أنه نهر أكتاي بالقرب من حوض الفولجا.

أما عبور ذاك الوفد الكبير لتلك الأنهار فقد كان عسيرًا شديد العُسر، من خلال ركوب ما سمّاه ب«السُّفَر» وهي نوع من القِرب الكبيرة المدوّرة المصنوعة من جلود الجمال وغيرها، غالبا ما كانت تُحشى الملابس والقشّ وغيرها، «فإذا امتلأت جلَس في كلِّ سُفرة جماعة من خمسة وستة وأربعة، وأقلّ وأكثر، ويأخذون بأيديهم خشب الخدنك فيجعلونه كالمجاديف، ولا يزالون يجدفون والماء يحملها وهي تدور حتى نعبر. فأما الدواب والجمال فإنّه يُصاح بها فتعبرُ سباحة»[20]، وذكر ابن فضلان أن بعض الناس غرق بسبب انقلاب هذه السُّفَر في الأنهار سريعة الجريان.

تلك أهم المعالم والمشاهد التي رآها ابن فضلان منذ خروجه من بغداد وحتى وصوله إلى مشارف بلاد الصقالبة التي قصدها بأمر من الخليفة العباسي المقتدر بالله، وفي مقالنا الأخير القادم في حديثنا عن ابن فضلان ورسالته ومشاهده، سنقف مع دولة الصقالبة ورسومها، وأغرب ما شاهده فقيهنا في بلاد الروس آنذاك، وقد كان وصفه لتلك الأقطار أحد الإضاءات المهمة التي اتكأ عليها علماء الجغرافيا والتاريخ الروسي في التعرف على بلادهم التي كانت غارقة من الجهل والبداوة آنئذ.


[1] زكي محمد حسن: الرحّالة المسلمون في العصور الوسطى ص26. دار الرائد العربي – بيروت، 1981م.[2] سمّاهم ابن رُستة ب«البلكار».[3] المكتب هو المكان المخصص لتعليم الأطفال القرآن والخط والكتابة، وهو ذاته الكُتّاب.[4] ابن رستة: الأعلاق النفيسة ص141، 142. طبعة لَيدن – هولندا، 1891م.[5] انظر: ابن خردذابة: المسالك والممالك ص261. ليدن، 1889م. وابن الفقيه: البلدان، تحقيق يوسف الهادي ص588. عالم الكتب، الطبعة الأولى – بيروت، 1996م.[6] حامد بن عباس: وزيرٌ، من عُمّال العباسيين. كان يلي نظر فارس وأضيفت إليها البصرة. ثم طلب إلى بغداد وولي الوزارة للمقتدر سنة 306 هـ وانتهى أمره بأن عزله المقتدر سنة 311 هـ وقبض عليه وأرسل إلى واسط فمات فيها مسموما. وكان جوادا ممدَّحاً، من كتّابه ابن مقلة. الزركلي: الأعلام 2/161.[7] سامي الدهّان: مقدمة رسالة ابن فضلان ص24.[8] رسالة ابن فضلان ص68.[9] تقع الآن في جمهورية أوزباكستان وتُسمى باللغة الخوارزمية مدينة أوركنج.[10] آمو داريا أو جيحون نهر آسيوي يبلغ طوله 2,525 كيلومتر، عُرف قديما باسم «أوكسوس» ولدى العرب باسم جيحون، وقد عرف النهر بالحد الفاصل بين كل من أفغانستان وطاجكستان وأوزبكستان و يصب في الساحل الجنوبي لبحر أرال في دولة كازخستان الحالية.[11] رسالة ابن فضلان ص83.[12] رسالة ابن فضلان ص88.[13] رسالة ابن فضلان ص89.[14] راجع كتابنا: آخر أيام العباسيين، وحديثنا المفصّل عن السلاجقة وأصولهم.[15] رسالة ابن فضلان ص91.[16] رسالة ابن فضلان ص99.[17] رسالة ابن فضلان ص107.[18] رسالة ابن فضلان ص108.[19] رسالة ابن فضلان ص109.[20] رسالة ابن فضلان ص105.