إن الحاجة لتدوين التجربة والخبرة هي حاجة إنسانية في الأساس، فتدوين المشاهدات عبر طرق السفر الطويلة طبيعة إنسانية تستدعيها رغبة الإنسان في أن يكون هذا التدوين شاهدًا على رحلته ومروره عبر الأماكن والبلدان.

بعد فتح المسلمون لشمال أفريقيا وتأسيس الدولة الإسلامية في الأندلس، جرت العادة أن يمر الحُجّاج القادمون من الأندلس والمغرب عبر الجزائر، فتونس وليبيا ومصر، ثم الشام، وصولاً للحجاز. رحلة سفر طويلة يقطعها الحاج من أقصى غرب العالم الإسلامي كي يصل لمكة، وهنا بدأ الرحّالة في تدوين أخبار رحلاتهم، وكان أشهرهم ابن خلدون الذي خرج من تونس بغرض الحج ثم تنقّل بين مصر والشام، وألّف عن الحياة الاجتماعية فيهما بجانب بلاد المغرب. وابن جبير الشاعر الأندلسي الذي قام بثلاث رحلات من مغرب العالم الإسلامي لشرقه، ودوّن أخبار الرحلة الأولى في شبه مذكرات يومية تُعرف باسم «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار» وعُرفت أيضاً باسم «رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك».

ابن جبير: أندلسي في المشرق

القارئ لرحلة ابن جبير يدرك أنها من أهم من جاء في أدب الرحلات، نظراً للوصف الدقيق الذي أورده عن مدن البحر المتوسط التي مرّ بها، ونظام المكوس والجمارك في كل ميناء عبر في رحلته من خلاله في العالم الإسلامي، هذا إلى جانب وصفه الدقيق لبلاد الحجاز، ولأنه اختار العودة إلى موطنه عبر طريق يختلف عن الطريق الذي يسلكه الحجاج العائدون إلى المغرب الإسلامي في العادة، فقد ساعد هذا على تدوين ملاحظاته عن نجد والعراق وعكا ومدن وجزر بحر متوسطية في رحلة عودته إلى الأندلس.

كان ابن جبير يُسهِب أحياناً في وصف النسيج العمراني والبشري لبعض المدن، ثم يكتفي بإشارات مقتضبة للبعض الآخر، وربما يرجع سبب ذلك إلى طول إقامته في المدن التي يتناولها بالوصف الدقيق، على عكس مروره العابر بتلك المدن التي يصفها بإيجاز متعجل.

ابن جبير في الإسكندرية: لقاء أول

وصف ابن جبير الإسكندرية، ولاحظ ككل زائر يأتي إلى مصر عادة أهلها في السهر والسمر، فقال: «ومن الغريب أيضاً في أحوال هذا البلد تصرف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم»، والجميل في وصفه أنه رسم صورة لمبانيها ومنشآتها، حين أبدى إعجابه بفنارها وبالمدارس فيها، بخاصة تلك المدارس التي خُصصت للغرباء، فقال:

من مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه، المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفِدون من الأقطار النائية، فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومُدرِّساً يُعلِّمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء يقوم به في جميع أحواله.

كما أشار ابن جبير إلى عناية السلطان بأهل المدينة في أبسط أحوالهم، التي امتدت لتشمل حتى الغرباء القادمين للعلم، فنجده قد تحدث عن الحمام والبيمارستان الذي شيّده السلطان لأولئك الغرباء، وإلى الأوقاف التي خصّصها لهم:

واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين، حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرِض منهم، ووكّل بهم أطباء يتفقدّون أحوالهم، وتحت أيديهم خُدّام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتّب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء بخاصة، وينهون الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم. ومن أشرف هذه المقاصد أيضاً أن السلطان عيّن لأبناء السبيل من الغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغاً ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كل يوم إنساناً أميناً من قِبله. ينتهي في اليوم ألفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائماً، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عيّنه من زكاة العين لذلك. وأكّد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا صلب ماله.

كما لاحظ ابن جبير كثرة المساجد في الإسكندرية، وقال إنها توجد منها الأربعة والخمسة في شارعٍ واحد، وإن كان العدد النهائي للمساجد في المدينة الذي افترضه ابن جبير (ثمانية آلاف) يبدو مبالغاً فيه، بل وأنه تحدث أيضاً عن رواتب أئمة تلك المساجد قائلاً:

وهو أكثر بلاد الله مساجد، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط. فمنهم منْ يقول ثمانية آلاف، ومنهم منْ يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جداً تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع، وربما كانت مركبة وكلها بآثمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر، وهي عشرة مؤمنية، ومنهم من له فوق ذلك ومنهم من له دونه.

في ميناء الإسكندرية ظهرت النزعة النقدية لدى ابن جبير، حين انتقد المعاملة التي عُومل بها الحُجّاج من أمناء السلطان الذين صعدوا إلى المراكب وقاموا بحصر منْ كان فيه واحداً واحداً، وكتبوا أسماءهم وصفاتهم وجنسياتهم، وما كان يحمل كل واحد منهم من سلعٍ أو دراهم، ثم فرضوا عليهم أداء زكاة عمّا يحملونه، سواء مرّ عليه الحول أم لم يمر، ثم أمروا الحجاج بتنزيل أمتعتهم من المركب على ساحل البحر، ثم استدعوا راكباً راكباً، وَفّتشوا أمتعتهم تفتيشاً دقيقاً، وصوّر ابن جبير حالة الاضطراب الشديد الذي أصاب المسافرين نتيجة تزاحمهم وتدافعهم واختلاط أمتعتهم، بل وضياع بعضها بأنه: «من سوء الأحدوثة، وموقف من الخزي والذل عظيم».

هذا الوصف في الواقع يقودنا للتأمل في حال ما يُطلق عليه اليوم (الجمارك)، وأنها ليست إلا امتدادًا متطورًا لضريبة المكوس في العالم الإسلامي القديم، ومن الواضح أن صفة الحزم في موانئ الإسكندرية قديمة [1]. فقد ذكر «نيكولا زيادة» في كتابه «رواد الشرق العربي» أن السائح المسيحي «برنارد الحكيم» روى عن نفسه (في القرن التاسع الميلادي) أنه فُتش في الإسكندرية وحُقق معه، ودفع قبل مغادرته الميناء ستة دنانير ذهبية.

ابن جبير في عكا وصور: تعايش المتناقضات

كتب ابن جبير عن عكا، وقد اتبع اسمها قائلاً: «دمرها الله وأعادها» وهذا يعكس نوع من العدائية المسبقة لمدينة لم يزرها لمجرد وقوعها في يد الصليبيين، قائلًا:

هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرفأ كل سفينة، والمشبهة في عظمتها بالقسطنطينية، مجتمع السفن والرفاق، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق.

كما وصف ابن جبير عديداً من معالم المدينة التي لا تزال قائمة حتى الآن، منها مقام النبي صالح، وهو قائم اليوم في وسط إحدى مقابر المدينة، وكذلك عين البقر التي ذكرها ابن جبير قائلاً:

وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم. والمهبط لهذه العين على أدراج وطية، وعليها مسجد بقي محرابه على حاله، ووضع الإفرنج في شرقيه محراباً لهم. فالمسلم وغير المسلم يجتمعان فيه، يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه. وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين.

وهنا تبرز التعددية الثقافية لبلاد الشام والتسامح بين المسلمين والمسيحيين من خلال تقارب أماكن العبادة، وأيضاً حفظ المسيحيين للمسجد وصيانته، هذا إلى جانب حقيقة أن التبادل التجاري بين المسلمين وغير المسلمين -كما تُظهِره الرحلة- لم يتأثر كثيراً بالسياسة، ما دام التجار من كلا الجانبين يدفعون ضرائبهم [2]، فيقول في موضعٍ سابق عن نصارى ومسلمي الشام: «وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب». [3]

أمّا مشاهدات ابن جبير لمدينة «صور» فاتسمت بالإعجاب الظاهر، ولو أنه استهل حديثه عنها أيضاً بدعاءٍ أن يدمرها الله، لكنه أشاد بتحصينها ونظافة شوارعها ورِقة طباع أهلها، وجمال بيوتهم واتساعها، كما قدّم وصفاً تفصيلياً لبابيها الذي أرجع حصانة المدينة لوجودهما فقال:

وأمّا حصانتها ومناعتها فأعجب ما يُحدث به، وذلك أنها راجعة إلى بابين: أحدهما في البر، والآخر في البحر، وهو يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالذي في البر يُفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائرٍ مشيدة محيطة بالباب، وأمّا الذي بالبحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص.

وفي الواقع هذا الوصف الدقيق يشي بدقة ملاحظة ابن جبير ومعرفته بالعمارة، ولو بشكلٍ بسيط. ومن الطرائف التي وصفها ابن جبير في أثناء مروره بصور حفل زواج (أفرنجي)، وكان استغرابه الشديد من عاداتهم وملابس العروس والمدعوين والآلات الموسيقية التي سّماها (الآلات اللهوية) طريف، إذ إنه كان يصف ببعض الانبهار جمال العروس ومشيتها وزيها، ثم يستعيذ بالله من فتنة المنظر، لكن جمالية الوصف في كونها حفظت لنا مظهر احتفالي في يومٍ عادي من أيام مدينة صور في هذا الزمن. [4]

ابن جبير في صقلية: تضارب يستتر فيه الإعجاب

عندما وصل ابن جبير إلى صقلية وصفها، ولكنه وصفه جاء مليئاً بالتناقضات، فهو في بعض المواضع يذكرها بعدم الأمان فيقول: إنه «لا يقر فيها لمسلم قرار»، وحتى أنه وصفها بأنها مدينة غير مؤنسة للغريب: «لا توجد لغريب أنساً» ثم يعود ليقول بعدها: «أن أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان».

زار ابن جبير بعد ذلك بالرمة (بالرمو) عاصمة البلاد، وزار غيرها من مدن الجزيرة، ووصف مبانيها ومنشآتها وعمارتها وقصر الأمير «غليام الأبيض» الذي قال عنه: «قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر»، وتآلف حكامها المسيحيين مع رعاياهم من المسلمين، وقد كان عددهم لا يستهان به في تلك المدينة التي تلاقت فيها مختلف الديانات الوثنية مع المسيحية والإسلامية، وهنا إشارة أخرى للتنوع الثقافي الذي كان يبدو واضحاً بين سكان مدن البحر المتوسط، بخاصة وأنه شهد بأن الحكام المسيحيين كانوا يحسنون معاملة المسلمين، ويستخدمونهم في الوظائف والمهن، حتى في أبرز الأعمال وأهمها لدى الأمير غليام، وكأن الحروب الصليبية التي تلتهم الشرق بين الفرنجة والمسلمين غير كائنة. [5]

العودة إلى الأندلس والبقاء الأخير في الإسكندرية

سافر ابن جبير من صقلية إلى قرطاجنة الأندلسية، ووصل إليها في الخامس عشر من المحرم عام 581هـ، ثم واصل السفر منها إلى أن وصل غرناطة في الثاني والعشرين من المحرم بعد أن غاب عنها حول عامين وثلاثة أشهر.

وقام ابن جبير برحلة ثانية إلى الشرق الإسلامي عام 585ﻫ، استغرقت عامين وبعض أشهر. وقد كان سبب ذلك رغبته في متابعة أخبار الحروب الصليبية وانتصارات المسلمين على الفرنجة، خصوصاً بعد استيلاء صلاح الدين على بيت المقدس عام 853ﻫـ.

ترك ابن جبير غرناطة، وانتقل إلى بلاد المغرب حيث أقام فيها عشرين عاماً؛ رحل بعدها إلى الشرق الإسلامي مرة ثالثة عام 614ﻫ. ولكن تلك المرة كان رحيله حزناً على وفاة زوجته عاتكة، التي ماتت في ذلك العام.

وفي النهاية استقر ابن جبير في الإسكندرية، وتوفي بها وقد تجاوز الثانية والسبعين، بعد أن سافر بين مدن وبلاد البحر المتوسط في زمن كان التمازج الثقافي والتعايش والتنوع كلمات سر مدن البحر المتوسط.

أدب الرحلات عين إنسانية تندهش لمرة أولى وأحياناً أخيرة لما تراه وتتفاعل معه، عكس التدوين التاريخي الذي قد لا يُلزم صاحبه بالسفر أو معايشة المواقف التي يمر بها السائح من بلدٍ إلى بلد. وهكذا تتكامل التجربة التاريخية الإنسانية بين التدوين التاريخي وأدب الرحلة.

المراجع
  1. ابن جبير، «رحلة ابن جبير»، دار صادر، بيروت، 1964، ص: 13-18.
  2. المرجع السابق، ص: 267.
  3. المرجع السابق، ص: 260.
  4. المرجع السابق، ص: 277-279.
  5. المرجع السابق، ص: 296-299.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.