يوصف بـ الحارس الأمين للحركة الإسلامية الفلسطينية، ويعد من شباب الجيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، فقد عايش وهو طفل صغير نكبة فلسطين عام 1948، ثم وهو شاب عايش نكسة 1967 وما تلاها من أحداث، وبعد ذلك لعب دورًا رئيسيًا في تأسيس وصناعة القرار السياسي لحركة حماس، إذ شغل فيها عدة مواقع قيادية، أهمها تشكيله أول لجنة سياسية للحركة بالخارج عام 1989، ثم تعيينه أول متحدث رسمي باسم حماس في الفترة 1991-1999، وبعدها رئيس مجلس شورى الحركة في الفترة من 1995-2004.

إنه «إبراهيم غوشة» الرجل الكتوم الذي فضل العمل من وراء الستار، ثم في السبعين من عمره، وبعد واحد وعشرين عامًا على إعلان تأسيس حماس، قرر أن يخرج عن صمته ويكتب تجربته وشهادته حول خفايا نشأة حماس وطبيعة الدور الذي لعبه سياسيًا وعسكريًا، إضافة لتسجيله مواقف الدول الغربية من القضية الفلسطينية بالغرف المغلقة، ولقاءاته مع شخصيات قيادية، كصدام حسين ورفسنجاني والملك فهد والقذافي وعلي عبدالله صالح والملك حسين.

صافرات الحرب

بعد أشهر قليلة على الثورة الفلسطينية التي فجرها الشيخ عز الدين القسام، وُلد إبراهيم غوشة في القدس بحارة السعدية القديمة عام 1936. وعائلته تاريخية عاشت في القدس على مدار خمسمائة عام، واشتغلت في الميادين التجارية وبخاصة تجارة اللحوم، وبرز أيضًا العديد منهم في ميدان العلم والقضاء.

مسجد المئذنة الحمراء في مدينة القدس

تأثر غوشة بالبيئة التي ترعرع فيها، وكان بيته يقع داخل أسوار القدس ولا يبعد عن الأقصى أكثر من خمس دقائق، كما كان البيت قريبًا من جامع مئذنته مميزة، مبنية بالحجر الأحمر، ولذا سمي بجامع «المئذنة الحمراء» ويعود تاريخه إلى العهد العثماني، وهو مسجد أحبه غوشة منذ تفتحت عيناه عليه، لذا اختاره ليكون عنوانًا لمذكراته، ودلالة على ارتباطه بالمكان الذي نشأ فيه ثم أجبر بعد ذلك على الرحيل منه.

كتب إبراهيم غوشة سيرته في كتاب «المئذنة الحمراء.. سيرة ذاتية»، وقد صدر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت.

يتذكر غوشة تفاصيل طفولته، وكيف كان يلعب مع أقرانه في أزقة القدس لعبة «القلال» و«طقو واجري» و«صيد العصافير»، ثم تقاليد الاحتفال بشهر رمضان، حين كان يجتمع مع الأطفال في إحدى ليالي رمضان، ويطوفون بمنازل الحارات وهم يهتفون: «قاعد على المصطبة والدكة مقصبة.. يا أهل البيت طعمونا»، فيأتي لهم أهل البيت بالمكسرات.

لكن سرعان ما بدأت معاناة غوشة مبكرًا في ال12 من عمره، إذ عايش ظروف الاحتلال الإسرائيلي الذي عصف بوطنه، وشاهد حوادث التهجير ومعارك القتال في القدس. وحين ازدادت معارك القدس إبان أول حرب شهدها عام 1948، اضطرت عائلته للنزوح إلى أريحا، وابتعد غوشة عن دراسته في مدرسة الشيخ جراح، وبدأ يساعد والده في التجارة.

ويحكي غوشة أن معنويات الشعب الفلسطيني في تلك الفترة كانت عالية، ولديهم القدرة على الرد على الصهاينة، لكن عدم حصول «عبد القادر الحسيني» على السلاح من الدول العربية، واستشهاده بعد ذلك في معركة القسطل الشهيرة، أثر بشكل كبير على مسار الأحداث وترك ألمًا وندوبًا في نفس غوشة، ويقول:

بعد استشهاد عبد القادر الحسيني في 1948/4/9 ارتكب الصهاينة مجزرة دير ياسين، وأنا كنت من الذين رأوا عبد القادر الحسيني بعدما استشهد، مسجى في بيته في باب الساهرة.
ص28

ثم عندما هدأت الأمور في القدس، عادت العائلة إليها في شتاء 1949، وتابع غوشة دراسته في مدرسة الرشيدية، ويحكى أن حرب 1948 أثرت عليه بشكل كبير، فكان من نتائجها على نفسه، أن شغل عقله سؤال، لماذا حصلت النكبة.. لماذا هزمنا؟ وقد تأثر ساعتها بطبيعة الحياة الثقافية والاجتماعية في القدس، وانجذب إلى الإخوان المسلمين وهو في ال14 من عمره، ويقول:

قلت في نفسي كيف نستطيع أن نعيد عهد العرب المسلمين الأوائل، كيف؟ وعندما قرأت في فكر الإخوان وجدت أن هذا الطريق ربما الوحيد لإعادة هذا المجد الذي كنت أعشقه، وفعلا انخرطت في الإخوان المسلمين وأنا في الصف السابع الابتدائي.
ص40

ويحكي غوشة أنه في تلك الفترة كان واعيًا بأهمية دينه، وكان يقرأ كثيرًا في كتب السيرة والتاريخ للبحث عن مخرج للوضع القائم، وأعجب بشكل خاص برسائل حسن البنا وكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب. كما احتك مع كبار الشخصيات الإسلامية في القدس، من بينهم الشيخ «تقي الدين النبهاني» مؤسس حزب التحرير، وقد تأثر به وكان يداوم على حضور دروسه، كما التقى بالشيخ «محمد البشير الإبراهيمي»، والتقى أيضًا بسيد قطب حين زار القدس عام 1953 في المؤتمر الشعبي الإسلامي، ويقول غوشة عنه:

أذكر أنه نظمت محاضرة في شعب الإخوان سنة 1953 خارج السور، وألقى سيد قطب كلمة، فقال، لا نريد من الجيوش العربية أن تحرر فلسطين، نريد أن يسمح للمجاهدين بأسلحة خفيفة، هؤلاء هم الذين سيحررون فلسطين.
ص49

وحسب رواية غوشة، فقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين بالقدس عام 1945 في منطقة الشيخ جراح، وكان لها مبنى مقابل القنصلية السعودية، لكن الإخوان في ذلك الوقت كانوا عبارة عن حركة دينية رياضية اجتماعية، ولم تتشكل من الناحية السياسية إلا بعد 1948.

ورغم أن الإخوان كانوا من أكبر الجهات الشعبية التي أرسلت مقاتلين إلى فلسطين، لكن تجربتهم في فلسطين 1948 ثم في قناة السويس 1951 عندما أخذوا من الجبهات إلى المعتقلات، جعلتهم يركزون على فكرة وجوب قيام الدولة الإسلامية أولًا، وهذه الدولة هي التي تقوم بعد ذلك بواجب الجهاد.

فحسب غوشة، ظلت هذه الرؤية مسيطرة على فكر الإخوان من الخمسينيات حتى الثمانينيات، وهنا التقى الإخوان مع حزب التحرير، مع ذلك فإن غوشة يروي العديد من الصدمات التي وقعت في القدس بين الإخوان وحزب التحرير، واستقطاب الأخير أعدادًا كبيرة من الإخوان، لكنه تراجع مع الوقت بسبب أطروحاته غير المنطقية وتحريمه المشاركة في المظاهرات لأنها تصرف الناس عن قيام الدولة الإسلامية. ويرى غوشة، أن نقطة الضعف التي أصابت الشعب الفلسطيني في تلك الفترة كانت في غياب القيادات.

من القاهرة: «تنظيم الإخوان في غزة»

بعد أن أنهى غوشة دراسته الثانوية في مدرسة الرشيدية عام 1955، ارتحل إلى القاهرة لدراسة الهندسة كما كان يأمل، ونشط ساعتها في صفوف العمل الطلابي الإخواني ونشاطات ثقافية عدة، كما انضم إلى رابطة الطلبة الفلسطينيين التي ضمت كل الاتجاهات في الجامعات المصرية، ومنها كانت بداية تعرفه على ياسر عرفات وخليل الوزير.

بالنسبة لغوشة، فـ عقد الخمسينيات كان من أصعب ما مر به بسبب الجو الأمني أيام حكم ناصر، ويذكر أن سكنه بالقاهرة تعرض لتفتيش أمني في عام 1957، وكانت الرسائل والجوابات مراقبة، لكن مع ذلك، حين وقعت أحداث العدوان الثلاثي على مصر، التحق غوشة بفرق الطلاب العرب المتطوعين للدفاع عن مصر وشارك ساعتها في الدفاع عن بعض مناطق القاهرة، رغم أنه لم يكن راضيًا عن نظام عبد الناصر.

ويعتبر غوشة أن أهم محطة بارزة في حياته، كانت في عام 1960، فرغم الوضع الخانق في القاهرة، كان يلتقي سرًا بإخوان الأردن وسوريا وفلسطين في «القناطر الخيرية» وفي حديقة الأورمان القريبة من جامعة القاهرة، ورغم أن غوشة كان منضمًا لتنظيم إخوان الأردن الذي شمل الضفة الشرقية والغربية، فقد أسس تنظيمًا فلسطينيًا للإخوان في غزة غير معلن، الذي بحسبه سيشكل الأساس الذي ستبنى عليه حركة حماس بعد عقود.

وحسب رواية غوشة، فقد استدعي هاني بسيسو من العراق لقيادة هذا التنظيم، لكن سرعان ما اعتقل بسيسو في مصر وتوفي بالسجن في قضية سيد قطب. وهذا التنظيم الذي شكله غوشة استمر ونما، ثم في عام 1978 ساهم غوشة في دمج تنظيم إخوان فلسطين الذي يتبع قيادة الإخوان في الأردن مع تنظيم إخوان غزة الذي ساهم في تأسيسه والذي سيشكل نقطة التحول بعد ذلك.

سنوات الغليان

بعدما نال غوشة درجة البكالوريوس في الهندسة عام 1961، حاول أن يعمل في مسقط رأسه بالقدس ولكنه لم يستطع – لم يذكر السبب – فتنقل ما بين الأردن والكويت ونفذ فيهما مشاريع في البنية التحتية، وفيما بعد فتح مكتبه الهندسي الخاص في الأردن، وبجانب ذلك كان يشارك في نشاطات الإخوان.

وقبل أسابيع من هزيمة 1967 زار غوشة القدس لوداعها، إذ شعر أنها ستسقط قريبًا، رغم مشاهدته تفاؤل أهل القدس واستبشارهم بقرب سقوط تل أبيب وعكا، وقدوم صواريخ الظافر والقاهر، إذ كان هناك أمل قوي في استرداد ما أخذ من الوطن، لكن سرعان ما صدم الناس حين فقدوا ما تبقى من الوطن، وحين علم غوشة بسقوط القدس واستشهاد بعض أقاربه، تذكر والده المدفون في القدس، وهو يتحدث عن تلك الفترة، قائلًا:

شعرت بمرارة ما بعدها مرارة وغضب ما بعده غضب، عشنا هذه المأساة الشديدة التي زادت عن نكبة 1948، وحاول حكام العرب أن يسموها نكسة للتخفيف من وقعها، وبعد ذلك بدؤوا يطرحون شعار إزالة آثار النكسة، وإزالة آثار حرب حزيران/ يونيو، بينما في السابق كانوا يركزون على تحرير ما احتل سنة 1948.
ص107

وعلى إثر هزيمة 1967، شهدت المنطقة العربية حالة من اليقظة الدينية، وبدأ المد الإسلامي يتنامى في أوساط الشعب الفلسطيني، بالنسبة لغوشة فقد أعطته الهزيمة فرصة للمراجعة والبحث عن حل جاد لتحرير فلسطين، لذا حضر اجتماعًا للإخوان عقد في عمان برئاسة «محمد عبد الرحمن خليفة» للبحث عن مخرج للمرحلة المقبلة، لكن نتائج الجلسة لم تعجب غوشة ورفاقه، بسبب استمرار الإخوان في فكرة عدم الجهاد قبل أن تقوم الدولة الإسلامية أولًا.

في نفس الوقت، كانت حركة فتح تعد العدة للتدريب العسكري، وتملأ الفراغ الذي كان من الممكن أن تملأه الحركة الإسلامية، ويشير غوشة إلى أن الكثير من قيادات فتح كانت خلفيتهم من الإخوان، فقد وُجد العديد من كوادر الإخوان تحت غطاء حركة فتح بسبب تبنيها القتال، وأنشأ لهم ياسر عرفات قواعد عسكرية في شمال الأردن سميت بـ «قواعد الشيوخ» وقد انضم لها الشيخ عبدالله عزام.

ويبدو أن قادة فتح في ذلك الوقت طمحوا في استيعاب كل الإخوان في صفهم، لذا يروي غوشة أن فتح اتصلت به وبالعديد من كوادر إخوان غزة من أجل الانضمام إليها والوقوف صفًا واحدًا أمام الضغوطات التي تمارسها العديد من الدول، وعرضوا عليهم مواقع متقدمة في الحركة.

تشاور غوشة مع رفاقه من الإخوان، وبعد المداولة، رد على فتح بقبول الانضمام بشرط أن تلتزم بالفكر الإسلامي في سياستها وتتمسك بالقيم الإسلامية، وبعد يومين جاء جواب فتح بالرفض، لتفشل أول محاولة لدمج الإخوان داخل فتح، لكن بدلًا من ذلك، كون غوشة مع بعض رفاقه جماعة عسكرية سرية داخل الإخوان وقرروا تصحيح المسار، ويقول:

اتفقنا نحن شباب الإخوان فيما بيننا على الحركة التصحيحية بحيث نقوم بتصحيح الصف الداخلي، ونركز على مفهوم الجهاد العملي ونبدأ بالتسلح، كنا نريد أن نصحح بعض السلبيات في صف الإخوان، وأن نبدأ مشروعنا الجهادي.
ص107

بدأ غوشة مع رفاقه العمل على مشروع جهادي انطلاقًا من الأردن عام 1968، وكانت لديهم قواعد عسكرية في الشمال، كما كان تعداد المنضمين له أكثر من 100 شاب. ويروي غوشة أنه خطط لبناء خنادق وملاجئ للمقاومة في الأردن وعرض المخطط على ياسر عرفات، ولكن إرهاصات حرب أيلول/ سبتمبر 1970 أفشلت المشروع رغم رفض غوشة المشاركة في القتال بين الفدائيين والجيش الأردني.

نقطة التحول: كواليس تأسيس حماس

يرى غوشة أن نجاح الثورة الإيرانية وبداية الجهاد الأفغاني كان لهما تأثير كبير في تغيير منطلقات الإخوان المسلمين بأولوية قيام الدولة الإسلامية، فحسب غوشة أثر هذان الحدثان في تغيير الرؤية من بناء الدولة أولًا، إلى الجمع بين خيار المقاومة وبناء الدولة في نفس الوقت.

ففي العام 1983، عقدت قيادات الإخوان من فلسطين والأردن اجتماعًا داخليًا في عمان لمناقشة مستقبل القضية الفلسطينية، وترأسه المراقب العام لإخوان الأردن محمد عبد الرحمن خليفة، كان غوشة أحد المشاركين فيه مع عبد الفتاح دخان وخالد مشعل وحسن القيق.

وبحسب غوشة، فقد حدث انقسام بين الجيل القديم والجيل الشاب، بين تيار يتشبث بفكرة التريث لحين الإعداد الكامل والتكوين ويرى خطورة في التحول إلى المواجهة المباشرة، مقابل تيار يريد التوجه نحو المواجهة العسكرية.

لكن في لحظة تاريخية للإخوان المسلمين وبعد أكثر من ثلاثين عامًا لم يكن لهم فيها نشاط عسكري منظم، انتصر التيار الثاني وتمت إزاحة الكتلة الصلبة القديمة، إذ اتفق الأغلبية على البدء بتشكيل تنظيم جهادي مقاوم على أن يتسم بالسرية ويعلن عنه في ظرف مناسب، بجانب النزول للشارع الفلسطيني لكسر احتكار القوى القومية واليسارية للشارع.

في إطار هذه القرارات، بدأ العمل بالداخل في إعداد بنية اجتماعية ونشاطات خيرية شعبية مختلفة وفي العمل النسائي، وتنامي دور المساجد والجامعات، إذ نزل أفراد الإخوان إلى الشارع، وتوسع نفوذهم بشكل كبير في الجامعات الثلاث، الجامعة الإسلامية في غزة، وبيرزيت، والنجاح، وبعد ذلك جامعة الخليل، وقد حدثت بعض الصدمات بين التيار اليساري والإخوان.

وفي قطاع غزة كان الشيخ أحمد ياسين ورفاقه بعدما شكلوا المجمع الاسلامي وقاموا بالعديد من النشاطات الدعوية والخيرية، يعدون العدة للعمل العسكري، فاشتروا بعض الأسلحة وأسسوا مجموعات عسكرية سرية، لكن جرت اعتقالات واسعة لمعظم أفراد الحركة من الصف الأول والثاني، من بينهم الشيخ أحمد ياسين وكل القيادة الموجودة في قطاع غزة والضفة الغربية، واعتقدت إسرائيل أنها طوت صفحة هذه الحركة السرية.

وبحسب غوشة، فتمكنت الحركة بالداخل في سنواتها الأولى من بناء قاعدة صلبة، مكانها بعد اعتقال قادتها من سرعة إعادة البناء من جديد، ولم يفرج عن بعض هؤلاء القادة إلا عام 1985 في صفقة تبادل أسرى.

ثم حين انطلقت انتفاضة 1987 صدرت تعليمات من قيادة الإخوان في غزة إلى الشباب بالمشاركة فيها، كما أصدرت قيادة الإخوان في الأردن إلى جميع شعب الضفة الغربية بالالتحاق بالانتفاضة ودعمها، وكانت تسمى في الإعلام المحلي والخارجي «انتفاضة المساجد»، وسميت بعد ذلك بـ «انتفاضة الحجارة».

وفي أجواء الانتفاضة الأولى أصبحت الظروف مواتية لإعلان الوجه الجهادي لجماعة الإخوان المسلمين، فاجتمعت قيادات الإخوان بغزة في منزل الشيخ أحمد ياسين وأعلنوا تأسيس حركة المقاومة الإسلامية، المعروفة باسمها المختصر «حماس».

وأصدرت الحركة أول بيان لها في 14 ديسمبر 1987 تحدثت فيه عن فلسفة التصدي للاحتلال، ونفذ الجهاز العسكري التابع لها عدة عمليات ضد الاحتلال وكان يطلق عليه في ذلك الوقت «المجاهدون الفلسطينيون» بقيادة صلاح شحادة، واستطاع أن يفرض واقعًا جديدًا.

كان تأسيس حماس بمثابة تتويج لمحاولات استمرت عقدًا من الزمان من جانب قيادة الإخوان في غزة لإنشاء قوة مسلحة، وحسب رواية غوشة، فقد كان المنحى العام لحماس من 1985 وحتى أواخر 1999 في تصاعد في المجال العسكري، ومع الوقت بنت الحركة قوة ذاتية وتراكمت خبراتها، كما نشأ فيها نوع من التكامل بين قيادات الداخل والخارج. 

الغرف المغلقة: لقاءات غوشة

عقب أحداث الانتفاضة الأولى، تخلى غوشة عن كل أعماله في مجال الهندسة ليتفرغ بالكامل للعمل مع حماس. وبنهاية 1991 اجتمع مجلس شورى حماس وتم اختيار زعيم جديد للحركة، وبطلب من محمد عبد الرحمن خليفة، المراقب العام للإخوان آنذاك، أُلقي على عاتق غوشة تشكيل وقيادة أول لجنة سياسية للحركة بالخارج من أجل حشد الدعم في العالمين العربي والإسلامي، ثم بعدها بشهور قليلة، أصبح غوشة المتحدث الرسمي باسم حركة حماس.

ومن خلال دوره الجديد في حماس، يروي غوشة تفاصيل لقاءاته مع المسؤولين الغربيين وأساليب الضغط التي كانوا يمارسونها على الحركة، فيذكر أن المسؤولين البريطانيين، كانوا دائمًا يذكرونه بضعف قوة حماس العسكرية أمام قوة الصهاينة، فيذكر غوشة أنه كان يذكرهم بموقفهم حين رفضوا التفاوض مع هتلر والدخول في تسوية سياسية رغم أنهم كانوا ضعافًا في ذلك الوقت، وبحسب غوشة فقد جاء رده على الوفد البريطاني، بالقول: «صحيح أننا أضعف ولكننا مع الزمن سنقوى».

أيضًا التقى غوشة مع القنصل الألماني في عمان في أوائل سنة 1993، من اللافت أن غوشة يذكر بأن القنصل كان متعاطفًا مع حماس، وقال له: «أنا معكم وأؤيد نضالكم ضد الاحتلال الصهيوني، لأننا نحن الشعب الألماني قاسينا كثيرًا من اليهود، وإذا احتجتم أي شيء أنا جاهز».

وعندما قابل غوشة السفير الإيطالي، أبلغه بصورة واضحة بأن إيطاليا ضعيفة، لا تستطيع أن تفعل شيئًا، وستسير وراء أمريكا رغم قناعته بعدالة القضية الفلسطينية. أما سفيرة النرويج بعمان التي التقت غوشة مع سفير النرويج بالقاهرة عدة مرات، فقد ناقشت معه وضع مراقبين غير مسلحين في الخليل، وكانت النرويج متخوفة بأن يتعرضوا لاعتداءات من حماس، إلا أن غوشة طمأنهم، وأبلغهم بموافقة الحركة على إرسالهم.

أما عن أول لقاء لغوشة مع شخصية أمريكية رسمية، فكان في أوائل 1993 وهو المستشار السياسي في السفارة الأمريكية بعمان، لكن في نهاية مارس 1993 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية قرارًا بحظر الاتصال بحماس. وبحسب غوشة، فقد فشلت اللقاءات بشكل أساسي بسبب رفض حماس ما اعتبره تسوية غير عادلة للقضية الفلسطينية.

كذلك يروي غوشة بشيء من التفصيل لقاءاته بالمسؤولين الإيرانيين، فيذكر أنهم كانوا من البداية يتجاوبون ويتعاطفون مع حماس بشكل كبير، وخصوصًا المرشد الأعلى خامنئي وقادة الحرس الثوري، لكن يذكر غوشة كذلك أن التيار الإصلاحي في إيران كان أقرب إلى منظمة التحرير من حماس.

أيضًا كان غوشة لاعبًا رئيسيًا في سلسلة الاجتماعات العاجلة بين حماس وفتح، فيذكر أنه حضر معظم اللقاءات التي جمعت الحركتين، مثل جلسات الحوار الأولى في صنعاء عام 1990، ثم في الخرطوم 1991، وبعد ذلك تونس في أواخر سنة 1992، وفي الحوارات اللاحقة بالخرطوم عامي 1993، و 1996.

بحسب غوشة، فمعظم هذه اللقاءات كانت صعبة، بسبب استخدام فتح الوسائل الخشنة والناعمة، كما يتهم غوشة الزعيم الراحل ياسر عرفات بأنه حول هذه الجلسات إلى صراع فصائلي بين حماس وفتح، ومن الواضح أن كل طرف انطلق من بُعد فكري، فحتى أصغر التفاصيل في هذه اللقاءات، مثل كتابة البسملة، كانوا يتشاجرون عليها بالساعات، ويقول غوشة:

كل حواراتنا كانت تفشل بسبب الفوقية، حيث يرون أنفسهم أنهم رواد المقاومة وقادة الشعب الفلسطيني.
ص337

مع ذلك، فإن الموضوع الرئيسي الذي سيطر على كل هذه اللقاءات، الاعتراف بآليات اتفاقية أوسلو والانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ثم إيقاف المقاومة، وهو الأمر الذي رفضته حماس، وكانت تتهرب من الخيار الأول عبر إرفاق شروط كانت تعلم أنها غير مقبولة، ويقول غوشة:

حتى الآن فإن موضوع وقف المقاومة هو عقدة العقد، فالسلطة الفلسطينية ووراءها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يركزون على وقف المقاومة، وحماس ترى أن هذا هو العمود والمحور الرئيسي لعمل الحركة.
ص225

يعارض غوشة اتفاقية أوسلو ويشبهها بالكارثة والتحدي الأعظم الذي واجهته حماس، إذ يرى أنها أمنية بالدرجة الأولى، لم تمنح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه أو حتى سلامًا حقيقيًا، والغاية منها منع أية عمليات ضد العدو الصهيوني بواسطة الشرطة الفلسطينية، حيث تم تأجيل القضايا الأساسية، كالقدس والانسحاب والمستوطنات والحدود والمياه واللاجئين، والأسوأ أن الاتفاقية شقت الشعب الفلسطيني إلى نصفين، مما أثر على مسار القضية.

الأردن وحماس: خلف الكواليس

يحكي غوشة أنه في العام 1993 التقى مع مدير المخابرات الأردنية «مصطفى القيسي»، ناقشوا خلال هذه الاجتماعات المغلقة الإطار الذي ستوجد فيه الحركة والحدود المسموح وغير المسموح بها، حسب رواية غوشة فقد سمح النظام الأردني لحماس بالنشاط السياسي والإعلامي في الساحة الأردنية، مقابل تعهد الحركة بعدم ممارسة أية أنشطة أمنية وعسكرية انطلاقًا من الأردن، وألا تتدخل في الشأن الأردني بأي شكل من الأشكال، وتمت بلورة هذه الأسس في اتفاق يعرف باسم «الجنتلمان».

لكن لم يدم الاتفاق طويلًا، ومرت العلاقة بفترة من الدفء ثم العداء، فبعد اتفاق أوسلو ثم توقيع الأردن على اتفاق السلام مع إسرائيل 1994، والذي تضمن شروطًا أمنية وسياسية تتعارض مع أنشطة حماس، بدأ الخناق يضيق أكثر على الحركة، وتعرض غوشة لضغوطات من أجل وقف إصدار البيانات الداعمة للمقاومة، ويقول إن وزير الداخلية الأردني آنذاك سلامة حماد، اتصل به معترضًا على تصريحاته التي أدلى بها هو وعدد من أعضاء المكتب السياسي لحماس.

في الواقع، كان المسؤولون الأردنيون يخشون من أن تتمكن حماس من تقويض علاقة الأردن مع إسرائيل والولايات المتحدة وكذلك السلطة الفلسطينية، وحسب غوشة، فقد واجه النظام الأردني ضغوطًا خارجية لمنع حماس من ممارسة أنشطتها السياسية على الأراضي الأردنية.

إذ يرى غوشة أن سلسلة العمليات العسكرية التي قامت بها حماس في الداخل، والمواجهة مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أدت إلى انعقاد مؤتمر شرم الشيخ عام 1996 برعاية أميركية وبمشاركة أكثر من ثلاثين دولة.

كان أهم القرارات التي اتخذت في قمة شرم الشيخ، رفض الإيواء وتجفيف النشاط الإعلامي والدعم المالي والسياسي للحركات الإسلامية، بحسب غوشة فقد انعكست قمة شرم الشيخ على نشاط حماس، وشكلت نقطة تحول في العلاقة بين الأردن وحماس، فلم تعد حماس ورقة سياسية، بل تحولت إلى ملف أمني.

وبناء على ذلك، بدأ تقييد نشاط الحركة السياسي والإعلامي بالأردن، واعتقل العديد من أفراد حماس وصودرت أموالهم منذ 1996، فمنذ ذلك العام تحديدًا، أصبحت الحركة محاصرة بقوة في الداخل والخارج، كما تم اعتقال غوشة واحتجز في سجن إدارة المخابرات العامة لمدة 15 يومًا.

ثم وصلت ذروة التوتر وغياب أي تفاهم بين الطرفين عام 1999، وارتفعت أعداد الاعتقالات لأعضاء حماس حتى وصلت إلى 60 شخصًا، كما اعتقلت المخابرات الأردنية غوشة للمرة الثانية مع قادة المكتب السياسي لحماس ونقلوا إلى سجن الجويدة.

في نفس الوقت، داهمت القوات الأردنية بشكل سريع ومفاجئ مكاتب حماس وصادرت المعدات وأغلقت أي مكاتب أو مؤسسات إعلامية مرتبطة بالحركة، مثل «مجلة فلسطين»، ثم أعلنت حظر الحركة بعد استضافتها لمدة ثماني سنوات، لينتهي العمل السياسي الخارجي لحماس.

الروابدة: حماس أخلت بأمن واستقرار الأردن 1999/9/16

حسب الرواية الرسمية الأردنية للأحداث، فإن التبرير المعلن للاعتقال وغلق مكاتب حماس، هو اكتشاف مخبأ للأسلحة في حوزة الحركة – رغم أن أنشطتهم كانت مراقبة من البداية – ، وهو الأمر الذي نفاه غوشة بشدة، ويقول عن اعتقاله مع قادة حماس:

من ضغط على سجننا وإبعادنا ثلاث جهات، الجهة الأولى الولايات المتحدة والسفير الأمريكي في عمان بيرنز.. ثم الحكومة الصهيونية.. والثالثة هي التقارير التي كان يرسلها ياسر عرفات للحكومة الأردنية.
ص281

وقد تزامن اعتقال أفراد الحركة في الأردن مع الحملة الشديدة لتصفية كوادرها وقياداتها في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن الأسوأ برأي غوشة، هو تعامل إخوان الأردن معهم عندما تعرضوا لتلك الضربة القاسية عام 1999، حيث يشير إلى أنهم تصرفوا أشبه بالوسطاء بين الطرفين، حركة حماس والحكومة، وليس طرفًا إلى جانب حماس.

ويعزو غوشة ذلك إلى منتصف التسعينيات، إذ يذكر أنه في تلك الفترة، بدأت التناقضات في السياسات بين إخوان الأردن وحركة حماس تظهر على السطح، حيث كان هناك اتجاه يدعو إلى إعطاء الأولوية للشؤون الداخلية والمحلية. أو بعبارة أخرى، الاهتمام بالبعد الأردني، وعدم الانغماس في البعد الفلسطيني. ويتهم غوشة بشكل صارخ هذا التيار بأنه عمل ضدهم بالتأليب والتحريض، ولم يسمح لخالد مشعل باستعمال غرفة في المركز العام للإخوان كمكتب له.

وفي السجن، خُير غوشة في إطلاق سراحه بشرط الاستقالة من حركة حماس، لكنه رفض، كما يروي أنه جرت معه تحقيقات عدة بهدف معرفة كل شيء عن حماس في الداخل والخارج، لكن التحقيقات وصلت إلى طريق مسدود.

ورغم أن غوشة يحمل الجنسية الأردنية وقدم خدمات للأردن من خلال إشرافه على مشاريع البنية التحتية فيها، لكن الأخيرة بعدما سجنته وأساءت معاملته، أجبرته على الذهاب إلى قطر عام 2001 مع قيادات المكتب السياسي للحركة بعد جهود الوساطة التي قام بها أمير قطر.

لقاء مع خالد مشعل وإبراهيم غوشة بعد إبعادهم من الأردن إلى قطر 1999

وتؤكد رواية غوشة أن ما حدث كان ترحيلًا إجباريًا، وأنهم رفضوا الذهاب إلى قطر حتى أثناء وجودهم على متن الطائرة. ورغم أن غوشة عاد بعد ذلك إلى عمان ودخل في مفاوضات مع الأردن ووساطات عربية، فإن السلطات الأردنية منعته من المشاركة أو القيام بأي نشاط سياسي أو إعلامي باسم حماس على أراضيها، كما فرضت عليه الإقامة الجبرية ومُنع من السفر لعدة سنوات، وبسبب ذلك، لم يستطع الترشح لمجلس شورى الحركة في 2004.

ثم في أوائل العام 2006، التقى غوشة بمسؤولي المخابرات الأردنية، وعقدوا جلسة تصالحية، واتفقوا على فتح صفحة جديدة، لكن سرعان ما عادت الأمور بينهم إلى ما كانت عليه سابقًا. وفي 26 من آب/ أغسطس عام 2021 توفي غوشة في عمان عن عمر ناهز 85 عامًا راحلًا عن الدنيا دون أن تتحقق أمنيته بالعودة إلى مسقط رأسه.. القدس.