الصندوق الأسود للدولة هو استخباراتها، لهذا تتجه الأنظار مع كل رئيس جديد للدولة بحثًا عن الشخص الذي سيضعه على رأس هذا الجهاز الحيوي. الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فاجأ الجميع باختيار من خارج المألوف، فقد وضع إبراهيم كالين أو قالن كما تسميه بعض الصحف العربية.

كالين يُتقن العزف والغناء، ولديه عديد من المقاطع المصورة التي يستعرض فيها تمكنّه من العزف على آلة الساز التركية التقليدية. فقد كان يعزف الساز والجيتار منذ أن كان طالبًا في المدرسة الإعدادية. كما أسهم كالين في تطوير عديد من الأعمال الموسيقية. والآن على كالين أن يطور جهاز الاستخبارات التركي الذي صار من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم، بعد التحديثات التي أدخلها عليه سلفه هاكان فيدان طوال السنوات العشر الماضية.

كالين من مواليد أسطنبول لعام 1971، عائلته أصولها من أرضرم من شمالي تركيا. تخرج في كلية الآداب بجامعة أسطنبول عام 1992. وحصل من ماليزيا على شهادة الماجستير، ثم حصل على الدكتوراه في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة المقارنة من جامعة جورج واشنطن.

كان أول مناصبه هو منصب الرئيس المؤسس لـ«سيتا»، مؤسسة السياسة والاقتصاد والبحوث الاجتماعية، لمدة 4 سنوات. وحصل على جائزة الفِكر من اتحاد الكُتاب الأتراك عن واحد من أوائل كتبه، «الإسلام والغرب». كما نشر أيضًا كتاب «بربري عصري متحضر».

كانت تلك الجائزة بمثابة إلقاء الضوء على اختلاف الرجل. عُيّن بعدها بعامين، عام 2011، في مجلس أمناء جامعة أحمد يسيفي التركية. ثم بدأ التدريس الفعلي عام 2019. فكان يُلقي محاضرات في الفلسفة الإسلامية لطلاب الدراسات العليا في جامعة ابن خلدون. وبعد ذلك ببضعة أشهر حصل كالين على لقب بروفسيور.

رفيق أردوغان

أثناء تلك الرحلة الوظيفية لم تتوقف إبداعات الرجل في التأليف. فقد كان من المساهمين في موسوعة ماكميلان للفسلفة، وموسوعة الدين، وقاموس أكسفورد للإسلام. كما نشر الرجل كتاب العقل والفضيلة عام 2014، وكتاب الوجود والفهم بعد ذلك بعام واحد فقط. ثم عام 2016 نشر كتابه أنا والآخر وما بعده، كمقدمة لتاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب.

وبين هذا وذاك فإبراهيم كالين مُحاضر لبق، فقد ألقى عديدًا من المحاضرات في كلية الصليب المقدس بالولايات المتحدة، وجامعة جورج تاون الأمريكية، وجامعة بيلكنت التركية المرموقة.

والد الثلاثة الأطفال هو الدبلوماسي الذي وُجد بالقرب من أردوغان في غالبة الزيارات الدولية والمناسبات الرسمية. كما أن الرجل هو قائد ملف الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. بدأ تدرجه داخل دولاب الدولة عام 2009 بتعيينه مستشارًا أساسيًا لرئيس الوزراء، كان هو أردوغان آنذاك.

ثم كلَفه أردوغان بإدارة ملف السياسة الخارجية. وبعدها صار المنسق في هيئة التنسيق العامة المُلحقة برئاسة الوزراء، الهيئة التي وُلدت بوجود كالين أصلًا في يناير/ كانون الثاني 2010. ثم بعد عامين ترقى كالين ليصبح مستشارًا مساعدًا لرئيس الوزراء.

لكن حين تغيّر لقب أردوغان من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية تغيّرت خريطة مناصب كالين أيضًا. فعُين مساعدًا لسكرتير عام رئاسة الجمهورية. وفي عام 2014 أصبح المتحدث الرسمي باسم الرئاسة، وبناء على هذا المنصب منحه أردوغان لقب سفير. رغم أن وظيفة المتحدث الرسمي كانت مناسبة له تمامًا، فكان الرجل يتخيل نفسه في محاضرة للدراسات العليَا يُوضح ويُفسر. إلا أن سلم المناصب كان به عدة درجات إضافية لم تطأها قدم الرجل.

شكّل سياسات تركيا الخارجية

فتولى الرجل أيضًا منصب وكيل مجلس الأمن الرئاسي والسياسة الخارجية. ثم تولى أيضًا منصب كبير مستشاري أردوغان. البارز في شخصية كالين أنه لم يكن اسمًا فقط يشغل المناصب المختلفة، بل صبغ كل منصب وصله بصبغته الخاصة. فسطع نجمه في حزب العدالة والتنمية، وبرز بين مستشاري أردوغان.

كما كان من القلائل الذين شكلّوا سياسات تركيا من الخارج بسبب دوره في ملف الاتصالات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. والأهم هو دوره التاريخي في التفاوض مع الولايات المتحدة بخصوص الملف السوري، واستطاع كالين أن يحصل لتركيا على الدعم الغربي المعنوي والعسكري لعمليات تركيا في سوريا، ضد تنظيم داعش.

تلك الإنجازات لم تكن في ظاهرها تتعارض مع حب الرجل للفسلفة والأدب والموسيقى، لكن أن يضعه أردوغان على رأس جهاز الاستخبارات المعروف ضمنيًا أنه بعيد عن الأدب، ولا يؤمن إلا بفلسفة القوى، فهذه كانت المفاجأة. والمفاجئ أن كالين أعلن موافقته وقبوله بالعمل. وكتب في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» أنه لن يتوقف وسيواصل الطريق من أجل وطنه الجميل.

لكن ما قد يحمل تفسيرًا لاختياره أن الرجل في آخر 5 سنوات قد انخرط تمامًا في كل ملفات تركيا الخارجية، بما فيها الملفات ذات البُعد الأمني. فغالبية الأعمال التي تولاها كالين تتعلق بترتيبات الأمن القومي، ورسم استراتيجيات للتعامل مع الخارج سواء استخباراتيًا أو أمنيًا. وحتى عمله مع الغرب، ودوره في اتفاقية التفاهمات المبرمة مع السويد وفنلندا، كلها مهام تحمل طابعًا أمنيًا واستخباراتيًا.

غسيل سمعة المخابرات

كما أن وجود قالن على رأس الاستخبارات يعطي انطباعًا قويًا أن تركيا تنتهج نهجًا عصريًا في تعاملها مع الاستخبارات. حيث تُعتبر الأكاديميا جانبًا مهمًا من آلية عملية الاستخبارات الحديثة. فمراكز الدراسات الاستراتيجية مثلًا أصبحت جزءًا حيويًا من الاستخبارات الحديثة. ومن هذا المنظور يصبح كالين/ قالن مهمًا في منصبه ومناسبًا للغاية.

والأهم أن كالين بصفته أكاديميًا وعازف موسيقى، ويحظى بسمعة طيبة بين كافة الأوساط الخارجية والمحلية، سوف يسهم في محو الصورة السلبية عن جهاز الاستخبارات. تلك الصورة التي ترسخت في الأذهان بعد انقلاب تركيا الفاشل. والتي تحوّل بعدها الجهاز الأمني لوحش مرعب، ووجود كالين على رأس هذا الجهاز سوف يمحو تلك الصورة. وبالتأكيد سوف يعمل كالين على توطيد الجانب الأكاديمي والنفسي بين رجال المخابرات.

كما أن تلك الفترة الرئاسية الأخيرة لأردوغان، ومن المحتمل أنه سيركز على صياغة هوية كاملة لتركيا تستطيع الصمود بعد رحيله هو، لذا فوجود رجل أكاديمي على رأس الجهاز الأمني سيساعد أردوغان في تلك النقطة. فسوف يتمكن كالين من تشكيل هوية تركية خالصة، تتوافق مع رغبة أردوغان، والأهم أنها ستتمايز عن العالم الغربي. ودراسات كالين المقارنة بين الشرق والغرب، وإدراكه مناطق التمايز سوف يسهل عليه تلك المهمة.

هذه التفسيرات تعتمد في أساسها على افتراض أن الأجهزة تعمل كجُزر منعزلة، لكن في تركيا لا يبدو الأمر كذلك. فكافة الأجهزة تنسق مع بعضها تحت مظلة الرئاسة. وفي تلك الحالة تحديدًا فإن هاكان فيدان وإبراهيم كالين كانا على اتصال دائم في السنوات السابقة، لذا فمن الطبيعي أن يستمرا في التنسيق بينهما. وهو ما يطمح إليه أردوغان دائمًا، حدوث دمج نوعي بين الخارجية والاستخبارات نظرًا لتقاطع مجالات عملهما.

أيًا كان ما سيحدث في الأيام المقبلة، فإنه من الواضح تمامًا أن أردوغان لا ينظر لمدة زمنية قصيرة. بل يعيد توزيع رجاله كي يضع اللمسات الأخيرة على الجمهورية الجديدة التي أسسها طول العشرين عامًا الماضية. لهذا فأدوار من وُكلت إليهم الوزارات المختلفة قد لا تكون قاصرة على مجرد تسيير الأعمال لعدة سنوات، بل وضع هيكل جديد مكتمل الأركان والأبعاد الأمنية والأكاديمية ليستطيع أن يصمد لعقود قادمة، ويكون عنوانًا لتركيا مختلفة تقود نفسها بمنهج ثابت بغض النظر عن هوية الحاكم.