هناك ميم ساخر انتشر، مؤخرًا، يتمحور حول إبراز جملة تبدو ذكية إلى حد كبير:

كنت أتمنى أكون قدوة، لا أعرف كيف أصبحت عِبرة.

انتشر هذا الميم لأنه يعبر عن نمط قصصي معروف للكثيرين، الشخص الذي يتوقع له الجميع النبوغ ويري هو في نفسه قدوة قادمة ثم تتغير القصة بالكامل مع مرور السنوات ليجد نفسه عِبرة، لا يريد أحد أن يسلك الطريق الذي سلكه ولا النهاية التي كان بطلها.

لكن ماذا لو قرر البطل أن النهاية لم تُكتب بعد، أن هناك فصلًا أخيرًا لم يتسن للناس معرفته. ماذا لو قرر بطل القصة أن يصنع «بلوت تويست» خاصًا به ويحكي قصته بمنظور أن الجميع كان على خطأ بل ويقدم نفسه كقدوة في الانتماء.

دعنا لا نخلط الخيوط دون داع، عندما يتعلق الأمر بالكرة المحلية فالمثال الأوضح لقصة العِبرة تلك هو اللاعب إبراهيم سعيد. فخلال السنوات العشر الأخيرة أصبح جزءًا أساسيًا ضمن الإشارة لأي موهبة صاعدة بشكل ملفت، أن تذيل هذا التقييم بضرورة الالتزام وإلا فلنتوقع مصيرًا مشابهًا لمصير إبراهيم سعيد.

قرر إبراهيم سعيد قبل سنة من الآن أن يقدم لنا قصته في مواجهة قصة الجميع. أن يقدم نفسه كقدوة في الانتماء للنادي الأهلي الذي ظلمه كثيرًا من خلال تغريدات تبدأ وتنتهي مع شعار النسر وتمجيد الأهلي. هل تقبلت جماهير النادي الأهلي ذلك؟ في الواقع أصبحت علاقة إبراهيم بجماهير الأهلي خلال تلك السنة أفضل كثيرًا، لكن كيف استطاع إبراهيم عبور خانة العِبرة إلى خانة القدوة، هذا ما يحتاج للتوضيح.

بداية ولاد الأصول

تبدأ قصة إبراهيم التي يعرفها الجميع منذ اليوم الأول له في صفوف الفريق الأول للنادي الأهلي، قصة بطلها موهبة حقيقية استثنائية لكن مع الوقت ظهرت المشاكل، التي تبلورت عندما قرر إبراهيم الهروب إلى بلجيكا بحثًا عن عرض مادي أفضل.

هنا قرر إبراهيم أن يعيد كتابة فصل البداية بإدخال بُعد إنساني ضروري لتلك القصص، بُعد يليق بالأعمال الدرامية الأخيرة للفنان أحمد العوضي. حيث يوضح إبراهيم أن علاقته بالأهلي تبدأ منذ سن الثامنة، ولأنه طفل وحيد لأبيه وأمه وعائلته بسيطة تكافح من أجل المعيشة مثل كثيرين، فإدارة النادي الأهلي تعهدت بإعداد وجبة طعام يوميًا يعود بها إبراهيم للمنزل.

نحن لا ننكر أن هذا حدث بالطبع، لكننا فقط نشير إلى أن كل هذا الامتنان للنادي الأهلي والفخر بالمساعدات المادية على طريقة أن أولاد الأصول لا ينكرون خير من رباهم لم يكن إطار قصة إبراهيم التي جرت على لسانه قديمًا.

والأهم، لماذا تجاهل سعيد هذا الشعور بالامتنان عندما هرب من الأهلي إلى بلجيكا؟ هذا فصل ثان يقصه علينا إبراهيم من زاوية تتعلق بالسلطة والقسوة وعديد من الألفاظ المنتقاة جيدًا.

قسوة الأهلي التي تجعله فاتنًا

لأسباب غامضة ينتشر بين جماهير الكرة في مصر مفهوم ثابت وهو أن قسوة الأهلي على أبنائه سببًا مهمًا في نجاحه عبر العصور. يمكنك شرح هذه الجملة بأن الأهلي يطبق مبدأ التعامل الاحترافي الذي يبرز فيه المنفعة كركيزة أساسية، لكن هذا لا يبدو فاتنًا.

فكرة الأب السلطوي الذي يعرف جيدًا مصلحة أبنائه ولا يتردد لحظة في طرد أحدهم من المنزل إذا خرج عن قواعده تبدو بالمنطق فكرة مريضة. لكنها ولأسباب لا مجال لشرحها هنا تلقى إعجابًا فريدًا من نوعه في مصر. لهذا يحب كثيرون تصوير الأهلي على أنه هذا الأب العنيد، لكن هذا لا يجدي نفعًا أبدًا في كرة القدم. كل ما يفعله الأهلي أنه يتعامل الأهلي بشكل مميز إزاء المواقف التي قد تؤثر في تغيير هويته كناد ضخم لا يتأثر بالأفراد، وتلك عادة الأندية الضخمة في العموم وليس الأهلي فقط.

يقص إبراهيم مشهد هروبه بأنه كان نتيجة للقسوة التي لقاها من بيته النادي الأهلي. فبعد أن تم تصعيده وأصبح من أهم أعمدة الفريق، لم يتم تعديل عقده وبقي بنفس عقود الناشئين التي كانت قليلة ماديًا بشكل واضح؛ لذا لم يجد هذا المراهق بدًا سوى الهروب من البيت الدافئ.

لكن ما حدث هملًا أن إبراهيم سافر لبلجيكا بمساعدة أحمد حسام ميدو للإحتراف في نادي جنت، لكن بمجرد أن قدم النادي الأهلي شكوى تدين إبراهيم سعيد ونادي جنت الذي هرب إليه، قرر النادي البلجيكي ألا يتعاقد معه.

لا يتوقف إبراهيم عند الجزء الخاص بفكرة هروب المراهق من سلطوية الأب الغاضب، بل ويزيد أنه فرح كثيرًا عندما قدم الأهلي بشكايته؛ لأنه شعر هنا أنه مهم وأن النادي الأهلي لم يقرر الاستغناء عنه بسهولة. وبمجرد أن عاد تم توقيع عقود جديدة بمبالغ أكبر تليق به كلاعب صف أول.

العجيب أن قصة إبراهيم لا تتماشى أبدًا مع إطار عودة الابن الضال الذي يحلو للجميع فرضه دون منطق. أخطأ الأهلي عندما قرر تجاهل تطور لاعب ناشئ وضرورة تعديل عقده وهو الخطأ الذي لم يكرره الأهلي فيما بعد. وفي المقابل تعامل إبراهيم بنفس النفعية وقرر أن ينبه الأهلي أنه قادر على الرحيل وتحصيل تلك الأموال نظرًا لمستواه الفني المرتفع.

فهم الأهلي الرسالة وأعاد إبراهيم وأقر له زيادة منطقية في راتبه بعد عقوبة الإيقاف لفترة، وهو التصرف المنطقي تمامًا بعيدًا عن فكرة نادي المبادئ الذي يذبح أبناءه دون تردد.

لكن هذه القصة لا تجعل الأهلي فاتنًا ولا إبراهيم ضحية، لذا تبدو قصة الابن المراهق والبيت الدافئ أكثر لطافة حيث يخرج الجميع فائزًا.

فتح السمكة لكنه لم يجد الخاتم

يعرف الجميع ما حدث في بقية فصول قصة إبراهيم والأهلي، لكنه وقبل عام تحديدًا قرر إعادة سرد النهاية بشكل مغاير تمامًا. أصر سعيد على أن كل ما حدث سببه مدرب حراس المرمي حينذاك إكرامي الشحات لأنه من فاتحه بخصوص التجديد.

ما حدث أن إبراهيم سعيد رفض تجديد تعاقده مع النادي الأهلي، قرر الأحمر حشد كامل قوته لمعاقبة إبراهيم سعيد الذي كان قد وقع عقدًا مع الزمالك للعب معه في الموسم الجديد. وقِع علي إبراهيم سعيد غرامة ضخمة وإيقاف لستة أشهر.

تجاهل إبراهيم تلك القصة التي لا يمكن أبدًا أن تقصها دون التطرق لأسماء مثل عصام عبد الفتاح وحسن حمدى، وقرر أن يشرح للجميع أنه لم يرفض تجديد التعاقد لكن كابتن إكرامي أوصل للإدارة أنه يتمرد وأنه كان فقط يريد مبلغ أكبر يتناسب مع إمكانياته.

قص إبراهيم هذا الحادث وكأنه فتح السمكة بعد مرور ثمانية عشر عامًا وأخيرًا وجد الخاتم. هنا خرج إكرامي بالطبع ليوضح ببساطة أنه عرض مبلغًا ورفض إبراهيم فأبلغ الإدارة وانتهى الأمر. لكن إبراهيم سعيد أصر أن الحقيقية اتضحت بعد كل هذا الزمن وأنه من المؤكد قد دار حديث خفي بين إكرامي وإدارة الأهلي ساءت فيه صورة إبراهيم وكان هذا سبب رحيله.

هل كان ثمة طريق آخر؟

كل ما أراده إبراهيم أن يقص قصته التي تجعله أكثر قربًا من جماهير الأهلي، لأن هذا ببساطة سيساعده في العمل كإعلامي وفي تناول حديثه بكثير من الأهمية. يمكنك فهم ذلك بإعادة مشاهدة إبراهيم قبل ثماني سنوات وهو يقص نفس الأحداث وستجد حينها كثيرًا من الألفاظ التي تبدلت تمامًا، حتى أن «لوي الدراع» أصبح «قسوة الأب الذي يريد تقويمك». لكن هل كان هناك ثمة طريق آخر ليصبح إبراهيم قدوة حقيقية؟ ربما

إذا ما قررنا تناول فكرة «الباد بوي» التي أحب دومًا إبراهيم سعيد إظهارها فمن الأغلب أننا سنتطرق للحديث عن «دينيس رودمان»، الرجل الذي يتشابه مع سعيد في فكرة عدم الالتزام رغم إمكانياته الفائقة، لكن مسيرة رودمان كانت صاخبة بشكل أكبر بالطبع.

لم يقص رودمان قصته بشكل لطيف كي يقبله الجميع، لكن ما حدث أنه أخبر البعض بحقيقة الأشياء وتطوع آخرين لتوضيح أشياء كثير أخرى حتى اتضحت صورة هذا المشاكس. لقد كان نتيجة العديد من الظروف المحيطة والمشاكل النفسية التي أنتجت لنا هذا الرجل.

تحدث الكثيرين أن رودمان واجه مشاكل في طفولته جعلته يبحث عن القبول بين الناس، لهذا كان يصر على لفت الانتباه. كان لاعبًا عبقريًا لكن في داخله مجرد طفل يجهد نفسه من أجل الاهتمام والقبول وحريص جدًا على إرضاء تلك الطبيعة المؤذية، كما أنه كان يحتاج إلى تبديد الطاقة في بعض الأحيان لأنها تتراكم بداخله وعليه التخلص منها بأي شكل.

نحن هنا لا نفترض بالضرورة أن يكون هناك قصة لا نعلمها عن إبراهيم، لكننا فقط نشير إلى أن هناك طريقًا آخر لكي يهتم الناس بحديثك وهو معرفة الأخطاء الحقيقية التي أدت إلى ذلك. قبل هذا التحول خرج إبراهيم بكثير من التصريحات التي للأسف كانت تندرج تحت بند الفضائح، كيف أنه شرب الخمور قبيل مباريات رسمية أو قصة التهديد بتسجيل هدف في مرماه لو تم منعه من الاحتفال مرتديًا نظارة حمراء بعد الفوز بالسوبر.

عندما سئل إبراهيم عن الأشياء التي افتقدها قديمًا وكانت ستؤثر على مسيرته المنقوصة، كانت إجابته: وجود السوشيال ميديا، فلو كانت وسائل التواصل تلك موجودة لكي نعبر عن نفسه حينذاك بالشكل الذي يراه مناسبًا.

تبدو تلك الإجابة وكأن إبراهيم مصر على أن يقص قصته الخاصة في مواجهة قصة الجميع. تبدو قصة إبراهيم مثالية حتى لا يخرج أحد خاسرًا، لكننا وفي المقابل نخسر جميعًا فرصة التعلم والاستفادة من تجربة ثرية بحق.

ربما فقط لو ضمنا لإبراهيم أن قصته الحقيقية لن تضعه في خانة العِبرة ومصمصة الشفاه، وأن التحليل النفسي لما حدث سيجعل لحديثه قيمة مهمة بعيدًا عن أخبار الفضائح وفيديوهات التريند، ربما حينها فقط سنعرف القصة الحقيقية لإبراهيم سعيد.