كنا نتمشى في شوارع القاهرة بعد عامين من الثورة، عامان قضيناهما في التجوال بين المحافظات والمدن المصرية، ندعو الناس بدعوة واحدة، أن يعرفوا أكثر، كي يكونوا أقدر، أن يقرأوا ويناقشوا ويبحثوا ويفكروا قبل أن يفعلوا ويقرروا. عامان بين مختلف الأنشطة الثقافية، عشرات المحاضرات والندوات وجلسات القراءة. سألت صديقي: هل ترى لكل ذلك من أثر مستمر، يسمعنا عشرات أو مئات، لكن الآلاف والملايين لم يسمعوا أو يقرأوا بعد. رد بثقة: سترى أن كل ما نفعله اليوم سيؤتي أكله غدا، علينا فقط أن نصنع الشبكة التي يمكن في يوم ما أن تجد لها الوسيلة المناسبة كي يُسمع صوتها.


لا نريد إثراء المحتوى العربي

عندما جاءت فكرة إضاءات لم أكن متأكدا من قدرتنا على إيجاد فريق من الشباب لديه القدرة على القراءة والبحث فى موضوعات متخصصه، ثم مهارة الكتابة والعرض لجمهور واسع، تذكرت «الشبكة» التى تحدث عنها صديقي من قبل، وبدأت بالفعل أتواصل مع الشباب المناسب من المدن والمحافظات هنا فى مصر، أو من الأصدقاء فى البلاد العربية، بدأنا فى شرح الفكرة، لا نريد نحن أيضا إثراء المحتوى العربي، فمعنى الإثراء هنا أصبح مرادفا للزيادة وحسب، بأى شكل كان، غث أو سمين، نحن نريد أن نصنع محتوى ثري فى حد ذاته.

لم نأت بصحفيين إذن، وربما بعض الزملاء لم يكتب من قبل أى مقال، ولكن لديه محتوى ثري بالفعل، لديه شغف بالفيزياء أو السينما أو النظرية السياسية أو ميكانيكا الكم أو حقوق الإنسان أو الاستشراق أو الدولة العثمانية. كل واحد منهم طلبنا منه أن يكتب هذا للجمهور، نحن نريد هذا المحتوى.

وبالفعل بعد عام من انطلاق المشروع وشهور قبلها فى التجريب، نستطيع أن نقول أننا قدمنا حتى الآن أكثر من 3000 آلاف موضوع، فى الشؤون العامة والسياسة الدولية وشئون التيارات الفكرية والحركات السياسية والأدب والفن وما يتعلق بالقضية الفلسطينية وكذلك العلوم والتقنية والمعرفة والفكر.

بعض هذه الموضوعات أخذ أياما كاملة فى الكتابة والتحرير والقراءة فى المصادر المطبوعة والرقمية والتعديل العلمي ثم التعديل الصحفي قبل النشر، وكلها حاولنا فيها أن يكون المحتوي غير غارق فى التخصص والإغلاق أو طاف إلى السطحية والاستسهال، وهو ما نزعم أننا استطعنا تحقيق شطر كبير منه.


أي جمهور قد يقرأ

فى 2010 كانت مجموعة من الشباب يعقدون جلسات معرفية مغلقة، كل فرد فى المجموعة متخصص فى مجال ما يقرأ فيه أو يدْرُسُه، يحاضرنا فى مرة عن مجاله، طرحت عليهم أن نعقد هذه الجلسات مفتوحة للجمهور، وأن نعلن عن ذلك، كانت المحاضرة الأولى العلنية عن الفيزياء النووية، لم يتوقع أحد أن يحضر خمسة أشخاص فقط من خارجنا، لكن النتيجة كانت خمسين شخصا، وقد اكتظ المكان عن آخره واضطر الباقون للوقوف.

زعمت وقتها أن هذه أول محاضرة علمية فى مصر يحضرها هذا العدد، وأن الظاهرة ستضطرد. فى مايو 2015 كتب شادي عبد الحافظ فى إضاءات دليلك لتعلم الفيزياء من الصفر، حصل المقال على أكثر من 50 ألف قراءة.

نعم، هذا هو الجمهور الذى يقرأ، مئات الآلاف منذ يناير الماضى يدخلون إلى موقع إضاءات يوميا، ويقرأون محتوى عربي الكثير منه يُقدم لأول مرة، يتفاعلون ويعلقون ويرسلون لنا أيضا مشاركات لهم، ويخالجنا شعورن متضادان ونحن نرصد هذه الأرقام اليومية، الأول أن ما نحن فيه حلم، لم نكن نطمح أن نصل إليه فى يوم ما، والثاني أن ما نحن فيه هو أقل القليل، وأن علينا الوصول إلى تضاعيفٍ مضاعفة من هذا الرقم حتى نقول يوما أن هناك جمهورا أصبح يقرأ.


كيف نصنع هذا المحتوى

لا توجد وصفات جاهزة، كل رافد من روافد هذا المحتوى وجدنا أنفسنا أمام تحد كى يُصنع، لسنا مركز أبحاث ولا مجلة علمية، ولسنا موقعا صحفيا يتناول موضوعات الناس اليومية، نحن خليط من هذا وذاك.

وراء كل حدث سياسى أو معرفة مجردة أو فن جميل أو حتى نظرية علمية، قصة دائما، لذا فنحن نحاول أن نمسك بطرف الخيط الأول الذى قد تُكتب من خلاله مادة معمقة وجاذبة، البشر هم من ينتجون كل ذلك، والبشر أيضا هم من يقرأون ذلك، علينا إذن أن نحكى قصة البشر فى المحتوى المقدم.

العناوين واللغة والأسلوب، المقدمات والخواتيم، الاستشهادات والاقتباسات، المراجع والمصادر، كلها عناصر أخذت منا الكثير حتى نجد لها طريقة ما تناسب ما نصنعه نحن دون غيرنا، قطعنا مع أكثر من 400 كاتب ومحرر – تعاونوا معنا خلال عام وبضعة أشهر – أشواطا وتنتظرنا أخرى.

ليس هذا وفقط وإنما لمسنا من أول الطريق فقرا فى إبداع نظمِ إدارةٍ، ومن بعدها نظم جودةٍ، لمثل هذا المحتوى، ومن ثم كان علينا إبداع نظام كامل من الإدارة المنضبطة المرنة، ونظم تالية من عمليات التقييم والجودة لكل مرحلة من مراحل الكتابة والنشر، ولكل فرد فى فريق العمل، حتى نستطيع أن نرصد أين نحن، وأن نرى إلى أين نسير، وهو ما حققنا منه جانبا لا يقل أهمية عن المنتج النهائي الذى ترونه.


ماذا قدمنا

بدأنا بالشأن العام فى موقعنا، فهو محل الاهتمام المشترك، قدمنا من خلاله تغطية لأهم ما يجرى فى مصر والأحداث الرئيسية فى بلدان العالم العربي بشكل موضوعي وبمنهجية تنحاز لحقوق الإنسان والمجتمع المدني والحريات فى العالم العربي.

كما انفردنا بتقديم أشكال جديدة من التحليل الرياضي، تعطى لعشاق الرياضة وبالذات الساحرة المستدرية متعة تضاهى متعة اللعب والتكتيكات وإحراز الأهداف، أيضا خصصنا تبويبا للتعليم يتناول بشكل لا يوجد من قبل فى مواقع المحتوى العربي أهم قضايا تعليم الطفل محل اهتمام الآباء والأمهات، حيث لاقت موضوعات القسم أعلى القراءات فى أوقات قياسية.

فى (سياسة دولية) قدمنا تغطيات لأهم الأحداث الدولية خاصة فى أمريكا وتركيا وإيران والاتحاد الأوربي ودول الخليج، على خلفية فهم العلوم السياسة والعلاقات الدولية، وحصلنا على قراءات فاقت أعلى المواقع العربية فى بعض الملفات كالانقلاب الفاشل فى تركيا والانتخابات الأمريكية الأخيرة.

قدمنا لـ (القضية الفلسطينية) تقارير عن قضايا الاحتلال وعن المجتمع الفلسطينى وكذلك الفصائل الفلسطينية، ووثقنا كل ذكرى لحدث كبير أو صغير فى الصراع العربي الإسرائيلي بتقارير وافية.

وضعنا فى (تيارات وحركات) خريطة رصد وتحليل بيئة الحركات الإسلامية وغيرها من حركات اليسار واليمن فى أوربا وأمريكا اللاتينية، وكذلك التيارات الفكرية العلمانية والليبرالية، وحاولنا مجاراة كل الأحداث التى تشارك فيها جماعات وتيارات دينية أو سياسية.

فى (أدب وفن) تميزنا بتقارير عن الأفلام والروايات والشعر الذى ينتجه كبار المخرجين والكتاب، وحازت تقاريرنا على إعجاب ومشاركة العديد من صانعي هذا الأدب أو الفن، اعترافا بثراء المادة ورصانة الطرح

أما فى (علوم وتقنية) فقد انفردنا أيضا بأننا الموقع العربى الأول الذى يفرد هذه المساحة المعمقة لمقالات مطولة عن فروع العلوم والتقنية متابعة لمستجداتها وتأريخا لمساراتها واحتفاء بروادها، ولاقى هذا التفرد صدي ملموسا لدى المتصفح العربي المهتم بالعلوم والتقنية.

وأخيرا فى باب (معرفة) استطعنا إيجاد مساحة لا مثيل لها فى أغلب المواقع العربية، حيث قدمنا الفكر والفلسفة للقارىء بتكثيف وثراء، واستطعنا جذب الكثير من الشباب العربي المثقف ليكونوا عماد هذا الباب بأطروحات فكرية متوثبة.


فى البدء – والختام – كان: فريق العمل

لم تخبرنا الإحصاءات يوما أن محررا أو كاتبا ، أو حتى مجموعة محررين صغيرة، هى التي تحصد القراءات وحدها والموقع لها تبعٌ، فى كل شهر عندما يعلن مدير تحرير الموقع الباب الفائز والمحرر الفائز فى هذا الشهر نجده مختلفا عن الشهر الذى يسبقه، فى سباق محتدم وتنافس ممدوح.

هذا العمل هو إنجاز فريق العمل، فريق العمل الذي أنتج كل هذه المواد فى شتى المجالات، واستطاع رغم ذلك أن يتناغم وأن يترك بصمة وهوية لهذا العمل بعد عام واحد من الانطلاق، تجعل كبار المتخصصين فى هذه المجالات يلتفتون إلى إضاءات ويتسائلون كثيرا عن هؤلاء الشباب الذين يقبعون خلف الشاشات يكتبون ويحررون وينسقون ويصممون وينشرون ويتفاعلون.

إنجاز فريق العمل أيضا ليس فيما أنتجه، ولكن فيما أصبح عليه الآن، كمحترفين يتقاطر على كثير منهم عروض فى مؤسسات إعلامية احترافية تعمل فى المجال لأكثر من 20 عاما، بما يجعلنا نفخر بالطفرة التى حققناها مع هؤلاء الشباب فى ذلك الزمن القصير، وبموارد محدودة لمشروع ناشئ.

الشبكة يا صديقى التى كلمتنى عنها قبل أربعة أعوام أصبحت تنتج الآن ما يقرأوه الآلاف يوميا، هذا الفريق الراغب بقوة فى أن يغير المعادلة، وينشر الوعى والمعرفة هو الذى نجح، وأنتج عاما كاملا من المحتوى العربي الثري.