مع كل اقتحام أو اعتداء من قوات الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يُزهَق المزيد من أرواح الأبرياء أو يقع الكثير من الجرحى والمصابين، لتفقد الأمهات فلذات أكبادهن في لحظة، أو تتحول الصغار إلى أيتام باستشهاد الأب أو الأم، أو حتى محو عائلة كاملة من السجلات بعد استشهاد جميع أفرادها.

من داخل مخيم ومدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، تفقدت «إضاءات» الأوضاع لمعرفة كيف يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، فتلك شهادات حية تُعطي صورة عما يحدث في الداخل.

والدة شهيد: قتلوه أمام إخوته

«رأيتُ أحشائه خارج بطنه بعدما قَنَصُه قناص من فوق بناية أمام منزلنا»، هكذا بدأت أشواق أبو الوفا، والدة الشهيد عمار محمد فيصل أبو الوفا، حديثها لـ «إضاءات»، مضيفة أن «عمار» – الذي كان يبلغ من العمر نحو 14 عامًا ونصف، حيث إنه من مواليد شهر يوليو عام 2009م – استشهد وهو بصحبة أشقائه الصغار وأصدقائه أمام المنزل.

وأوضحت أن القناص – الذي كان يقف في عمارة الريان أمام شارع المنزل – أطلق الرصاص على نجلها بشكل مباشر؛ ليُصيبه في فخذه ثم صدره ثم بطنه: «أول رصاصة أصابت الفخذ على الشريان الوريدي، والثانية كانت في البطن».

تصمُت والدة الشهيد قليلًا، لتتابع حديثها مع «إضاءات»: «الرصاصة الأولى أصابته قبل أن يلف ظهره، وجاءت الرصاصات الأخرى على التوالي، التي كانت جميعها في أجزاء قاتلة».

ولفتت إلى أنها خرجت من باب المنزل – حيث كانت الساعة تقريبًا السادسة والنصف – على صوت الرصاص: «خَرَجتُ مُسرعة بعدما سَمِعت طلقات الرصاص التي أصابت قلبي عندما رأيتُ (عمار) غارقًا في الدماء. كما أن الصبي الذي كان يقف مع نجلي أُصِيب هو الآخر بشظايا في يده».

وتابعت: «حَمَلت نجلي وكانت أحشاؤه خارج بطنه، وضعوه في حضني عندما كنا نبحث عن سيارة؛ لأنه لم يكن هناك سيارات إسعاف». وزادت: «(عمار) كان أول شهيدًا وقت اجتياح جنين. ابني كان البِكر، له أخ واحد يُدعى (ريان) ويبلغ 13 عامًا، وأخت صغيرة تُدعى (بسمة) وتبلغ 11 عامًا».

وقالت، لـ «إضاءات»، إن «أخاه وأخته شاهدا لحظة استهدافه واستشهاده. أتمنى من الله أن يعينهما ويُخرجهما من تلك الأزمة ويصبرهما على فراق (عمار)»، لافتة إلى أن حالتهما النفسية سيئة: «اللحظة كانت صعبة جدًّا عليهما عندما شاهدا القناص وهو يقتل أخاهما».

وأكدت «أبو الوفا» أن القصف لم يكن عشوائيًّا، وكان بشكل مباشر باتجاه «عمار»: «أصحابه حاولوا إنقاذه، ووالده خرج مُسرعًا وحاول إبعاده عن القناص، لكن للأسف كان القناص قد أطلق الرصاص على طفلي، وحملناه في سيارتنا الخاصة، وذهبنا إلى المستشفى، وهناك حاولوا فقط إنعاش قلبه، لكن الرصاص تسبب في تهتُك الشرايين؛ ما أدى إلى نزيف حاد».

كفاية عبيد: حاصرونا بالكلاب ودنَّسوا المساجد

ومن مخيم جنين، قالت كفاية عبيد، فتاة فلسطينية تعمل في وزارة العدل بجنين: «بدون مقدمات، في فجر أحد الأيام، وتحديدًا في تمام الساعة الثانية فجرًا، دخل عدد كبير من جيش الاحتلال وحاصر كل جنين والمخيم، وبدأ في عمليات التخريب، ثم اقتحام المنازل داخل المخيم برفقة الكلاب الشرسة، واعتقل كل شاب ورجل تواجد داخل المنزل حينها».

وتابعت، في حديثها لـ «إضاءات»: «كما قامت قوات الاحتلال بتفتيش المنازل، وخرَّبوا وكسَّروا كل شيء داخلها، وصادروا الهواتف المحمولة، وأي أجهزة اتصال أخرى، وناموا بمنازل المخيم، سواء كان داخلها أهالي أم لا».

واستطردت أنه في اليوم الثاني من الاقتحام، بدأت قوات الاحتلال في قصف المنازل وأي تجمُع للشباب، ثم حَرق منازل أهالي الشهداء والمطلوبين على قوائمهم، وهدموا أكثر من منزل: «كل هذا كان بجانب فاجعتنا الكبرى، وهي اقتحام المساجد والغناء بداخلها باستخدام ميكروفونات المسجد؛ كاستفزاز لشباب المقاومة والأهالي الموجودين، كما قاموا بالغناء داخل المنازل أمام سُكانها، وإضاءة الشموع أمامهم».

وأكدت «عبيد»، لـ «إضاءات»، أن هذه كانت المرة الأولى التي يدخل فيها المخيم هذا العدد الكبير من الجنود والكلاب والسيارات الجيب، مشيرة إلى أن قوات الاحتلال قامت أيضًا بتجريف الأراضي وهدم المنازل والبنية التحتية للمخيم، بالإضافة إلى فرض حظر التجوال على المخيم لمدة ثلاثة أيام متتالية، ومنعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى داخل المخيم، بجانب مُحاصرة المستشفيات، بزعم أن ذلك للبحث عن عناصر للمقاومة داخل المخيم: «لكن فشلوا في الوصول إليهم ككل مرة».

وأشارت إلى أن جنود الاحتلال ناموا داخل المنازل التي كان يوجد بها أطفال ونساء، موضحة أن العديد من الأهالي كانوا خارج المخيم بسبب الاقتحامات المُتكررة له في الآونة الأخيرة، خاصة الأُسر التي لديها أطفال صِغار: «كان مُعظم تلك الأُسر يستأجر منازل خارج المخيم».

وتابعت: «الاحتلال متوحش، وتَوَحَّش أكثر عقب عملية طوفان الأقصى، وأصبحت الاقتحامات والانتهاكات متكررة بحق كل ما هو فلسطيني، وكانت قوات الاحتلال تدخل المنازل وتنتهك حرمتها وتكتب على الحائط كرسالة لعناصر المقاومة (ما تنسوا شو عملتوا بـ7 أكتوبر)، وبجانبها علم الاحتلال».

وأضافت، لـ «إضاءات»، أن قوات الاحتلال اقتحمت منزلها وهي بالخارج، حيث كانت في عزاء خالها في طولكرم، الذي استُشهد برصاص قناصة وهو داخل منزله وبسبب حصار قوات الاحتلال لم يتمكن من الوصول للمستشفى، واستُشهد إثر الإصابة: «حتى من شدة الغِل الموجود في نفوس هؤلاء المجرمين المُحتلين، قطعوا صور والدتي الشهيدة، وخلال تواجدي في منزل خالي، الجيران أخبروني أن قوات الاحتلال اقتحمت منزلي وكسرت الأبواب، وأيضًا احتجزت شبابًا داخل منزلي».

لتستكمل رواية فاجعتها: «انصدمت عندما دخلت منزلي ورأيت الخراب والدمار في كل مكان، بس حكيت معلش المهم الشباب والمقاومة بخير. هذا الوضع صعب أي شخص يتعود عليه، وخاصة في الفترة الأخيرة؛ بسبب شدة الوحشية والحقد لدى الاحتلال الذي لا يرحم صغيرًا ولا كبيرًا».

وأوضحت «عبيد»: «نحن من الخضيرة من الداخل المحتل تهجَّرنا على الضفة الغربية، وأهلي عاشوا في يعبد مع الأجداد، وبعدها والدي ووالدتي انتقلا إلى جنين بسبب ظروف عمل والدي»، لافتة إلى أنها عاشت اجتياح الاحتلال عام 2002، واجتياح 2004: «كل الاجتياحات والاقتحامات كِبِرت عليها، ووالدتي استُشهدت في يناير الماضي برصاص الاحتلال، والمخيم معروف بأنه (مقبرة اليهود)، وسوف يظل كذلك حتى نتخلص من آخر جثة جندي إسرائيلي».

واختتمت حديثها مع «إضاءات» قائلة: «هذه هي حياة الفلسطينيين، حتى بأرضهم لم يستطيعوا العيش بسلام. نحن مع المقاومة، ومهما خرَّب ودمَّر الاحتلال، سوف نعود ونُعمِر من أول وجديد، والمهم أن شبابنا بخير، وسوف يظل مخيم جنين شوكة في حلق الاحتلال حتى دحر آخر جندي إسرائيلي».

محمد جمال: سيفشلون مثل كل مرة

«شُفنا الظلم، شُفنا الانتهاكات الإسرائيلية، شُفنا شهداء على الأرض، وشهداء يموتون أمام أعيننا»، قالها محمد جمال، شاب فلسطيني من مدينة جنين، الذي أوضح – عن بداية اقتحام قوات الاحتلال لمدينة جنين ومخيم جنين – أن قوات خاصة إسرائيلية دخلت المخيم؛ لتُنفذ عملية اغتيال، «لكنها فشلت مثل كل مرة»، وعناصر المقاومة كشفت تلك القوات، وقاموا بتبادل إطلاق النار.

وأشار، لـ «إضاءات»، إلى أن القوات الخاصة احتاجت إلى دعم من الجيش والآليات؛ ما أدى إلى دخول أكثر من 1400 جندي إلى جنين، واستمروا في القصف والانتهاكات لمدة 3 أيام متتالية.

وأضاف أن أصعب ما مر عليهم هذه المرة، هو تدنيس قوات الاحتلال للمساجد ودخولها والعربدة بداخلها، موضحًا أن الأهالي كانوا داخل منازلهم بسبب حظر التجوال المفروض عليهم: «شعور بالقهر والحزن؛ لأنهم دنَّسوا أطهر الأماكن المقدسة، لكن عناصر المقاومة تصدَّت لهم بوابل من الرصاص».

وأكد أن الاحتلال لا يُفرِّق بين المدنيين وعناصر المقاومة، فهو يُطلِق النار عشوائيًّا، موضحًا أن اعتداءات الاحتلال ازدادت وحشية وعنصرية منذ عملية طوفان الأقصى؛ حيث يتعامل مع كل الفلسطينيين كأنهم «عناصر للمقاومة».

فرح عرعراوي: داهموا البيت وقطَّعوا صور الشهداء

فرح عرعراوي، من مخيم جنين وشقيقة الشهيد «مجدي عرعراوي»، الذي استُشهد قبل إعلان نتيجته بالثانوية، في يوليو الماضي، برصاص قناص من قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياح المخيم، قالت: «الاقتحام الأخير كان الأصعب والأشرس. قوات الاحتلال فتشت وداهمت كل منازل المخيم بلا استثناء. خراب ودمار في كل مكان، حتى صور الشهداء قاموا بتقطيعها وتكسير محتويات المنازل، وكان لبيت أهلي، بيت الشهيد مجدي، نصيب من تلك الاقتحامات، حيث قامت قوات الاحتلال بتفتيشه والعبث بمحتوياته».

ولفتت إلى أنه في كل اجتياح للمخيم، تسود حالة من التوتر والخوف خاصة بين الأطفال الصغار، مشيرة إلى أن تلك المرة، قام الاحتلال بالتخريب والدمار لمدة 3 أيام متتالية: «3 أيام والبلد مُغلقة، وممنوع التحرك وفرض حظر التجوال. أصبح أي شيء يتحرك مُستَهدَف من قبل قناصة الاحتلال».

من جانبه أكد الدكتور وسام صبيحات، مدير صحة جنين، لـ «إضاءات»، استمرار اجتياح مدينة ومخيم جنين لمدة ثلاثة أيام، وأشار إلى أنه خلال تلك الليالي كان هناك تدمير للبنية التحتية، سواء في المخيم أو المدينة، بالإضافة إلى حِصار المستشفيات ومنع الدخول أو الخروج منها، وإغلاق كل المداخل والطرق المؤدية لها، ومنع سيارات الإسعاف من الحركة وتفتيشها، وتدقيق الهويات: «حتى المرضى الذين يتم نقلهم كانوا يفحصونهم ويأخذون المعلومات والهويات، وكل ذلك أدى إلى تأخير وتعطيل، وبالتالي حدوث مضاعفات لهؤلاء المرضى واستشهاد 3 مواطنين».

ولفت «صبيحات» إلى وجود 4 مستشفيات على خط واحد تقريبًا وبشارع واحد في مدينة جنين، ومنذ السابع من أكتوبر الماضي وحتى اللحظة، في كل اجتياح لمدينة ومخيم جنين؛ يتم إغلاق مداخل هذه المستشفيات؛ وبالتالي تخرج عن الخدمة ويبقى مستشفى «الرازي» لاستقبال المرضى ومساعدة المصابين.

وأشار إلى ارتقاء 12 شهيدًا خلال هذه الفترة، إلى جانب عشرات الإصابات، ومنها حالات حرجة، بالإضافة إلى حملة اعتقالات موسعة: «الاجتياح هذه المرة يختلف عن غيره من حيث الطريقة والهمجية، والتدمير المباشر، وإطلاق الرصاص على كل شيء يتحرك، وتدمير البنية التحتية، واستهداف الكوادر الطبية، واعتقال موظفين إداريين وعاملين في بعض المستشفيات كعاملي النظافة، والمارة أمام المستشفيات وتجريدهم من ملابسهم، فكل تلك الإجراءات جديدة وتضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية».

اقرأ أيضًا: جنين معقلًا للمقاومة: لماذا يستعصي المخيم على الصهاينة؟