نادرًا ما يستخدم القادة الإسرائيليون وصف العصيب للحديث عن حدث خاضته إسرائيل، يحاولون بذلك ألا يمنحوا نصرًا معنويًا للمقاومة الفلسطينية و ألا يخوفوا الداخل الإسرائيلي. لكن من المرات النادرة التي استخدم فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، وصف «اليوم العصيب» كان عام 2002 بعد معركة ضارية مع جنين.

مخيم أنشأته وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم، الأونروا، يقع غرب مدينة جنين، خامس أكبر مدن الضفة الغربية. مساحة المخيم لا تتجاوز كيلو متر واحد، لكن يعيش فيه قرابة 16 ألف لاجئ فلسطيني، ما يجعله رقعة مكتظة سكانيًا. لكن الاكتظاظ ليس عدديًا فحسب، بل نوعيًا أيضًا. فكونهم جميعًا قد أُخرجوا من ديارهم، ولهم أسير أو شهيد عند قوات الاحتلال الإسرائيلي، فقد جعل ذلك لكافة سكان المخيم ثأرًا لدى الاحتلال.

في أبريل/ نيسان 2002 أسفرت المعركة عن استشهاد 52 فلسطينيًا، وتدمير مساكن المخيم. لكنها في الجانب الآخر قتلت 23 جنديًا إسرائيليًا، منهم 13 جنديًا في يوم واحد إثر كمين نُصب لهم. وكان قائد وحدة الكوماندوز الإسرائيلي من بين القتلى في تلك المعركة.تلك الذكرى تجعل إسرائيل على خوف دائم من أن تتحول جنين لعاصمة جديدة للمقاومة، أو تتسرب منها صلابتها في القتال إلى المدن الفلسطينية الأخرى.

يزداد التخوف مع كل عملية جديدة، كما حدث مع قيام ضياء حمارشة بعملية إطلاق نار أسفرت عن مقتل 5 إسرائيليين، وإصابة 6 آخرين. ثم رعد حازم وإطلاق نار جديد في قلب إسرائيل، وكلاهما من مخيم جنين.

حتى الأسرى الذين انتزعوا حريتهم عبر حفر النفق من سجن جلبوع الإسرائيلي في سبتمبر/ أيلول 2021 فقد آوى اثنان منهم إلى مخيم جنين، وتعهد سكان المخيم بتوفير الحماية اللازمة لهما. وأعلنت الإذاعة الإسرائيلية أنها ألقت القبض على أيهم كممجي ومناضل أنفيعات في جنين. ومن المصادفات أن يكون 5 من أصل 6 أسرى فرّوا من السجن شديد الحراسة من جنين.

لا فصائل، المخيم أولًا

وفي عام 2020 شهدت جنين اعتداءات لجيش الاحتلال على مدار 10 أيام متتابعة، دمرت فيها إسرائيل أكثر من 150 مبنى. وتركت الاعتداءات خلفها 50 شهيدًا، و435 عائلة مشردة. لكن أيضًا على الجانب الآخر فقدت إسرائيل قرابة 20 جنديًا على يدي مقاومة المخيّم.

من الأسباب التي تجعل جنين مخيّمًا مميزًا أن فصائله العسكرية تقاتل من دون تمايز فصائلي، فكتائب «فتح» تقف بجوار «الجهاد الإسلامي» ومعهم «حماس» وغيرهم من الفصائل العسكرية. وينتمون جميعًا إلى المخيم صاحب الرمزية الأكبر. وهو ما أعلنته معظم الفصائل في عرضهم العسكري في أغسطس/ آب 2021، حيث أكدّوا أنهم يقاتلون من دون تمايز، لأنهم ينتمون إلى المخيم بكل ما يحمل من عنفوان وتاريخ طويل من النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.

يبدأ ذلك التاريخ منذ قدوم عز الدين القسام إلى فلسطين ودعوته للمقاومة، فقد كانت جبال جنين هي حصنه في مواجهة الجنود البريطانيين عام 1935. وكان استشهاد القسام هو الشرارة التي جعلت جنين منطلق ثورة استمرت 4 سنوات تتخللها معارك مع الجنود البريطانيين والعصابات اليهودية. وشهدت جنين وحدها اغتيال الحاكم البريطاني العسكري لها، وقائد اللواء الشمالي للجيش البريطاني، والمستشار القضائي لحكومة الانتداب البريطاني.

وحين خرج البريطانيون عام 1948، ووقعت النكبة، لم يستطع الإسرائيلون السيطرة على جنين. فقد استطاع جنود عبدالقادر الحسيني إعادة السيطرة على جنين، وإبادة قرابة 1000 جندي إسرائيلي. ظلت المدينة غير محتلة حتى النكسة عام 1967. وبعد أن صارت محتلة رسميًا لم يطل الوقت حتى أصبحت مهد الانتفاضة الأولى، وصار أبناؤها رأس الحربة في كافة العمليات الفدائية ضد المحتل.

المقاومة الشاملة بالرصاص

وحدة الفصائل في جنين تُعد أمرًا محيرًا للجانب الإسرائيلي حتى استغربه، يائير فلاي، قائد لواء جولاني، في حديثه لصحيفة معاريف الإسرائيلية. قائلًا إن معظم المقاومين لا ينتمون لحماس، قد ينتمون للجهاد الإسلامي القوي نسبيًا في المخيم، لكنهم في النهاية ينتمون للمخيم فحسب. وأضاف أنه أثناء المواجهات العسكرية يشاهدون أفراد الكتيبة يضعون شارات مختلفة، كل فرد حسب الفصيل الذي يأتي منه، لكن ذلك لا يؤثر على تناغهم أو عملهم.

حتى حركة الشبيبة، التابعة لفتح، غالبًا ما تكون بياناتها قتالية، ومتماشية مع بيانات باقي الفصائل في جنين. ما يُعد خروجًا عن خطاب فتح التقليدي والذي يأتي متماشيًا مع خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس أبو مازن. لذلك تحرص إسرائيل على مهاجمة المخيم بشكل دوري كي تمنع نمو خلايا مقاومة جديدة.

وطبقًا لتصريحات غالبية القادة الإسرائيلين فإنهم يتفقون على أن جنين تتميز عن غزة، وباقي فلسطين، بامتلاكها أسلحة متطورة نسبيًا. ومع كل اقتحام للمخيم يتمكنون مع إقامة غرفة عمليات مركزية بشكل سريع، كما يمتلكون عيونًا تراقب تحركات الجيش الإسرائيلي لحظة بلحظة ويبلغون بها المسلحين. كما تتبنى مقاومة جنين عمليات إطلاق النار من سيارات متحركة ما يتيح لها تغطية مساحة أكبر من أرض المعركة.

كذلك يمتاز المخيم بأن التنسيق الأمني ضعيف فيه، ولا يبدو المخيم مخترقًا أمنيًا بصورة كبيرة. لذلك لا يعرف الجيش الإسرائيلي تحديدًا عدد الأسلحة في جنين، ولا تستطيع الأجهزة الأمنية الفلسطينية مساعدتهم بهذا الصدد. وتمتاز مدينة جنين، يقطنها 40 ألف فرد، أنهم اعتادوا شراء الأسلحة من مالهم الخاص بدلًا من أن توفرها لهم التنظيمات المسلحة المختلفة.

مدينة غير استهلاكية

فالمدينة لم تتأثر بحالة الاستهلاك الاقتصادي التي تبعت اتفاقية أوسلو، فالأنماط الاقتصادية الاستهلاكية التي حدثت في رام الله أو نابلس أو الخليل والتي لا تتلاءم مع شعب تحت الاحتلال لم تحدث في جنين، بالتالي ظلت المدينة حرةً من تلك الأعباء.

وتُعتبر عملية سيف القدس هي النواة الأولى لهذا التغيير الواضح في ثقافة المخيم المقاتل، فبعد أن كان الجنود الإسرائيليون يطوفون في المخيم شبه آمنين، أصبح دخول واحد منهم للمخيم يحتاج لقوة اقتحام ضخمة، بسبب إطلاق النار المتكرر ضد جنود الاحتلال ودورياته.

ويمكن ردّ العمل المقاوم في المخيم إلى خلية تتبع سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، خلية جميل العموري. وبعد أن اغتاله الاحتلال توقّع أن تهدأ حدة المقاومة، لكن عادت المقاومة أشرس. خصوصًا مع الجيل المولود بعد الانتفاضة الثانية، فقد استطاعوا تحويل غضبهم وإحباطهم من الأوضاع إلى مقاومة تؤرق الاحتلال الإسرائيلي.

خصوصًا أن غالبية سكان المخيم يميلون أكثر إلى تفسير الأسير مروان البرغوثي عن المقاومة الشاملة، وهي المقاومة بالسلاح لا المهادنة الشعبية السلمية. فمقاومو جنين يميلون إلى جعل المحتل يدفع ثمن احتلاله. لهذا فبينما يُرشق الاحتلال بالحجارة في مختلف المدن الفلسطينية، فإنه في جنين يُرشق بالرصاص فور اقتحامه. وكون المخيم يتكون من عائلات تعرف بعضها وظروفهم متشابهة فالرابط الاجتماعي أقوى من الفصائلي فيه فهذا يجعل القضية أحيانًا تصبح ثأرًا شخصيًا بجانب كونها قضية احتلال ووطن.

على جنين ألا تتكرر

لذلك يعتبر الإعلام الإسرائيلي مخيم جنين على رأس أولويات الجيش، وضرورة إفراغ المخيم من حالة المقاومة المستمرة التي تتزايد يومًا بعد الآخر فيه. خوفًا من أن تنتقل عملية المقاومة إلى باقي الضفة الغربية. لذا فالاحتلال يحاول خوض حرب معنوية على المخيم أكثر مما يريد حربًا حقيقية، فلا يريد لحالة جنين أن تنتقل لباقي المدن الفلسطينية.

خصوصًا أن جيل الشباب الحالي أكسبته معركة عام 2002 جرأةً أكبر على تحدي إسرائيل، وشعورًا أعمق بالقدرة على هزيمة إسرائيل في أي معركة رغم اختلال ميزان القوة. كما أن أنهم لا يخضعون للسلطة الفلسطينية الرسمية، بالتالي فهم خارجون عن السيطرة في نظر إسرائيل.

لهذا لا ترسل السلطة الفلسطينية أي أفراد شرطة مسلحين للمخيم، خوفًا من رد الفعل الغاضب. ولا تدخل السلطة الفلسطينية المخيم من أجل محاولة فرض النظام فيه. لهذا لا يتردد سكان المخيم في استضافة أي مقاوم، مهما كان فصيله، ولا يهابون من إجراءات الاحتلال العقابية أيًا كانت. الخطوة التي تمثل إزعاجًا كبيرًا للجانب الإسرائيلي حيث يصبح المخيم قبلة كل المقاومين للاحتماء فيه أمام عيون العدو الإسرائيلي، ما يعتبر تحديًا وإهانة.

لذا يمكن القول إن مخيمًا مساحته لا تتجاوز كيلو متر واحد استطاع أن يكون جنبًا إلى جنب مع قطاع غزة في المقاومة. غير أن المخيم يُعتبر مثالًا أعمق في كونه صغير المساحة، كثيف السكان، متسامٍ فوق الاختلافات الفصائلية، موحدًا خلف لواء القضية الفلسطينية بلا تفاصيل أخرى. ويشعر أبناؤه بأن عليهم مسئولية أخلاقية تجاه كل مقاوم، كما أن عليهم مسئولية أخلاقية بألا ينكسروا أمام الاحتلال، فهم يدركون موقعهم العسكري والمعنوي من النضال الفلسطيني التاريخي.