إن الجيش التركي عبر الحدود السورية ودخل إلى الأراضي التابعة لإدلب يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك طبقا للاتفاق، الذي تم التوصل إليه في أستانا.

بهذا البيان العسكري حسمت رئاسة الأركان العامة للجيش التركي، التكهنات السابقة بشأن تنفيذ أنقرة عملية عسكرية في إدلب بالتوافق مع روسيا وإيران. لكن المثير للدهشة هو عمل المعارضة السورية تحت غطاء جوي من روسيا بجانب الدعم البري من القوات التركية. وبهذا ستكون عملية إدلب ليس فقط تحقيقا لأهداف تركيا من إقامة ما يشبه المنطقة الآمنة ومنع إقامة دولة كردية، وإنما ستكتب الفصل الأخير في نهاية الثورة السورية التي قبلت بروسيا حكمًا لا خصمًا ولتنتقل الآن للعمل تحت مظلتها.


كيف بدأت العملية

سترسم عملية إدلب مرحلة جديدة في حياة السوريين لتكون تتويجًا نهائيًا لروسيا بوصفها المخطط الرئيسي لما سيأتي من تسويات سياسية.

جاءت العملية نتيجة للتفاهم القائم الآن بين الثلاثي المؤثر على الأرض في سوريا والراعي لاتفاق آستانة وهم روسيا وإيران وتركيا، فقد تم الاتفاق بينهم في مايو/آيار الماضي على وضع أربع مناطق تحت خفض التوتر ومن بينها إدلب.

وحددت اتفاقية «مناطق خفض التوتر» أربع مناطق وهي المنطقة الأولى وتضم أجزاء من محافظتي درعا والقنيطرة، أما المنطقة الثانية، تشمل الغوطة الشرقية لدمشق، بينما اختصت المنطقة الثالثة بأجزاء من محافظة حمص وسط سوريا، وأخيرًا المنطقة الرابعة، وتضم محافظة إدلب شمالي البلاد والقريبة من الحدود التركية.

وتهدف مناطق خفض التوتر إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية وخلق الظروف المناسبة لعودة اللاجئين والنازحين، بجانب إنشاء «مناطق أمنية» تتضمن حواجز ومناطق مراقبة الهدنة، مع التزام الجميع بمحاربة تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة».

واستمرت عمليات التفاوض إلى أن توصل الشركاء الثلاثة في منتصف الشهر الماضي على دخول قوات برية تركية لدعم قوات الجيش السوري الحر وفصائل من المعارضة لدخول إدلب وتحريرها من أيدي «هيئة تحرير الشام» التي تعد «جبهة النصرة» المكون الرئيسي فيها، ومن المقرر وفق هذا الاتفاق أن تتولى تركيا تأمين المحافظة من الداخل وتحقيق استدامة وقف إطلاق النار بين مختلف الأطراف، بينما تقوم إيران وروسيا بتأمين المناطق الخارجية للمحافظة.

و أعلن وزير الخارجية التركي «مولود تشاوش أوغلو»، أن هدف تركيا من دخول إدلب يتمثل في «وقف الاشتباكات تماما والتمهيد للمرحلة السياسية في البلاد»، وبالطبع ستكون التفاهمات السياسية تنفيذًا لاتفاقات آستانة التي جاءت بديلا لمنصات واتفاقيات جنيف، فقد نجحت روسيا في فرض الحل عن طريق منصة آستانة وليس جنيف الخاضعة للولايات المتحدة وشركائها.


الأكراد يعجلون بالتفاهم التركي الإيراني

كل ما يشغل أنقرة اليوم هو منع إقامة دولة كردية في شمال سوريا، فكما أطلقت من قبل «عملية درع الفرات» في أغسطس/آب 2016 لطرد قوات سوريا الديمقراطية من المناطق الحدودية وتطهير مدن جرابلس وإعزاز والباب ومنبج وغيرها من أي قوات كردية، جاءت عملية إدلب لهذا الغرض.

وقد صرّح الرئيس التركي حينما أعلن عن إطلاق عملية إدلب بأن الجيش التركي إذا لم يتحرك فستسقط القنابل على المدن التركية، وذلك في إشارة إلى نشوء دولة كردية في الشمال السوري، بجانب رغبته في قطع الطريق على واشنطن وشركائها الكرد نحو تهجير أهالي إدلب بحجة محاربة جبهة النصرة كما جرى في الحسكة وغيرها، ومن ثم ضم إدلب لمناطق الأكراد وتكوين دولة تصل إلى البحر المتوسط.

فقد سبق أن أوقفت الولايات المتحدة عملية درع الفرات من دخول مدن منبج وعفرين وتل رفعت التي تسيطر عليها قوات كردية، وخاصة «وحدات حماية الشعب الكردية» و«قوات سورية الديمقراطية»، والآن تريد أنقرة الدخول إلى هذه المناطق عن طريق إدلب، وسيكون ذلك بالتعاون مع روسيا وإيران، في حدث يجري لأول مرة في سوريا منذ بداية الثورة.

وجاءت عملية إدلب مباشرة بعد إجراء إقليم كردستان العراق نهاية الشهر الماضي استفتاء الانفصال عن بغداد وكما كان متوقعًا، فقد صوّت 92% من الأكراد لصالح الانفصال بينما رفضت إيران وتركيا الاستفتاء. على إثر ذلك، قام الرئيس التركي بزيارة إلى طهران يوم 4 أكتوبر/تشرين أول الجاري، والتقى نظيره الإيراني حسن روحاني وكذلك مرشد الثورة علي خامنئي، وكان قد سبقه إلى طهران، رئيس أركان الجيش التركي خلوصي آكار؛ كل ذلك لبحث أزمة كردستان بجانب تنسيق مواقفهما في سوريا.

ظهرت آثار ذلك التفاهم سريعًا في عملية إدلب، فقد جاءت بمثابة اعتراف روسي وإيراني بمصالح تركيا في شمال سوريا وإعطائها ما طالبت به دائما، وهو إقامة مناطق آمنة في إدلب لعودة النازحين واللاجئين من تركيا إلى المحافظة التي يخضع معظمها لجبهة النصرة، وبذلك تكون إيران أيضا قد قدمت تنازلا كبيرا لغريمتها في سوريا.

بنفس الصدد، يصب التوافق الإيراني التركي في صالح موسكو، فمن اليوم، لن يكون هناك دعم تركي لأي عمل عسكري ضد روسيا من قبل فصائل المعارضة، بل يتم الآن تشكيل تحالف ثلاثي لمواجهة الخطط الأمريكية في سوريا، وهي الخطط التي تراهن على حضور الأكراد.


أين تقف المعارضة بعد خروج السعودية وقطر؟

أضحى من الواضح اليوم أن جميع الأطراف في سوريا اليوم تبحث عن تسوية مرضية للخروج بأقل الخسائر، كما يظهر في زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز إلى روسيا بعدما كان الدور الروسي في سوريا محط نقد المملكة، وقد احتل شراء السلاح الروسي والتفاهم مع روسيا على أسعار النفط في الأولوية موقع الأزمة السورية، هذا إلى جانب إعلان الرياض أنها مع الحل السياسي للأزمة السورية.

مثلت الزيارة إقرارًا سعوديًا بنهاية دورها في سوريا وتسليم الأمر لروسيا لوضع النهاية وتوزيع الأدوار، فشريكتها السابقة تركيا ذهبت الآن إلى إيران مجددًا، كما تقف في صف قطر وتدعمها بقوة في وجه المقاطعة الخليجية، بل إن من بين المطالب الموجهة لقطر من قبل التحالف الذي تقوده السعودية، إغلاق القاعدة التركية الموجودة في الدوحة وإنهاء أي وجود تركي عسكري على الأراضي القطرية.

أما قطر، فقد أعادت رسم سياسها وتحديد مواقعها بحسب المقاطعة الخليجية قبل أي شيء آخر، مما أدى إلى تحجيم دورها الخارجي وخاصة في سوريا. كذلك أسهم دعم إيران للدوحة في تحييد موقفها في سوريا، فهي لن تستطيع العمل ضد المصالح الإيرانية، كما أن حليفتها الأهم، تركيا، ترى اليوم ضرورة التقارب مع إيران.


إدلب الفصل الأخير في الثورة السورية

أسهم إعلان كرستان العراق إقامة دولة لهم في ترتيب إيران وتركيا لمصالحهما في سوريا وتنحية خلافاتهما جانبا.

ستكتب عملية إدلب أحد الفصول الأخيرة للثورة السورية بعد سقوط حلب التي تخلت عنها تركيا بالتفاهم مع روسيا عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016. فالمعارضة التي كانت تقصف بالأمس من الطيران الروسي، ستعمل اليوم تحت مظلته وبالتعاون مع إيران أيضًا.

في المقابل، فقد تؤجل تركيا مواجهتها مع «هيئة تحرير الشام» إلى حين تصل إلى مناطق سيطرة الأكراد في عفرين، وبعد ذلك تتجه للهيئة التي لن تمثل معضلة لها. فقد وردت تقارير عن وجود تفاهم بين الهيئة وتركيا، حيث سمحت الهيئة لقوات تركية بالدخول إلى إدلب واستطلاع مناطق الأكراد، وبالتالي فقد تصل إلى تفاهم مع الهيئة بحل نفسها وتسريح مقاتليها في مقابل عدم القتال.

وستكون سيطرة فصائل المعارضة على إدلب التي يقطنها 2.4 مليون نسمة، إلى جانب 1.3 مليون نازح، أفضل من بقائها في أيدي «هيئة تحرير الشام»؛ الأمر الذي سيعطي المبرر لتوجيه ضربات قوية ضد المحافظة من قبل قوات النظام وروسيا وتهجير أهالي المنطقة بحجة قتال «جبهة النصرة».