إنها المرة الأولى التي أنجح فيها في مواصلة القراءة في المواصلات، لا أعلم إن كان هذا تأثرًا بعنوان الكتاب الذي كنتُ أقرأه في ذلك الوقت وهو «كتاب المواصلات» لعُمر طاهر، أم أنها صدفة بحتة أو محاولة لإضفاء بهجة على الوقت المسروق مني في كل يوم ذهابًا وإيابًا من الجامعة. ولم أتصور من قبل أن التجربة ستكون ممتعة إلى هذا الحد، شعرت في تلك الأثناء أنّ أجمل شيء قد يحدث لمفتونة بالقراءة مثلي هو ألا أرفع عيني عن كتابي إلا عند وصولي إلى جهتي المرتقبة، وأن أحمل معي كتابي المفضل إلى كل مكان طوال اليوم مفضلة العزلة مع كتاب عن مرافقة العالم بأكمله، فكأنني أواجه العالم بصحبة كاتبي المفضل الذي يُضفي على عالمي لمسات من الحكمة واللطف ودعابات ساخرة تقتحم صمت المكان من حين إلى آخر، وكأننا نسير معًا مخترقين الصفوف غير عابئين بالزمان ولا المكان، إنها الأمنية الأقرب إلى قلبي ألا وهي أن يصبح لديّ الفرصة أن أكون صديقة كل كُتّابي المفضلين الذين قرأت لهم ذات يوم.

ستكون الحياة أخف وأهون على القلب إذا تمكن الإنسان من أن يصبح الجار العزيز للكاتبة رضوى عاشور –رحمها الله- في مشهد أتخيله على الدوام، أجلس معها في شرفة منزلها التي تحفها الأشجار العالية من كل جانب، في ربيع مشرق، ونحتسي مشروبًا دافئًا وتأخذنا الأحاديث من حوار إلى آخر دون كلل أو ملل، تحكي لي عن أشياء حدثت معها بأسلوبها الخاص وما كان يدور في عقلها حينما خرجت إلينا بأعظم الكتب والروايات لتصبح السِير الذاتية التي نقرأها على الدوام واقعًا مسموعًا من أفواه أصحابها، أو أن أكون طالبة في عالم موازٍ لدى الطبيب والكاتب الراحل أحمد خالد توفيق فيشاركني الخبرة والعلم في كأس واحدة، ونقضي أوقاتًا ثمينة لعلها تطول ولا تنتهي أبدًا، فمتعة قراءة كتبه لا يضاهيها شيء. فكيف إذن كانوا يشعرون من سنحت لهم الفرصة لمقابلة ذلك الكاتب والأب الروحي لكثير من الأجيال؟


الكاتب هو المؤثر الأول في عقول قرائه

نحن لسنا الكتاب الذي نقرأه الآن ولا الذي سوف نقرأه غدًا، وإنما يتحدث لسان عقلنا مُستندًا إلى مئات من الأفكار التي قرأ عنها يومًا ما في صحيفة أو كتاب دون أن يدري من أي مكان بالضبط قد حصل عليها أو صادفها، لذلك في المستقبل ستجد أنه ليس من الصدفة أبدًا أن تجد نفسك قد أصبحت تفكر بنفس طريقة الكاتب الذي كُنت تفضل قراءة كتاباته على الدوام. فنحن نتاج قراءاتنا؛ لأن الكتب شديدة التأثير في أصحابها، كأنها صديق يتحدث معك وينقل إليك خبرات وأفكارًا قد تكون قادمة من زمن بعيد، وقد تصِف لك أحداثًا لم تعايشها أو تختبرها أبدًا، إنها تختصر علينا الطريق في كثير من الأحيان عندما تنقل إلينا نِتاج تجربة كان من الممكن إضاعة الكثير من الوقت في سبيل الوصول إلى نتائجها.


اختر أصدقاءك كما تختار كتابك

كما أن أصدقاء السوء فئة من البشر يجب على المرء أن يتخذها في الحسبان ويتجنبها قدر الإمكان، هناك كُتّاب يجب عليك أن تبتعد عن أشباه الكتابات التي يتخذونها وسيلة للتعبير عن أنفسهم، ولكنها لا ترقى للنشر أو لأن تكون وسيلة للتثقيف والتأثير في أفكار القارئ الشاب أو غيره من الأجيال الأخرى، وما أكثرها اليوم على رفوف المكتبات، فكثيرًا ما يخدعك جمال الغلاف وجاذبية عنوان كتابه، ولكن في نهاية جلستك الافتراضية مع هذا الكاتب -من خلال كتابه- ستكتشف أنك أضعت كثيرًا من الوقت كان من الممكن الاستفادة منه في قراءة كتاب آخر.

«لو كان كافكا يملك هاتفًا نقالًا»، يونس بن عمارة

تَغنّى الكُتّاب دائمًا واعترفوا بالفضل والامتنان تجاه كِتابهم الأول ومُعلمهم الذي أخذ بأيديهم نحو عالم القراءة، ذلك الكاتب الذي توقع أن يقع كتابه في يد قارئ يشق أولى خطواته نحو القراءة، فأعد كل ما يحتاجه ذلك القارئ ليمسك بيده ويرشده إلى الطريق نحو مزيد من العلم والمعرفة، وكتب أخرى سيُقبل على قراءتها مستقبلًا إذا أفلحت محاولته الأولى في القراءة، وقد كان فلم ينس الكُتّاب ذلك الفضل حتى وإن لم يقصدوا التعبير عنه في بعض الأحيان، فقد وُجِدت تشابهات في الأسلوب وطرق تناول الموضوعات أثناء الكتابة، وعلى الأرجح اُعتبِر ذلك تأثرًا بالأب الروحي لكل واحد منا الذي يستحضره عند الكتابة. وها هم يستمرون في نشر كتاباتهم التي تتكاثر وكأنها أحفاد للكتب الأم التي قرأها كُتّابها حينما كانوا في طور النمو العقلي والفكري.


المعرفة ميراث الكاتب

تمر بالكُتّاب لحظات سعيدة منها قراءتهم وتعرفهم على الكتب التي تأثروا بها لأول مرة، تأثرهم بها وانبهارهم -الصدمة الفكرية اللذيذةتُشِكل فورًا -كصب الرصاص في الماء
الصيغة الأولية الأدبية لهم.

نتحدث اليوم ونكتب بألسنة كُتاب أفنوا أوقاتهم في كتابة كتاب لم يكن يعلم أحدهم شدة تأثيره في من سيقرأه من بعده، لم يكن ليشعر الإنسان بحاجته المُلحة نحو الكتابة إلا لأن الأفكار التي كتبها كانت قوية بما يكفي لتدفع كل شيء يقف أمامها لتخرج وتنير العالم على هيئة جمل وحروف، لتكمل حياتها ككائن حي بالفعل يتكاثر ولا يُستحدث من العدم، يتنقل بين عقول البشر ولا يتوقف عند أحدهم أبدًا، صارخًا في عقول الجميع بأن المعرفة لم تخلق يومًا لتكون حبيسة في عقل أحدهم.

من الممتع أن تقرأ لأحد لا تعرف عنه شيئًا فيكون الإبداع كبيرًا.. إنه يربي فيك الأمل أن هناك بضعة كتب جيدة في هذا العالم – السيئ غالبًا- أو يقول البشر عنه إنه كذلك.
«لو كان كافكا يملك هاتفًا نقالًا»، يونس بن عمارة

إن قراءة الكتب قدر ورسائل مهداة وصدف جيدة تحدث إليك حينما تحتاجها، فأنا مثلًا إن كنت أحتاج إلى كتاب يجيب عن سؤال يدور في عقلي فأقرأ كتابًا يجيب عن ذلك السؤال فإنني لا أعتبرها صدفة وإنما قدر وميعاد مُرتب من زمن، ولكن لا أعرف عن مجريات هذا الترتيب شيئًا. والأيام التي قضيتها بصحبة كتاب ظلت محفورة في الذاكرة على أنها أيام حلوة سعيدة لم يشبها الألم أو يُبقِ العالم عليها أثره السيئ، تمحو الكتب ما قبلها لتخرجك بعدها إنسانًا جديدًا يملك حكمة ثمينة أو ربما أكثر معرفة في مجالٍ ما، ولكنك بالتأكيد ستكون إنسانًا أفضل.

وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزّمانِ كِتابُ.

الكُتاب والشعراء في كل زمان ومكان دعونا للقراءة واتخاذ الكتاب رفيقًا وصديقًا دون البشر في بعض الأحيان، فالحياة ستكون رحلة مثمرة إذا كان الرفيق الأقرب كتابًا، وقد صدقوا في دعواهم فعلًا وعملًا حينما كانوا رُسلًا في دعوتهم يقرأون ويحللون وينشرون معرفتهم على صفحات كتب تنشر المزيد والمزيد دون توقف، فالشكر واجب إلزامي لكل كاتب ساهم في جعل الوقت أجمل وأكثر بهجة، وقتل سأمًا مُحتملاً قبل حدوثه، كل الشكر على ما قدمتموه، والشكر واجب في المقدمة للكاتب عمر طاهر الذي جعل رحلة كل يوم متعة جديدة لم تنته رسالتها الأجمل حتى وإن انتهى الكتاب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.